عندما تتهاوى البناية الصلبة يراها الجميع ويدهش لانهيارها، الكلّ، ولكن يغفل الجميع عن الضربات الخفيّة التي نخرت جسد البناية. ها أنا أمامك منذ سنوات طويلة. لقد تحوّلتَ إلى صخرة تدق البناية ليل نهار. لم تكن يائسًا ولم تيأس أبدًا. كان علوّها يرهق رقبتك التي التوَت من كثرة تطلّعك للأعلى. وكان ذلك يثير حقدك القديم المتجدد. أنتَ توقفت في دراستك عند البكالوريا التي لم تحصل عليها. وأنا أصبحتُ دكتورة في الطب البشري. هل استوعبتَ ذلك؟ لا ǃ كان ذلك هو السمّ الزّعاف الذي لم ولن تبتلعه.
ما الذي يُؤرّقك؟ كوْني أحمل شهادة أكاديمية عليا وأنتَ لا؟ أمْ كوني أكسب مالًا أكثر منك؟ هل يُنقص هذا الأمر من رجولتك؟ لماذا لم أُفكّر أنا من قبل أن الثنائي الذي صنعناه معًا يؤذيني أكثر مما يؤذيك أنتَ؟ أو أنه قد يسيء إلى مكانتي في المجتمع أكثر مما يسيء لك أنتَ؟
لكن يا عزيزي، ذكورتك وذكوريَّتك تمنعانك من أن تنظر للأمور من زاويتي أنا. لم أحتقر يومًا حِرفتك لكنك كنتَ مُهتزًّا أمامي، فاقدًا للثقة. كنتَ تُظهر لي عكس ما تُضمِر. قلبك كان مرتعًا لرغبات مريضة مخزية لم أكتشفها إلا بعد فوات الأوان.
كُنتَ عنكبوتًا نسج بيته حولي وأنا صدّقتُ أنني المركز لأنك تحبّني ولأنك لا تستطيع الاستغناء عن وجودي في حياتك وإلى جانبك. لكنني كنت الفريسة.
قالوا لي لا تتزوّجي رجُلًا لا يملك شهادة جامعية. ليس شرطًا أن يكون دكتورًا. لكن، على الأقل، يكون حاصلًا على الليسانس. أكّدوا لي أهمية التوافق الفكري وتوافق المستوى العلمي بين الشريكين. أنا عرفتك في الثانوية. أحببنا بعضنا البعض ونحن مراهقيْن تدغدغنا أحلام كبيرة وتدفِئُنا مشاعر الحب الساذج والطّري. ثم كبُر الحب بمرور الأيام وواصلتُ أنا دراستي في الجامعة أما أنت، فلم تكمِل بعد فشلك في البكالوريا.
لم يكن ذلك أبدًا حاجزًا أمام نهر حبّنا الطفوليّ الجارف. وتزوّجنا بعد حصولي على الليسانس.
البناء الذي شيّدتُه أنا أخافَك. كنتَ تختنق كلما ارتفع بلبنات جديدة. وكانت شقتنا تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم. وكنتُ أرتفع يومًا بعد يومًا بقدر ما يرتفع سطح البناء، أمّا أنتَ فكنتَ تنظر إليّ وأنا أبتعد عنك شبرًا شبرًا، يومًا بعد يوم.
كنتَ تشرئبّ بعنقك باحثا عنّي خلف الغيوم العلوية. وعندما ارتفعتُ أكثر، أمسكتْ يدك الحانقة صخرة وشرعتَ تضرب بها أُسس البناء.
لم أكن أشعر بشيء وأنا في عليائي. كنتَ تضحك لي وتبتسم بِمكر. كانت عيناك تُرسل لي رسائل الحبّ وشفتاك القُبَل. ولكن يدك كانت تجلِد البناية بلا هوادة.
لماذا ظننتُ أنه ينبغي أن نبقى معًا إلى الأبد؟ لماذا وثقتُ في حبّك لي كالعمياء؟ بل لماذا تحوّلت إلى عدوّة بغيضة لك؟
وأسأل نفسي: هل ارتعبتَ من مكانتي العلمية المحترمَة؟ أم أن كل نجاح لي كان يؤكّد فشلك وكسلك وانعدام روح المثابرة عندك؟
لم نكن نشبه بعضنا. كنتَ ترضى بالقليل وأنا كنتُ طموحة. طموحة جدًا. ومع كل هذا الفرق، أحببنا بعضنا البعض واجتمعنا تحت سقف واحد. ثم أصبحتُ أكسب أكثر منك، وأشتري ما أحتاجه دون أن أطلب منك دينارًا واحدًا. كنتُ أبتعد وأصنع حرّيتي باستقلالي المادّي. ثم بدأتَ تنزعج ولمحتُ تعابير وجهك الواجمة. لم يكن ذلك بسبب كونك تعود مرهقا من عملك بل بسببي أنا.
ثم شرعتَ تُعبّر عن رغبتك في ألّا أسافر لحضور الملتقيات العلمية في الداخل أو الخارج بعد مرافقتك لي لملتقى واحد فقط. كنتَ هناك مثل السمكة المتخبّطة فوق البرّ. حاولتُ بكل ما أوتيت من حنان وحبّ وعشق وتقدير لك أن أمنحك شعورًا بالانسجام مع المحيط الذي أشتغل فيه ومع الأشخاص الذين يتحركون داخل دائرتي. لكنك كنتَ تشعر بالإحراج وتختفي مثل قمر أظلَمَ.
بعد فترة، شعرتُ بالآلام تشتعل في جسدي. ولم يعد بمقدوري أن أقف بثبات على قدميّ. كان البناء قد بدأ يتحطّم في الأسفل. وكانت الأوجاع تشتد في أوصالي ولم أدرك أنّ كل تلك الصلابة على وشك أن تتحول إلى أنقاض.
ابتسامتك الواسعة والباردة أرعبتني. كانت إنذارًا لي بقرب موعد الانهيار. حينها، يا للعجب، لم تبخل عليّ بلمساتك الحنون ونظراتك الذائبة في بحر عينيّ. كان قرب سقوط البناء يمنحك قوة وإحساسا رهيبيْن بأهميتك. وكنتُ قد دنوتُ من لحظات الانهيار والضعف، لذلك أشفقتَ عليّ كنوع من الصدقة التي يتصدّق بها الغني على الفقير.
وتصدّعتْ جدران البناء الصّلب وهَوَت أجزاؤه جزءا تلو الجزء حتى استوت كل الأجزاء بالأرض وقد ارتفعتْ سحابة غبار ضخمة غطّت كل شيء إلّا ابتسامتك المطّاطية الباردة وهي تنظر إلى أسفل.
* كاتبة من الجزائر.