Print
فيصل خرتش

لماذا يلوّح الشعراء بأيديهم عندما يلقون الشعر؟

24 يونيو 2024
يوميات



كنت في اتحاد الكتاب أحضر لشاعرين وقاص، أضيع الوقت وأسلي نفسي بالتفرّج على ما يلقيه هؤلاء من شعر. جلست بين الذين يأتون لأستمع إليهم، وقد قدّم رئيس الاتحاد الشاعر الأوّل كونه الشاعر الذي لا يشقُ له غبار، ملأ الدنيا وأسماع الناس بشعره، لا يضاهيه أحد، له خمسة دواوين، (قرأ الرئيس أسماء الدواوين الخمسة)، وكلُها في الوطنيات، لكنه في آخر ديوان له جمع قصائده التي في الغزل وأصدرها في ديوان واحد تحت اسم "ورود حمراء للمحبوبة" سيلقي علينا اليوم بعض القصائد في الوطنيات، وسوف نستمع إلى بعض قصائد الغزل، رحبوا معي بالشاعر فلان الفلاني، وصفّق الحضور ببلادة.
نهض المدعو إلى ما وراء المنبر، تعلو شفتيه الابتسامة، وهو يحمل الدواوين الخمسة، وفردها على الطاولة الكبيرة. شكر المقدّم في البداية، ثمّ شكر الاتحاد الذي أتاح له فرصة اللقاء بهذه الجماهير التي تعنّت وحضرت هذه الأصبوحة، رغم رداءة الطقس. "سألقي عليكم قصيدة تعبّر عن مجد الوطن"، وراح يلوّح بيديه وهو يلقي ما يسمّى بالشعر، ولم يحرّك فينا أي شيء، وفوق ذلك راح يحرّك رأسه باتجاه يده اليمنى، ثمّ باتجاه اليسرى، ينزل قبضة يده قليلًا ثمّ يرفعها، ويمسك رؤوس أصابعه ويفتلها "هكذا يكون الوطن".
مدّدت رجليَّ، وألقيت واحدة فوق الأخرى، التي أمامي مباشرة بدأت تتثاءب. فتلت رأسي وإذا الرجل الذي يجلس في نهاية الصف نائم، إنّه يضع يديه مشبوكتين في وسطه ويغمض عينيه ويمدّد رجليه هو الآخر، يرعى مع خراف الملائكة، ويأكل وحده التفاح في الجنّة. ثمّة رجل آخر رنّ الهاتف الذي في جيبه فأسرع إلى الممرّ، يجيب عليه، صوته كان مسموعًا، وهنا أوقف الشاعر صوته بانتظار أن ينهي الرجل مكالمته، وعندما انتهى أشار الرئيس إليه بأنّه "تخنها"، ثمّ تابع الشاعر صراخه المعهود.
انتهى من إلقاء القصائد الوطنية، وبدأ مع الابتسامة المعهودة يلقي بعض القصائد الغزلية التي كان محورها يدور حول الأنهار والشجر والزهور والربيع، كانت محبوبته أجمل من كلّ الفصول، وأحلى من كلّ ما في الطبيعة من هذه النوارس والغيوم، تجدل المحبوبة لها معطفًا، ومن الزهور تضع تاجًا على رأسها، شفتاها أحلى من العسل، وشعرها ليل يتماوج.
وهكذا راح يصف محبوبته، ويظهر أنّ قصائد الغزل هذه مكتوبة منذ زمن، لأنّ الشاعر قد تجاوز السبعين من عمره، ولا يزال يتغزل بمحبوبته الخيالية، إنّه يبتسم رغم كلّ الصعاب، وهو وحده من يحقُ له أن يتغزل.
انتهى الشاعر من إلقاء القصائد، ونسي أن يشكر الحضور على ما سمعوه، صعد واحد آخر، وقال رئيس الاتحاد في تقديمه بأنّه الشاعر الذي دوّخ المنابر، الشاعر المعجزة، له ستة دواوين غير مطبوعة، مع أنّ جميع أصدقائه أشاروا عليه أن يطبعها. وقف وراء المنبر والابتسامة على محياه تبرز بوضوح، وشكر الاتحاد ورئيسه والحضور، وبدأ بإلقاء الشعر. لم يبدأ بالوطنيات، وإنما راح يتجلّى في الإنسانيات، بالإنسان الذي يتعب ويكد، ويبني وهو لا سكن يحتويه، ويجوع ويعرى من دون أن يكون له ما يسد جوعه. أيضًا راح يقلب يديه، تارة نحو اليمين، وأخرى نحو الشمال، ويرفعهما باتجاه الأعلى، ثمّ يهبط بيده اليمين شيئًا فشيئًا نحو الأسفل، إنّه يكوّر أصابعه وينزل بها، ويعاود الكرّة ليرتفع بها، وفجأة عبس وجهه واستطاع أن يزلزل الكون تحت يدي الغاصبين.
أنهى قصائده ونزل من وراء المنبر، وصفق الحضور باسترخاء، الرجل الذي كان نائمًا استيقظ في تلك اللحظة، فصفق مع الحضور، ثمّ راح يغط في نوم ثقيل، هذه المرّة راح يحلم بالبحر وأمواجه والشواطئ المهجورة التي راحت تمتلئ بالمصطافين، وفجأة شخر، فأيقظه الذي بجانبه بهزّة من يده، والسيدة التي كانت تفكر بقصائد الغزل، خاب توقّعها، فلم يقل الشاعر ولا قصيدة غزلية، لذلك لم تصفق له.
وعرّف رئيس الاتحاد بالقاص، الذي له ثلاث مجموعات قصصية، كلُها مطبوعة، وذكر أسماءها، إنّها ذات إصدار خاص، وتدور حول المتعبين في الأرض، إنّه يلتقي مع الشاعر الموهوب، وراح يعدّد المنجزات التي يحفل بها القاص، وقصته التي سوف يقصُها علينا تتعلّق بفلسطين.
انبرى القاص وراء المنبر، وشكر الرئيس والجماهير التي تحمّلت عناء هذا اليوم، وبدأ القراءة، لم يلوّح بيديه واكتفى بأن يفتح كفه اليمنى أثناء الإلقاء، ودارت القصّة حول فلسطينية عجوز اشتهت اللوز الأخضر، فسألت من يأتيها به، فتبرع أحد أقربائها أن يأتيها بحبات اللوز الأخضر، ومضى إلى سوق الخضار وجلب لها إياه، لكنها أمسكت به وألقته، قالت: أريد لوزًا أخضر. فاستغرب ما فعلته، وجاء أحد الرجال، فأوصت المرأة العجوز على لوز أخضر. غاب الرجل إلى العام القادم، وفي موسم اللوز جاءها به، قالت: ومن أين أتيت به، قال الرجل: من فلسطين. أخذته ثمّ زرعته وأصبح شجرًا وامتلأت به حديقة البيت، وصارت تفتح باب الحديقة وتوزّع على الناس في المخيم، صار الناس يسألونها، من أين هذا يا خالة، فتجيبهم: من فلسطين.
القاص لم يحرك يده اليسرى، كان بها الأوراق التي يلقيها على الجمهور، كان يكتفي بفتح اليمين، ولم يكن يبتسم، وهكذا انتهى زمن الأصبوحة التي بدأت في الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق، وصفّق الحضور ببلادة.
رئيس الاتحاد طرح ما ألقي للنقاش، وقام أربعة وتكلّموا في ما يخصُ الشاعرين والقاص، وهنا بدأت أتململ، ورفعت يدي، أطلب أن أسأل، فأشار إليّ الرئيس، فسألت: لماذا يلوّح الشعراء بأيديهم حين يلقون الشعر؟ ابتسم الشاعر الأوّل، وأخذ مكبر الصوت، شكرني على هذا السؤال، وبدأ الكلام: "مرّة كنت ألقي الشعر في مكان ما، وكان بين الحضور امرأة أجنبية، طبعًا هذا قبل الحرب، كانت المرأة تستمع وشبه ابتسامة على شفتيها، وعندما انتهيت، سألت المرأة الأجنبية، هل فهمت شيئًا، قالت: لا، لكنني تعاطفت معك من خلال حركات اليدين، وانفعالاتك مع الكلمات، أعتقد أنّ الصورة قد توضحت الآن".
وتلويح الشعراء بأيديهم هو تعبير عن أنّ الكلمة لا تكفي بالتعبير عمّا يجيش في نفوسهم، فيعبّرون بأيديهم ليستطيعوا أن يؤدّوا المعنى، بعضهم قال: إنّ الحالة النفسية للتعبير تؤدّى بهذه الطريقة، فالكلمة عندما تخرج تسيطر عليها مجموعة من الانفعالات، وتكون قاصرة عن أداء المعنى، فيأتي التعبير بالأيدي لاستكمال المعنى.
وفي علم النفس، تأتي الكلمة لتعبر عن الحالة المخزونة في ذات الشاعر لتخرج إلى المتلقي، لكنّه يعتبر أنّها لم تصل إلى المتلقي، فيعبّر عنها بالكلمة أوّلًا، وبالأيدي ثانيًا.
أحد الشعراء قال إنّه لم ينتبه إلى حركة يديه أثناء الإلقاء، ولم يشعر بهما، إنّه يلقي القصيدة، وهي مجموعة من الكلمات التي تعبّر عن حالته أثناء كتابتها، وليس أثناء الإلقاء، وتخرج الكلمات مراقبة بالانفعالات التي تصاحبها إلى المتلقي، وهو هنا ينفعل بها أم لا، "إننا نريد أن ينفعل المتلقي بذات الانفعال الذي نحسُه".
شاعر آخر، قال إنه لم يشعر بشيء، لقد كان غائبًا عن الوجود، منذ اللحظة التي بدأ يلقي فيها إلى حين الانتهاء.
انتهت الأصبوحة، وأخذنا صورة مشتركة، ومضينا كلٌ في طريقه.