اليوم أيقظتني عينان. وكأنّ الإطار المشعّ لنور الصباح المتسلّل من فراغات شيش النافذة لم يلامس عينيّ قطّ، أو كأنّ هناك حاجزًا غير مرئي في الهواء، صدّ عن أذنيّ صوت رنّات المنبّه التي أستفيق عليها عادة. ظننت أنّ هاتين العينين ظهرتا في منام انتهى لتوّه، وهذه آثاره العالقة في ذاكرتي منذ ليلة أمس، بل وأنّ كلّ هذا سيتلاشى بمجرّد أن يلامس الماء الدافئ وجهي أو تختلط بأنفاسي رائحة قهوة الصباح.
لكنّني لم أرَ سواهما طوال الوقت، كانتا تظهران على بلّور النوافذ. وأراهما كلّما أغمضت عينيّ لوهلة لتذكّر شيء، أو كلّما شردت ببصري.
لحظة أن لمحت هاتين العينين، تحرّك شيء ما بداخلي لم أقوَ على تفسيره أو الجزم به. أدركت أنّهما فاضتا بشيء اجتاز النظر، ولامس الروح، وكأنّما وضعت يدي على قلبي فوجدته أزهر، رغم برودة كلّ شيء وقتامته. تلك النظرات كانت أشبه بقطرة مياه عذبة باردة سقطت على سطح احتبست به حرارة الشمس مطوّلًا، أو كخطوات خفيفة، دفعت بي إلى ساحة لا ينبعث نورها من السماء وحسب، بل يشعّ كذلك منها.
لم تغب هاتان العينان أبدًا، حتّى في غيابهما عنّي كنت ألمحهما دائمًا في الطرقات الممتلئة بالبشر والأخرى النائيات، كانتا تحملان شيئًا لي وحدي، أراه ينبعث منهما.
كيف يمكن للمرء أن يتعلّق بطيف عابر، بل ويؤمن بوجوده إلى هذا الحدّ؟ وكيف له أن يتجاهل الغياب، والمسافات، والمنطق، والمعقول؟ ألم تكن بعض الأشياء - التي تحقّقت - في بدايتها مجرّد أطياف لأفكار أو أمنيات عالقة في القلب، ثمّ - بشكل ما لا يمكن تفسيره - اتّصلت بالواقع. فعدم وجود الشيء بشكل ملموس لا يعني غيابه؛ لأنّ أحيانًا يكمن حضوره في هذا الغياب.
ألا يبدو كلّ ما نريد الوصول إليه قصيًّا في البداية؟ ألسنا من يحدّد المسافات التي تفصلنا عنه، إمّا بالإيمان به أو بالخوف من عدم إدراكنا له؟ ألا نفقد كلّ شيء مع اللحظة التي نبدأ التعامل فيها مع أحلامنا، ومشاعرنا، وطموحاتنا، وأشواقنا، على أنّها عمليّات حسابيّة بحتة، تسير بالمنطق، والتفكير، والمعطيات؟
النهايات المفتوحة مربكة، تحمل بين طيّاتها احتمالات لا نهائيّة من نسج الخيال، فعندما لا يستطيع المرء رؤية شيء جليّ في الآفاق، يسقط في دائرة مفرغة من الحيرة.
أفكار تقاطرت بظلالها الثقيلة على عقلي، عندما فكّرت أنّ هاتين العينين وهميّتان. ماذا لو كانت رؤيتهما مجرّد لحظات عابرة في مجرى العمر الممتدّ، ستستسلم إلى تدفّق الأيّام، وتنجرف ليبتلعها النسيان، فسيصبح مصير كلّ النور الذي غمرني قربانًا للفناء.
والآن، كلّ ما يجول بداخلي، وما أتطلّع إليه، كضيّ مصباح يصارع الظلام، يخمد ويضيء، ولكنّه يأبى أن تكون العتمة هي قدره المحتوم.
مجدّدًا، وبدون مقدّمات، ومضت هاتان العينان أمامي. ولكن هذه المرّة، كان حضورهما حقيقيًّا وقاطعًا. كانتا كالمرّة الأولى، تحملان تسارع النبضات نفسه، والشيء الذي نما بداخلنا. وحينها أدركت أنّنا قد اجتزنا هوّة غيابنا، وكسرنا رهبة الخوف من المسافات.
لكنّني لم أرَ سواهما طوال الوقت، كانتا تظهران على بلّور النوافذ. وأراهما كلّما أغمضت عينيّ لوهلة لتذكّر شيء، أو كلّما شردت ببصري.
لحظة أن لمحت هاتين العينين، تحرّك شيء ما بداخلي لم أقوَ على تفسيره أو الجزم به. أدركت أنّهما فاضتا بشيء اجتاز النظر، ولامس الروح، وكأنّما وضعت يدي على قلبي فوجدته أزهر، رغم برودة كلّ شيء وقتامته. تلك النظرات كانت أشبه بقطرة مياه عذبة باردة سقطت على سطح احتبست به حرارة الشمس مطوّلًا، أو كخطوات خفيفة، دفعت بي إلى ساحة لا ينبعث نورها من السماء وحسب، بل يشعّ كذلك منها.
لم تغب هاتان العينان أبدًا، حتّى في غيابهما عنّي كنت ألمحهما دائمًا في الطرقات الممتلئة بالبشر والأخرى النائيات، كانتا تحملان شيئًا لي وحدي، أراه ينبعث منهما.
كيف يمكن للمرء أن يتعلّق بطيف عابر، بل ويؤمن بوجوده إلى هذا الحدّ؟ وكيف له أن يتجاهل الغياب، والمسافات، والمنطق، والمعقول؟ ألم تكن بعض الأشياء - التي تحقّقت - في بدايتها مجرّد أطياف لأفكار أو أمنيات عالقة في القلب، ثمّ - بشكل ما لا يمكن تفسيره - اتّصلت بالواقع. فعدم وجود الشيء بشكل ملموس لا يعني غيابه؛ لأنّ أحيانًا يكمن حضوره في هذا الغياب.
ألا يبدو كلّ ما نريد الوصول إليه قصيًّا في البداية؟ ألسنا من يحدّد المسافات التي تفصلنا عنه، إمّا بالإيمان به أو بالخوف من عدم إدراكنا له؟ ألا نفقد كلّ شيء مع اللحظة التي نبدأ التعامل فيها مع أحلامنا، ومشاعرنا، وطموحاتنا، وأشواقنا، على أنّها عمليّات حسابيّة بحتة، تسير بالمنطق، والتفكير، والمعطيات؟
النهايات المفتوحة مربكة، تحمل بين طيّاتها احتمالات لا نهائيّة من نسج الخيال، فعندما لا يستطيع المرء رؤية شيء جليّ في الآفاق، يسقط في دائرة مفرغة من الحيرة.
أفكار تقاطرت بظلالها الثقيلة على عقلي، عندما فكّرت أنّ هاتين العينين وهميّتان. ماذا لو كانت رؤيتهما مجرّد لحظات عابرة في مجرى العمر الممتدّ، ستستسلم إلى تدفّق الأيّام، وتنجرف ليبتلعها النسيان، فسيصبح مصير كلّ النور الذي غمرني قربانًا للفناء.
والآن، كلّ ما يجول بداخلي، وما أتطلّع إليه، كضيّ مصباح يصارع الظلام، يخمد ويضيء، ولكنّه يأبى أن تكون العتمة هي قدره المحتوم.
مجدّدًا، وبدون مقدّمات، ومضت هاتان العينان أمامي. ولكن هذه المرّة، كان حضورهما حقيقيًّا وقاطعًا. كانتا كالمرّة الأولى، تحملان تسارع النبضات نفسه، والشيء الذي نما بداخلنا. وحينها أدركت أنّنا قد اجتزنا هوّة غيابنا، وكسرنا رهبة الخوف من المسافات.