Print
دارين حوماني

الاختفاء

21 يوليه 2022
قص



اتفقنا على أن نلتقي بعد ثلاثين عامًا على تخرّجنا من الجامعة، أنا ورفاق ذلك الاختصاص الجامعي الذي أبعدني عن الحياة سنوات ضوئية كثيرة. كان أحد أصدقائي قد فتّش عني عبر الفيسبوك وهاتفني قائلًا لي إنه يتذكر أنني كنت من هواة التصوير وأنني كنتُ أحمل معي كاميرا دائمًا إلى الجامعة، وكان ذلك قبل انتشار الهواتف النقّالة. أرادني أن أرسل له كل ما بحوزتي من صور عبر الواتساب. الكاميرا التي كنت أحملها كانت من تلك التي نضع فيها أفلامًا صغيرة من 24 صورة أو 36 صورة غير فورية، وبحيث لا يمكنك تعديل الصور والتلاعب بها، حتى أن الكثير من الصور كانت "تحترق" بمفهومنا في ذلك الزمن. حسنًا فعل صديقي القديم، نبشتُ بين الصور القديمة، إذ بي أعثر على وجهي وعلى وجوه كثيرة تتسرّب من بين الصور، كأنها مواد أولية رقيقة لكائنات تحولت عبر الزمن إلى مواد خشنة، منها لأحد الأصدقاء الذين أحببتهم بشدة، كانت له يد حنونة، أذكر أنه كلما مشينا على الطريق كان يضع يده لثوانٍ على ظهري، وأنا الفاقدة لأبويّ كنتُ أشعر أن يده تبقى على ظهري حتى بعد أن أعود إلى البيت. لا بل أقسم لكم أن أصابع يده بقيت على ظهري حتى بعد أن تزوجت وأنجبت ولدي الأول. بعد ولدي الأول تناوبت على جسدي أصابع كثيرة، أصابع سوداء لم أعد أُحسن اقتلاعها، أحاول فعلًا كل يوم وأنا أستحم أن أقتلع أصابع زوجي وأصابع الآخرين، لقد أقسم لي زوجي، وهذا ما فعله الآخرون، أنه سيحوّل حياتي إلى جحيم إذا ابتعدتُ عنه. الجحيم، هذا هو المسافة بين الحياة والموت، يذّكرني بكتب الله المقدسة، هو أيضًا يعدني بالجحيم إذا ابتعدت عنه.

هل أنتِ بخير؟ قال أحد الرفاق وهو يمدّ يده لي محاولًا التأكد من أنني أنا صديقته، ربما وجد في وجهي أشياء أخرى غير التي عهدها. كنت قد خلعت ضحكتي الدائمة، التي كنتُ قد عُرفتُ بها، وابتساماتي، وركنتها في مكان خاص بأطفالي، ولم أتمكن من أن أضع مكانها شيئًا آخر من جسدي، كأظافري مثلًا، التي كان يجب أن أستخدمها في وجود متوحش، هكذا كان الآخرون يبدون لي. كانت أسنانهم أظافر حادة، حتى أن منهم من استبدل لسانه بسكين. حاولت أن أبدو هادئة بين رفاقي، كانت ثمة بقع من الدماء على جوانب بعض الصديقات. أخريات كنّ بلا آذان، يتكلمن ولا يصغين، وثمة رفاق بأيادٍ طويلة وخصوصًا الذكور.. بعضهم كان بلا جلود، قالوا إنهم خلعوا جلودهم قبل لقائنا، فقد نبتت جلود كثيرة على أجسادهم منذ تخرجوا من الجامعة. أحدهم قال لي إنه لم يتمكن من خلع جلده قبل اللقاء فقد أصبح قاسيًا جدًا لدرجة لم يعد يستطيع الرجوع إلى الخلف ثلاثين عامًا. شعرنا باختلافاتنا وبالأشياء التي فرّقتنا سابقًا، صدّقنا أننا لا يمكن أن نكون أصدقاء مرة أخرى رغم أننا غرقنا في أحاديث ذلك الزمن البريء، غرقنا حتى أنني سمعت أبي يقول لأمي: هذه الفتاة غير مؤدبة، تكلّمنا وتكلّم السماء وكأننا من عمرها؛ كان ذلك قبل أن يختفوا جميعهم من حياتي.