Print
محمود الرحبي

أستراليا... الحكاية الناقصة

23 مارس 2023
قص
(1)
ستجتمع أكثر من مصادفة هذه الظهيرة بوجود صديقين يحملان الاسم ذاته "يوسف"، أحدهما مقرب اعتدت اللقاء به كل سبت في مقهى بمركز البهجة التجاري، والثاني صديق كذلك، ولكن آخر لقاء لي به كان منذ ثماني سنوات. سيعود أدراجه بعد يومين إلى أستراليا، حيث قرر أن يقيم. كلاهما له علاقة بهذا البلد الشاسع والبعيد الذي لا أسمع عنه إلا مقترنًا بسحر الحياة. حيث إن يوسف صديقي المقرب سبق أن درس فيها مرحلة الماستر منذ حوالي خمسة عشر عامًا، وما فتئ ينقل لي ذلك الانطباع الذي اختزلته ذاكرته. لم يزرها بعد ذلك إلا في جلساتنا، يتذكرها ويسافر إليها بخياله، حيث ستشرق عيناه أيضًا في حمى ذلك التجوال والتذكر.
كان الاجتماع هذه المرة بسبب لقاء ووداع يوسف المقيم في أستراليا، حيث لم يتمكن أحدنا من رؤيته طيلة الشهر الذي قضاه في عُمان. حظيت بالنصيب الأكبر من وقت بقائه عائلته في قريته "السديرة" البعيدة ثلاثمائة كيلومتر عن مسقط.
سيسرد لنا يوسف حكايته بتدفق، منذ أن اتخذ قرارًا بالتقاعد وتحويل ما تبقى من راتبه لطليقته وابنه الوحيد، ثم الرحيل بما حصل عليه من مكافأة نهاية الخدمة، قرر أن يحرق مراكبه وراءه ويرحل ميممًا جهة القارة المجهولة. لكنه لن يعود خالي الوفاض، قال لنا إن لديه شقة هناك، وقد انفتح له باب الحظ بعد سنتين من التنقل في سكنات بيوت الشباب.
حين تعرف على صديقة أسترالية أكبر منه، مستثمرًا وسامته الظاهرة، ثم ما لبثا أن تزوجا. سيبدأ الآن بسرد أسرار الحياة في أستراليا، وكيف أنه استطاع أن يأتي حتى بشهادة الماستر من هناك، وأن يسجل الدكتوراة. شيء آخر كان على وشك أن يسرده لنا بتفاصيله، وهو امتلاكه لسيارة جاكوار جديدة. بداية، أخرج لنا صورتها من هاتفه. كان الأمر يشبه كذبة ناصعة ولامعة. لم يترك الوهم معلقًا حين أخبرنا بموت والد زوجته، وكانت وحيدته، ولكن فجأة رن هاتفي. الشرطة تبحث عني لأن سيارتي وقع لها حادث، رددت مندهشًا، كيف يقع لها حادث وأنا بعيد عنها.

(2)
هبطت بمفردي إلى مرآب سيارات المركز التجاري، حيث ركنتها، رأيت بالتفصيل ما أخبرني به الشرطي، أن امرأة أجنبية صدمت سيارتي من الخلف. ولم يكن في سيارتها سوى خدش صغير بيد أن سيارتي انبعجت عميقًا، بدت مندهشة مما حدث وهي تعتذر لي بإنكليزية سريعة، سألتها عن جنسيتها، فقالت إنها أسترالية، قلت في داخلي "اكتملت"، نزل الصديقان من المقهى والتحقا بي، بعد أن حاسب أحدهما النادل، تيقنت حينها من أني لن أتمكن من سماع بقية الحكاية عن أستراليا، بسبب أسترالية صدمت سيارتي.
ولكن ماذا لو لم تأت الصدمة في ذلك المكان عينه الذي كانت به صدمة سابقة، إذن لصار ربما مجرد خدش لن يستدعي فزع الأسترالية من كاميرات المراقبة، وهرعها بحثًا عن حراس أمن المركز التجاري. أشرت كذلك إلى خدش بالقرب من تلك البقعة المبعوجة، فقالت لي لا يمكن أن تكون قد فعلت كل ذلك. قلت ليوسف المقيم في أستراليا أن يخبرها بأن سيارتي ستتعطل بسبب حادثها هذا عشرة أيام على أقل تقدير. وعلي أن أستأجر سيارة أخرى لهذا الغرض، وهي تتحدث عن خدش إضافي، قالت له إن عندهم في أستراليا التأمين يتدبر لي سيارة إذا لم أكن المخطئ. هذا في أستراليا، وليس هنا، رد عليها يوسف، سعدت أنها التقت بقادم من بلدها يعرف عنها كل شيء، حيث تدفق يوسف بالحديث معها واقفًا، وكأنما ليكمل جزءًا من حكايته، ولكن بإنكليزية سريعة يصعب التقاط جملها لمن لم يتمرس بها طويلًا.
هكذا افترقنا، ذهب يوسف إلى أستراليا، ولا أعرف متى سألتقيه ثانية ليكمل لنا تفاصيل أخرى مدهشة عن سنوات ابتعاده وفراره ليبدأ حياة جديدة.  ولكن أكثر ما أعرفه هو أنني سأكون أمام طريق طويلة غير معبدة علي أن أقطعها وحيدًا، بين مراجعات هنا وهناك، قبل أن أركن سيارتي في أحد الكراجات المظلمة لمدينة المعبيلة الصناعية. حادث لا أعرف كيف وقع فجأة في اللحظة التي كان فيها يوسف يسرد لنا قصة حصوله على سيارة جاكوار جديدة.