خمسة وعشرون عامًا ونحن نشاهد هذا الوجه خلف الشاشة، وفي الفعاليات، الثقافية منها والوطنية والاجتماعية. خمسة وعشرون عامًا ونحن لا نعرف أن تلك التغطية المستمرة لم تكن سوى شباكٍ ناعمةٍ لتوقع شعبًا كاملًا في الحب، ودون أن ندرك كم ستكون مؤلمة لحظة اغتيالها.
اعتدنا أن نتابع التغطيات الاخبارية المباشرة باهتمام بالغ واختزلنا مشاعرنا بالصمت، كوننا مطمئنين بأن هذا الوجه لن يخذلنا ولن يكذب علينا أو يخوننا، فحيث الحب تكون الطمأنينة، كنا نجلس في أماكننا خلف الشاشة ونشاهدها في الميدان المشتعل على الدوام، حيّة على الدوام، جميلة على الدوام، بدون أن نفكر ولو للحظة واحدة بالخوف الذي تشعر فيه ولا بالخطر الذي يحيطها، ولا بحياتها التي تقف على حافة نهايتها في كل لحظة.
كنا نحب وجودها بيننا فحسب، نستأنس بملامحها الهادئة وصوتها الموزون وابتسامتها اللطيفة، إلى أن جاءت الرصاصة، مباشرة خلال التغطية فهوت قلوبنا، صرخنا بصوت واحد "انهضي يا شيرين"، لكنها في هذه المرة لم تستمر في التغطية ولم تنهض ولم تطمئن قلوبنا المفجوعة، وكان الفراق الصارخ الصادم والمباغت، فأوقعنا عن نورنا بالحب إلى غلياننا فيه.
صباح الحادي عشر من أيار من العام الثاني والعشرين في القرن الحالي، صرخ الفلسطينيون صرخة واحدة "يا الله".
مكالمات فائتة هزت صمت الهواتف كلها، حملات إيقاظ جماعية لمن لم يستيقظوا بعد، خبر عاجل وقع وقوع الصاعقة على قلوب الفلسطينيين التي أصبحت فجأة قلبًا مكلومًا واحدًا يمزّق نحيبه عنان السماء، تمامًا كما تنطفئ الشمس، تمامًا كما يغادر الكوكب مداره وتمامًا كما تؤلم الحقيقة، على الهواء مباشرة اغتيلت شيرين.
لا لأنها مضت غدرًا، فنحن شعب الله المغدور.
لا لأنها تختلف عن أي شهيد فلسطيني، فنحن الشعب الذي يشيع كل شهيد على أنه الأجمل بين الشهداء.
ولا لأن اغتيالها هو مصاب فلسطين الأول أو سيكون الأخير، بل هو الأشد ألمًا كونها ابنة كل بيت وشارع ومدينة، هو الأشد قسوة كون غيابها يتّم كل أطفال فلسطين وثكل كل أمهاتها، ومع هذا أبت أن تفارق إلا بأن تجمع الوطن كله تحت راية الحب.
الدموع تسيل في الحزن لكنها فاضت في جنازتها.
الأكتاف تنحني في الحزن لكنها ارتفعت تحت نعشها.
الغضب يصمت في الحزن لكنه زأر كأسد جريح في الكنيسة.
هذه مشاعر لا يحكمها إلا الحب، لا يرعاها إلا الحب ولا يترجمها سواه.
الجنازة التي لم يعلن عنها بمكبرات الصوت، ولم تصدح الحناجر للدعوة إليها، كانت الأضخم والأطول في تاريخ فلسطين، ثلاثة أيام متوالية من السير المتواصل والنعش محمول على الأكتاف، ثلاثة أيام لم يتعب فيها الحامل ولا المحمول. من مدينة إلى مدينة ومن شارع إلى شارع، ومن حاجز إلى حاجز إلى أن وصل أخيرًا إلى القدس لينضم المشيعون إلى المشيعين وليحمل النعش عاليًا على أكتاف كل الفلسطينيين الذين قاوموا جسدًا واحدًا حتى لا يسقط.
حملة النعش الذين تدافعوا ليحملوه واستبسلوا لحمايته بأجسادهم وأعناقهم، كانوا قلبًا واحدًا وعهدًا واحدًا مبرمًا للحب، الذي رفع النعش بأكتافهم، ودفع المصلين للصلاة جماعة كل على دينه وعلى شرف الحب الذي جمعتهم فيه الشهيدة والشاهدة، ليصدحوا بصوت واحد "الله أكبر، وأبانا الذي في السموات".
منذ ذلك الصباح الحزين وما من صفحة أو لسان أو نص يخلو من اسم شيرين أبو عاقلة، ما من بيت ولا من مدرسة ولا من كنيسة أو جامع سوف يخلو من ذكراها ومن صورتها ومن صوتها، وما من كلام سوف يقال بصورة أبهى مما قاله في رحيلها الحب؛
حلّقي
فأنت حرة الآن
لك الفضاء الواسع
وغرفة في كل قلب.