حين أتحدث عنك، تقودني عاطفتي لأتذكر أن هناك ولادة الروح، وليس فقط القرابة. هناك سلالة روحية داخل البيت وخارجه.
لكن في الشعر والكلمات والألوان لا يمكن أن تمشي وتتعلّم السير في البدايات بدون آباء كبار، فكيف إذا كان المعلّم قائدًا ومناضلًا وقارئًا وروائيًا مثلك يا "نضال"، محمد عبد العال؟
وكيف إذا ما كنت كلما أتحدّث معه عن شيء ما يذكّرني بمفكر قرأه وتأثّر به. فمن روحك تعرّفت على عالم لا ينتمي لهذا العالم. أحسست أن هناك شيئًا يناديني لكي أتمسّك بما أحلم به، وهذا أثّر على كامل حياتي، وتأكدت فيما بعد أن أثرك كان واضحًا على الجميع، فهم يذكرونك كلٌّ بطريقته.
عرفت أن النضال إبداع، وهو رحلة صاخبة للوصول إلى المعنى بدون أن تفقد البوصلة أبدًا... هو أن تكون مجاورًا للجميع، كبارًا وصغارًا وأطفالًا، كتابًا وشعراء ومناضلين، وإن اخترت طريقًا، فلا يعني ذلك أن تتطلّع بكل احترام للطرق الأخرى.
وتأكدت يا صديقي، أن اكتشاف المعنى ليس عملًا شعريًا فقط، أو ثقافيًا، بل هو عمل مقاوم ونضالي، فالمعنى هو أن تعرف كيف تعطي الجميع من حولك، كما قلت يومًا... أن تعرف في أي مكان أنت مستعدّ لكي تغادر العالم سعيدًا بأنك قدّمت روحك، ومعك كل ما تحلم به. فأمسكت بيدك المعنى القصيّ لهذا الوجود.
لم تكن حواراتنا مجرّد حديث لكي نقتطع من الوقت مساحة زرقاء، بل كنت أرى شيئًا غامضًا داخلها، وكأنك كنت تريد أن تعطيني قطعة من حياتك لآخذها بعيدًا في رحلتي. يومها كان الشعر يحلّق في كل شيء، حين تقول "إننا قريبان في الروح مثل شقيقين"، أو عندما قلت لك: "إنك خالي، لكن الأمر أعمق، لذلك نحن صديقان". منذ الطفولة حتى الشباب، كنت ذلك الشاطئ الذي يشعرني أن العالم ليس قاسيًا إلى هذا الحدّ. ففي كل شيء تقوله تلمع فكرة، أفكر بها وأحيانًا أكتبها، وأحيانًا أختلف معها فأفكر بها بطريقة أخرى فتبتسم وتقول: فكرتك جميلة.
عندما كنتُ مرّة على شرفة بيتك، أخبرتني أنك تحب محمود درويش كثيرًا، وأن أثر الفراشة، بالنسبة لك، هو عالم فيزيائي وروحي في الوقت نفسه. هكذا عملتُ على قراءة القصيدة أكثر من مرة، ربما لأشعر أن الحياة مثل أثر الفراشة وإذا كانت كذلك، فهي تستحق الحياة. ألهذا قلت إن درويش فيلسوف وشاعر؟ ومضيت في قراءته لتدرك أن أسئلته هي أسئلة آلامنا جميعًا... وفي المرة الأخيرة حين زرتك قلت لي إنك ما زلت تقرأه حتى اليوم.
"لا أخاف الموت لأنه في الحقيقة ليس موتًا. عندما قرأت الفلك، أدركت أن هناك أكوانًا موازية، وهكذا شعرت أن الحياة إن لم نعشها كما نحن نحب سنظل نخاف الموت، وهكذا عليك أن تفكري كثيرًا ماذا يعني بأنك تكتبين وتكونين كما تحلمين في هذه الحياة. لا تفكري كثيرًا بل اشعري بما حولك من تفاصيل".
لقد أدركت أيها الشهيد بأنك لست خائفًا، بل سعيدٌ بالمغادرة، لأن روتين الحياة العادية لم يكن يعنيك كثيرًا، أما القراءة فكانت تعني أنك ستقرأ كل شيء حولك، حتى أحلامك الشخصية وحكايا والدك الذي تهجّر من فلسطين والذي ألهمك لتكتب عن مسلة كنعانية اسمها مسلة آديم. لقد رأيت في حكايته تلك طريقًا شخصيًا لك، ولأن حكايتنا هي سلالات تبحث عن مسلة، فقد كتبت الإهداء لنا جميعا وقلت: "لا شريك لكم في هذا الطين".
اخترت يا حبيبنا القائد نقطة ما في جينات عائلتك، نقطة اسمها الجذور لتنطلق في تلك المهمة التي سمّيتها في إهدائك أيضًا: "المهمة النبيلة"...
لذلك كانت العائلة والمخيّم والمدينة ووطنك فلسطين شاهدين على أن جريمة القتل كانت ألمًا فظيعًا وجرحًا كبيرًا جدًا، وفي الوقت نفسه نخفّف الألم بالقول إنك شهيد وموتك المشرف ليس موتًا أبدًا، لقد تركت الرحلة مفتوحة لنا، لقد تغيّرت منذ اليوم نظرتنا للموت، سنحمل مسلة آديم، كل في موقعه الخاص، لننطلق بعيدًا بدون أن نخاف كما فعلت أو نكمل ما أحببت فعله.
فهل عرفت باكرًا أن غسان كنفاني (صديقك الروحي) قد ألهمك لتغادر مثله في سبيل شيء تحترمه كما قال؟ لقد كنت أرى غسان أبًا أيضًا، وكنت تشبهه، "كنت أكتب له الرسائل، لأنه كان دائمًا يلهمني بالبحث عن تلك المهمة"، ولم أكن أتخيل، أني سأكتب لك يومًا مثله وأتألم.
فقد كتبتُ له مرة في رسالتي:
إنّه القنديل ذاتُه الذي وضعتَه عند نهاية كل قصة: إنّه حياتك القصيرة التي كرّستَها في سبيل شيءٍ تحترمه.
وأقول لك: تلك المسلة التي تركتنا نبحث عنها هي حياتك التي كرستها من أجل شيء تحترمه.
نعم فذلك المعنى هو ليس موت سرير رقم 12، فهنا لا أرقام بل قصص ومعان وحكم وروايات وشهادة لا تنسى، هنا حفر حتى في الغياب أو هنا كما قال محمود درويش: أن تكون في حضرة الغياب...
لكن الآن أدركت فعلًا أن من يلهموننا ونقرأهم ونعيش معهم هم ليسوا فقط مجرّد أشخاص نتذكرهم فقط، بل ربما نتقمص بطريقة ما معاني حياتهم، ونصبح مثلهم. فليس غريبًا بل من الرائع أن يكون الثوار قرّاءً، فقد قرأت مرة عن جيفارا أنه كان قارئًا نهمًا، ومن الكلمات عرف ذلك الطريق الأبدي الذي ألهمه ليثور على الظلم تمامًا، وكما قال سركون بولص: "واختار طريقًا آخر/ يسلكها في حياته، وانطلق في سبيله/ ذاك دون أن يأبه بشيء، ليقبض على السر/ الذي أطلقت سراحه الكلمات".
فعندما قرأتَ ساراماغو، أحببتَ كثيرًا روايته: "انقطاعات الموت"، أخبرتني أن هذه الرواية أثرت بك، فشعرتَ أنك تود أن تكتب رواية، كنت تحب الروايات كثيرًا وتعتبر أن الشعر والسياسة والفن داخلها. لقد رأيت أيضًا هنا أن ساراماغو كان يفكر أن الموت مهم وضروري وهو ليس كما نتخيل.
كلما قرأت رواية، أو كلما قرأت أنا رواية أو كتابًا، نتحدث عنه، لذلك يذكرني بك الآن ساراماغو، وتشومسكي، ومحمد عابد الجابري.. لم أكن أعرف أن هذه هي رسائلك العظيمة لي، لكني كنت أعرف أن لهذا العمق أكثر من معنى، وأن عليّ أن أقرأه جيدًا في كل مرة أتذكرك.
أيها الشّهيد، كنت شاهدًا على ما يدور حولك من حزن، ولم تستطع إلا أن تحارب الألم، كما هو القائد الحقيقي. ماذا يعني أن يكون القائد فدائيًا ومثقفًا وروائيًا ويحب العلوم والفلك والشعر، وطيبًا وعفويًا بقلب طفل؟ وماذا يعني أن يذكره الكثيرون على أنه أكثر من أب.
ربما يعني ذلك، أنك مناضل نادر، لأنك تؤمن أن النضال ليس فقط القتال، بل أن نفهم بعمق وجودنا في هذا العالم، عندها سنعلم أيها المعلم أن حربنا مع أعدائنا تنطلق من القلب، لأن المهمة النبيلة لا تتطلب أقل من عشق لروايتنا وحكايتنا وقضيتنا ولأحلامنا ولأوجاعنا.
نحتاج يا صديقي لـ"سرد آخر"، كما هو عنوان روايتك الثانية، في معركتنا، سرد ينظر إلى كل شيء نظرة من كوكب مختلف ينتمي لمكاننا الحقيقي، ولقراءتنا لأنفسنا.
أرسلت رواياتك لي على شكل رسائل، لتصبح رواية من معنى آخر. هي رسالة وليست فقط رواية لذلك وجدتها عميقة جدًا، فقد تحاورت مع معانيها لأجد نفسي أيضًا. ففي روايتك الأخيرة "ازدحام" تحدثت مع أشخاص كثيرين وبطولات كثيرة لتكتشف أنك بطل يزدحم بالبطولات لأنه فهم الحكاية، الحكاية البطلة...
هذه ليست إلا رسالة بأن أحلامك التي عددتها لي وتركتها جانبًا، ستنطلق كل يوم في رحلة جديدة، فأنا أعلم أن نومك ليس طويلًا، ستستيقظ دائمًا كي تراها، وسأتيقظ دائمًا لأرى أحلامي التي تحبها.
لتكن روحك سعيدة أيها الفدائي الآخر، الذي حمل الأفق كله مثل مسلة آديم...