Print
سمير الزبن

رسائل إلى صديقي الدمشقي (2)

20 أبريل 2022
يوميات

 

الرسالة الرابعة

(المنفى)

عزيزي

أتمنى أن تكون في أفضل حال، صمدت الهدنة، وهي تدخل أسبوعها الثاني، البلد تُفاجئنا كل يوم، ويبدو أنها باتت عصيّة على التحليل والتوقع أو أننا لم نعد نستطيع ذلك، أو بالأصح، أنا لم أعد أستطيع متابعة تحولاتها التي تجري كل يوم وفي كل مكان. فتلك البلد التي غادرتها لم تعد موجودة على ما أعتقد.

هل تصدق يا صاحبي أني أحسدك على بقائك في دمشق، رغم مخاطر ومصاعب العيش هناك، فأنت أقل غربة مني، الحرب تخيفنا، لكنها لا تجعلنا غرباء، الحرب تهدّد حياتنا، وتشرّدنا من بيوتنا. الحرب أقذر اختراع بشري، رغم قذارتها من الممكن التكيّف معها، والتسليم بأن قدرنا ليس بيدنا، فليأت مع أي قذيفة، حيث يتلاعب الحظ مع القدر بمصائرنا. لكن للمنافي مرارة من طعم آخر، إنه "انشلاع" كامل للبشر، حيث أنت معلّق في الفراغ، تتلاعب بك أقل ريح ممكنة وأي عابر سبيل، وتصبح خفيفًا بلا أثر على أي شيء، حتى على عائلتك، فأنت فائض عن الحاجة، وجودك لا معنى له، لا للبلد الذي أنت فيه، ولا للعائلة التي هي عائلتك، أنت فائض عن الحاجة، مجرد شيء مركون جانبًا، لدرجة ممكن رميك في سلة القمامة دون فرز ـ هنا يفرزون القمامة من أجل تدويرها ـ دون ندم ودون أن ينتبه أحد لاختفائك، فأنت لا تلزم زوجتك ولا تلزم أولادك ولا تلزم أحدًا، هنا تصبح الدولة رب العائلة، وأنت تصبح عاطلًا عن العمل وعبئًا على البلد وعلى عائلتك.

لم أكن أعرف يا صاحبي أن المنافي بقسوة الحرب إن لم تكن أقسى، لو عرفت لما غادرت، أو هي تكمل الانكسارات التي تسببها الحرب. الناجون من الحرب الذين وصلوا إلى هنا يواصلون أفرادًا وعائلات تمزقاتهم وتدمير ما تبقى من روابط لم تدمرها الحرب هناك، وما لم تفعله الحرب بهم هناك، تفعله المنافي بهم هنا. إنه الانتقال من ألم إلى ألم ومن دمار إلى دمار. كما تعرف، لم تكن طريقنا إلى المنافي مفروشة بالورود. لقد أفقدتنا الحرب توازننا، وتحولنا في المنافي إلى بهلوانات بشكل بشر. لم نعد نعرف من نحن، ومن الآخرين بالنسبة لنا. كأننا ننتقم من أنفسنا وأحبتنا على جرائم لم يرتكبوها. المنافي قاسية جدًا يا صاحبي، لا أحد ينجو منها، الكل يخرج منها معطوبًا، وهو ما يضاف إلى الكثير من الأشياء المعطوبة الكثيرة التي جئنا بها معنا.

صحيح أننا نجونا من الحرب، لكن بثمن يعادل الموت تمامًا.

لن أزيد همومك يا صاحبي بتحميلك همومي، ما عندك يكفيك ويفيض.

أتمنى لك ليلة سعيدة وهدنة طويلة.

بكل محبة
سمير

نيبرو ـ السويد 7/3/2016

*****

الرسالة الخامسة

(من أنا؟ من أنت؟)

عزيزي

أتمنى أن تكون في أفضل حال رغم كل الظروف الصعبة المحيطة بك، والتمني هو كل ما نملك عندما نجد أنفسنا عاجزين عن القيام بأي فعل. قلبي معك طوال الوقت، فأنا أعرف أن طيف المخاطر حولك كبير، رغم الهدنة التي حقنت بعض الدماء، والتي يبدو أنها اقتربت من نهايتها، لتعود دورة الموت لتفعل فعلها الجنوني.

أتصدق يا صاحبي، أني اليوم، أفتقد القدرة على شرح نفسي، ولا أستطيع الإجابة على سؤال من أنا؟ ولا أعرف إذا كنت تعاني من نفس الاختلال في النظر إلى صورتك وتعريفك لنفسك أيضًا، أو تواجه ذات السؤال.

لا أعرف ماذا أقول لك يا صاحبي، لقد كان حجم التغير في حياتي/ حياتنا مهولًا في السنوات القليلة الماضية، حجمه يفوق كل التغيرات التي شهدتها طوال حياتي السابقة، وهي أحداث لم تكن من طبيعة كمية تراكمية، بل من طبيعة نوعية تحولية عاصفة. لدرجة من الصعب على أي منا القول أنه هو الشخص ذاته الذي كانه قبل هذه السنوات الزلزالية في حياتنا. فبعد كل الهزات العنيفة التي تعرضنا لها، ليس من الغريب أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ أو من أنا؟ أعتقد أنني اليوم أجهل نفسي أكثر من أي وقت مضى، إذا كانت شبكة علاقاتك التي كونتها على مدى حياتك تساعدك بتعريف نفسك وأي تاريخ شخصي كوَّنك وصنع منك الشخص الذي أصبحته. فإنك في اللحظات الانقلابية، تطرح الأسئلة نفسها عليك بطريقة أكثر حدة وقسوة.

سؤال: من أنت؟ وأنت موجود في شبكة علاقاتك الطبيعية، ليس ذاته عندما تكون مقتلعًا وتعيش في مجتمع غريب كنكرة لا تاريخ شخصي لها، لا معالم مهنية لها، لا وسط اجتماعي لها، لا شبكة علاقات تجد نفسك فيها لتحمل بعضًا من متاعبك عنك. هنا يتوجب عليك أن تعيد تعريف نفسك واكتشافها، ولأننا لسنا حياديين تجاه أنفسنا، فإن أسئلة الهوية، أسئلة كاوية، تكوينا مثلما كوتنا الظروف القاهرة التي مررنا بها في السنوات الخمس الأخيرة، ولكنها تأتينا عندما لا نكون نملك أي جواب عليها.

في هذه الحالة، هل من الغريب أن أجيب على سؤال من أنت؟ بأني لا شيء سوى قبض ريح؟

تحياتي يا صاحبي.

نيبرو ـ السويد 14/3/2016

سمير

*****

الرسالة السادسة

(ترميم الحلم)

عزيزي

آسف يا صديقي، لقد تأخرت عليك، أكذب، إن قلت أن ذلك كان بسبب انشغالي، على العكس، لقد كان ذلك بسبب الفراغ الذي أعاني منه طوال الوقت.

لا أعرف يا صاحبي، ما الذي أستطيع فعله عندما أشعر أن الوقت أصبح عبئًا عليّ؟! لا أعرف كيف أوظفه ولا كيف أستفيد منه، أشعر بالحاجة إلى التخلص منه، رميه بعيدًا، هنا يتحول الوقت إلى تعذيب حقيقي، مع معرفتي أني عندما أرميه، أتخلص من عمري ذاته.

فجأة، من أين وكيف يداهمني لا معنى للحياة، لا أدري! أمرّن نفسي طويلًا على اختراع الأمل والنظر إلى جماليات الحياة، والتعامل مع نصف كأس الحياة المليء لا نصفه الفارغ! كل ذلك بلا جدوى، ولا أدري أي قوة مدمرة تداهمني عندما يجتاحني هذا الشعور، لا معنى لأي شيء، للقضايا الكبرى، لصناعة الأمل، لتغيير الحياة، لتكريس الطموح واقعًا، للحياة ذاتها... إلخ.. من القضايا التي نعيد بناء حياتنا على أساس أهميتها لنا وللآخرين. القضايا التي نعتقد أنها تصنع حياتنا، والتي نضيّع حياتنا بالسعي إلى تحقيقها. كل ذلك يبدو فجأة نافلًا، بلا معنى، عندها تختل الحياة، يختل تفكيري، وأكتشف المزيد عن هشاشتي ككائن بشري في غاية الضعف.

كان الأصدقاء في دمشق المحاصرة بالاستبداد قادرين على حملي بعيدًا عن هذا الشعور المدمر عندما يصيبني، كانوا أجمل ما في تجربتي هناك، أصدقاء يحملونك على جناح الحلم، يسندون أملك المتعب، باحتضانك، وبكأس الشراب، وبكاء مرّ، على حياة لا تصلح للحيوانات. كانت هذه اللحظات تجددني، تعيدني مرة أخرى إلى صناعة الأمل، لا بد من مستقبل أفضل، ولا بد من الخروج من مزرعة الحيوان التي اعتقلنا داخلها، بفضل استبداد مديد.

من مفارقات حياتي هذه الأيام يا صاحبي، أن أصدقائي موجودون في كل مكان في العالم، إلا في المكان الذي أعيش. هنا، على هذه الرقعة من الأرض لا صديق يسند تعبي من يأس يجتاحني.

أشتاق إليك يا صاحبي، وأشتاق إلى ليال طويلة، خلقنا فيها الأمل ونحن نذرع شوارع دمشق ليلًا، في حديث من القلب إلى القلب، في ظل قمر نشعر أنه لنا وحدنا، نضحك من حياة ساخرة، نبكي من حياة بائسة، دراما الأمل والموت في ليل دمشقي شفاف، أنا كما أنا، وأنت كما أنت، شخصان حقيقيان، يتهامسان عن حلم حقيقي في بلد يلفه الظلام والقهر لكنه لم يموت.

أحيانا، أسأل نفسي، هل أحنّ إلى القهر لأعود وأكتشف جماليات المفارقة ومرارات القهر وبناء الأمل في الظلام؟! بالتأكيد لا.

أحنّ وأشتاق إليك، لأنك الحلم، ولأنك صانع الأمل، ولأنك نصف الكأس المليء في حياتي الفارغة.

دمت بخير يا صديقي لأني أحتاجك لترميم حلمي.

صديقك
سمير

نيبرو ـ السويد 29/3/2016

*****

الرسالة السابعة

(سورية الأعمال الكاملة للحزن)

كيف أنت يا صاحبي

أرعبني جوابك عندما سألتك، كيف قدمك التي خانتك يا صديقي؟ قلت: "صحيح أنها انكسرت، لكنها كانت أقل الخيانات تدميرًا، وكانت آخر ما خانني، وستتوب قريبًا عن خيانتها" رغم معرفتي أنك تتحدث عن خيانات رمزية، وأعرف يا صاحبي أنه في كثير من الأحيان الخيانات الرمزية أقسى وأشد مرارة، لكن لكلماتك وقع القذائف.

أعرف أنك موجوع بسبب رجلك، وموجوع بسبب روحك، وموجوع من أجل من حطمتهم الحرب، وحولتهم إلى قصص حزينة. لا أحد يريد أن يسمعها، يقبلون بالتعامل معها كأرقام بلا ملامح، لأنهم يخافون من ملامح القهر التي ترسمها الوحشية والظلم على وجوه الضحايا، لا أحد يريد سماع أنين البشر المعمم الذي تعيشه يا صاحبي.

أشعر بك، وأعرف أن العالم يضيق عليك، وكم أخاف عليك من الحزن، لأني أعرف أن قلبك المعطوب بعمل جراحي لن يحتمل أكثر. تعبت يا صاحبي، أعرف ذلك، وأسمع أنينك كل ليلة، هنا في هذا المربع الذي أنام فيه يصلني ذلك النشيج الذي يذبحني من الوريد إلى الوريد. أفهم ما تقول: "الموت قد يكون الحل الأمثل لملايين القصص الحزينة، مخرجًا مثاليًا، مخرجًا يتمناه الكثير من الضحايا. سورية اليوم يا صديقي، هي الأعمال الكاملة للحزن". تمزقني رجة صوتك. كما مزقتني قبل أيام رنة صوت صديقي المعتقل، عندما قال لي: "هناك أشياء لا أستطيع أن أقولها يا صديقي حتى لا يعتبر الآخرون أني فقدت عقلي. خفت أن يتحول الموت إلى شيء عادي، أن يقولوا لي أن أمك ماتت، فأقول عادي. العيش مع الموت، يحوله إلى شيء عادي. تنام محتضنًا أحدهم تصحو صباحًا لتجده ميتًا بين يديك. توقظ أحدهم من أجل الإفطار، تجده ميتًا، تنادي على شخص لتسأله شيئًا، تجده ميتًا، الموت في كل مكان في السجن. أنت تعرف يا صاحبي أنني بحكم عملي الطبي، قد شاهدت أشكالًا مختلفة من الموت، بالقصف بحادث سيارة، بالطعن... إلخ. أما الموت عطشًا، فلم أره سوى في السجن. صباح العيد في فرع التحقيق العسكري، مات معنا ثلاثة عشر شخصًا من العطش ـ نعم سمير من العطش ـ هناك حصتك من الماء كأس ماء واحدة، عليك أن تشرب منه وتغتسل منه وتتشطف منه... إلخ دكتور النسائية ... حمارنة أنت تعرفه، لقد مات بين يدي من العطش.. خرجت من السجن وعندي عقدة من الماء. اليوم، إذا نظف أحدهم أسنانه والماء مفتوحة أصرخ عليه". كنت مذهولًا من الرواية ومن وقع صوت صديقي المتألم، ولمت نفسي أني فتحت جراحه..

أعتقد أنني لست بحاجة لأكمل، إنه تفصيل صغير حزين في درب الجلجلة السوري الطويل.

آسف يا صاحبي لفتح الجرح.

سأحاول المرة القادمة أن أكتب لك شيئًا ساخرًا حتى نكسر نهر الحزن.

ابق بخير من أجلي.

نيبرو ـ السويد 6/4/2016

سمير