Print
محمود الريماوي

نظرة سريعة على قتلى سعداء

29 أكتوبر 2024
يوميات

بين مشاهد الحرب على غزة وعلى لبنان المبثوثة في وسائط الإعلام، تستوقف المرء صور الضباط والجنود الإسرائيليين القتلى والتي يتم نشرها بعد إبلاغ عائلاتهم بمقتلهم. غالبية هؤلاء شبّان في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم وقلة منهم في الأربعينات والخمسينات. يبدون بصحة جيدة ومفعمين بالحياة، وترتسم على وجوههم ابتسامات مشرقة. قلما أعثر على صورة من صور القتلى المنشورة لا يبدو فيها الضابط أو الجندي مبتسمًا ومنشرحًا، وذلك خلافًا للصور التي يتيسّر نشرها لعسكريين في بقية جيوش العالم. ففي العادة يظهر الجنود بسحنات متجهمة، بملامح متصلبة، وبنظرات تجمع بين الثبات والقلق، ذلك أن الجندية، وكما هو معلوم لدى الكبار والصغار، مهنة شاقة ومخاطرها مرتفعة، ومن الطبيعي أن تنعكس قسوة هذه المهنة على ملامح أصحابها. وهو ما يثير التساؤل: ما الذي يجعل الضباط والجنود الشبان، في دولة الاحتلال، يظهرون بمظهر السعداء الهانئين ناعمي البال، الواثقين من يومهم وغدهم، والذين يزاولون مهنتهم بقدر ملحوظ من المتعة، ويقضون أوقاتًا بهيجة، ويعقدون صداقات ما بينهم تشمل الجنسين، غير عابئين بالمخاطر الفعلية أو غير مدركين لها، ولدرجة يخال معها من يشاهد الصور فحسب وبمعزل عن فحوى الخبر، أن أصحاب هذه الصور إنما يمارسون مهنًا "لطيفة" مثل عزف الموسيقى والغناء أو الألعاب الرياضية، أو تسويق المنتجات، أو أنهم لا يمارسون أية مهنة إذ هم طلبة في معاهد وكليات لا يتحملون مسؤولية أنفسهم إذ تعيلهم عائلاتهم، ولم ينغمسوا بعد في تعقيدات الحياة العملية.

والانطباع الأول عن هؤلاء أنهم ضحايا الحرب التي قصفت أعمارهم وهم في مقتبل شبابهم، وأنهم لو لم يجر زجّهم في الحرب لنجوا بأنفسهم ولعاشوا حياة طبيعية زاخرة بالفرص. والانطباع الثاني أن هؤلاء التحقوا بالجيش بعد نيل التدريب والتأهيل، غير أن التحاقهم بالمؤسسة العسكرية لم يكن يعني لهم أن يخوضوا حروبًا بأجسادهم. فقد عرفوا ممن سبقهم أنه يسهل الانتصار على الأعداء، وأن الانتصار يثير شعورًا بالنشوة ويمنحهم مكافآت أو ترقيات وظيفية تُضاف إلى مزايا رواتبهم، ما يجعل منها مهنة مُجزية تستحق بعض العناء. وأنه يكفي أن يسارع الجندي لاستخدام سلاحه حتى يحقق النصر... ولكن على من؟ على مُزارعين يعتصمون بحقولهم ويرفضون مصادرتها، وأقصى ما يحمله أحدهم من سلاح هو عصا في يده. على سيدة تعبر الطريق وترفض من شدة ارتباكها أن تقف وتمتثل للأوامر. على عائلات في البيوت في زيارات الفجر إذا ما تعرّض جندي لشتيمة من أحد أبناء العائلة التي استبيح بيتها. على شاب يقفز عن الحاجز ويُصر على أداء الصلاة في المسجد الأقصى يوم جمعة خلافًا للأوامر العسكرية. على صبي يتجرأ على قذف دورية بحجر. وقد يحمل بعضهم سكينًا إلا أن الرصاص أسرع من سكين المطبخ. قلّما يحملون أدوات حادّة، لكن إذا حملها أحدهم فذلك يضفي قدرًا من المغامرة على أداء الجندي بما ينقذه من الشعور بالرتابة. أعداء من هذا القبيل هم أعداء يحترفون الكراهية بما يجعلهم متشابهين ولا يلبثون أن يصبحوا أشباحًا وأشباه بشر في أنظار الجندي. أما من تجرأوا على اقتناء السلاح واستخدامه فإن الأسلحة الثقيلة والمسيّرات، كفيلة بالتعامل معه. أعداؤهم مضحكون يسهل إسكاتهم بإطلاق النار عليهم، ونسبة المخاطر قد لا تتعدّى واحدًا في الألف، مما يجعلها مهنة ممتعة مفعمة بدرجة عالية من التشويق يفتقدها أبطال أفلام الإثارة العنيفة، المحرومون من أية فرصة لقتل شخص واحد حقيقي، أو رؤية دم بشري ساخن ينزف، ويتخبّطون في معجون الكاتشاب.

والانطباع الثالث أن قادتهم لم يخبروهم أن الحروب حتى الصغيرة منها تلد حروبًا، وأن لكل فعل رد فعل معاكس له، وأن حرمان شعب من الحق في الحياة وفي الحرية وفي الكرامة يولّد نقمة شديدة قابلة للانفجار في وجوههم وبين سيقانهم، وهو ما أظهره يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وأن تجربتهم الغضّة في الحياة لم تسعفهم على التفكير المستقل وبعدما تلقوا في مدارسهم تعليمًا يفيد أن العرب الفلسطينيين قد وجدوا وتجمّعوا بالمصادفة على هذه الأرض، وأنه يجب إزاحتهم عن الطريق بكل الوسائل، ووضعهم على هامش الهامش، وأن العربي الجيد هو العربي الميت.

 لهذا ومع الانتقال الى حربٍ مع مقاومين، فقد بات قادة حاليون وسابقون في الجيش يجهرون أن الجنود متعبون من الحرب وأن الإنهاك يسيطر عليهم، بعدما اعتاد الجنود خوض معاركهم ضد المدنيين العزل، وضد أشخاص يتم إيقاظهم من النوم في الساعات الأولى للفجر، في مدن وبلدات الضفة الغربية.

ولعل ما يسند الانطباعات السابقة يتمثل في المشاهد التي يتم بثها لجنازات الضباط والجنود القتلى الذي كانوا سعداء في حياتهم، فخلافًا للجنازات العسكرية في حروب عالمنا وحيث يشيّع القادة والجنود من سقطوا في أرض المعركة بمشاعر الثبات والفخر والإيمان بالقضية التي قضى دونها القتلى، فإن جنازات الضباط والجنود الإسرائيليين ترتدي طابعًا شديد العاطفية. ولئن كان من الطبيعي أن يثير الفقدان مشاعر الحزن لدى رفاق الفقيد، غير أن الأمر يختلف بعض الشيء لدى تشييع جنود وضباط، إذ يحتفظ المشيّعون عادة بانضباطهم المستمد من نمط الحياة العسكرية. وما يحدث في جنازات العسكريين الإسرائيليين هو انكشاف مشاعر اللوعة بصورة مفرطة في العاطفية لدى المشيّعين، ولدرجة أن بعضهم ينخرط في البكاء، فيما يميل بعض آخر برؤوسهم متكئين على أكتاف من يجاورونهم كالأطفال، أو يخفون وجوههم بأيديهم، وأبعد من ذلك فإن مشاعر الصدمة والذعر لا تفارق سحنات الكثير من المشيّعين، بل إن النظرات الزائغة والملتاعة لهؤلاء تفصح عن شيء من الندم لامتهان هذه المهنة التي اقترنت في أذهانهم بالدعة والترف، وذلك بعدما اكتشفوا أن الحروب تتسبّب بمقتل دان وألون وتوم وجاي وروعي وباراك وهليل ويوناتان وليئون وديفيد وساهر وإيلي وسواهم، وأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم المنذورين للموت في صراع تريده الصهيونية إما صفريًا أو أبديًا.