Print
رشا عمران

تلك الأحلام اليتيمة: من سيرة الأصدقاء (3)

15 يوليه 2024
يوميات

تلح علي سير الأصدقاء كما لو أنها سير راحلة بينما أواصل أنا حياتي، والحقيقة أن تلك السير ترافقني من دون انتباه، من دون أن أحسن الإصغاء إليها أحيانًا، فأشعر فجأة بالاغتراب، بالوحشة، بالفقد، أبحث قليلًا في جيوب الذاكرة لأفهم ما بي، ولماذا هذا الأنين الخافت في زوايا روحي، فأدرك أنني أدعي النسيان، أنني امرأة ترى أن مواصلة حياتها هي التجاهل والنسيان، لكن هذا شبه محال، حياتي الماضية، مشاريعي، أصدقائي، تفاصيل صغيرة، تفاصيل تافهة، وأخرى بالغة الأهمية، أحلامي الشخصية والعامة، تلك الطمأنينة التي يمنحها الإنجاز المشترك مع الأصدقاء. كان مشروع السنديان الذي كنا ننجزه كل عام حلمًا جميلًا يمنحنا جميعًا إحساس التحقق والطمأنينة. لا شيء يعادل تشارك الحلم والفعل مع آخرين تربطك بهم قرابة الروح والتاريخ الطويل. لكن فجأة تدرك أنك تحلم في أرض قاحلة، حيث لا ماء ولا رطوبة. وأن ما فعلتموه وظننتم أنكم أنجزتموه مجرد فكرة حاولتم زرعها في تلك الأرض، لكنها بقيت تحت التراب الظامئ، لا تريد الموت ولا تتمكن من الحياة. هل تلك الفكرة ناجية؟ أسأل هذا السؤال وأنا أفكر في نفسي، هل أنا ناجية؟ هل واصلت حياتي فعلًا؟ لماذا، إذًا، تلح علي التفاصيل والأشياء والأشخاص فأنتبه إلى وهمي الكبير كصخرة من صخور تلك القرية التي أتيت منها: الملاجة وسنديانها وأحلامها! لم يبق شيء الآن سوى الذاكرة، وبعض كلمات نكتبها عنها كقصيدة يتيمة.

إلى أصدقاء قدماء
السنديان
.....
الحجارة التي كنا نحملها بين أيدينا توقفت عن النمو،
الأشجار التي حولناها إلى ينابيع بهجة فقدت لونها الأخضر.
المصاطب الحجرية، الصخور المنحوتة بأزاميل قلوبنا، الوادي الأليف، طبق النور المكتمل، ثياب العيد التي كنا نطير بها كما لو أننا طائرات من ورق. ذلك الوهج كله، القلوب المفتوحة كشرفات بلا حواف، نبض الأرض المتناغم مع موسيقى كانت تعزف بأرواحنا، ذلك العصفور الذي صمت فجأة حين ابتدأ شاعر قصيدته!! أعراس اللون وأعراس الرقص وأعراس الألفة النادرة.
أين كل ذلك الآن؟
صمت حاد.
أحضن ذاكرتي وأبكي، أردد أسماء الجميع، استحضر تلك الليالي الطويلة، أجلسها على ركبتي وأبدأ في الغناء: (يا سفر الغربة يا أحلى سفر، شي اتعب من قلبي حطو عاحجر)، لو أن قلبي حجر لنحت منه قرية.
لو أن جسدي حائط لرسمت عليه وطنًا.
لو أن روحي غابة لزرعتها بشجر الأحلام.
صمت جارح.
أحضن ذاكرتي وأبكي وأكتب نصًا حزينًا سوف أقرأه ذات يوم في منام طويل لا يوقظني منه منبه الانتماءات القاتلة، ولا جرس الهويات المفاجئة.
أحضن ذاكرتي وأبكي، ثم أرى أصابعي تسقط إصبعًا إثر إصبع، فأحضنها بقلب متلف ويدين معطوبتين. وأحصي من بقي منا.
صمت قاتل.
لم يمت بعضنا فقط، متنا كلنا، دفنا أنفسنا، وأَهَلْنا التراب فوق أحلامنا وأجسادنا الخامدة، ثم غادرنا المقبرة،
رؤوسنا لا ترتفع عن الأرض واتجاهاتنا متعاكسة.
تلك أحلام كانت من الورق.

*********

إلى رويدة ويوسف

يقولون لي: بيتكم بات بعيدًا
والطريق إليه شائكة
كي تصلي عليك أن تقفزي بين الحواجز كأرنبة مذعورة، سيقنصك الحقد والغضب الغبي ولن تصلي...
لكنني أذهب إليكما كل يوم وأراكما تنتظراني تحت شجرة توت أمام باب البيت...
كل شيء جاهز، أنتما وأنا ومائدة ممدودة منذ زمن طويل، وفيروز تغني في الغرفة الخلفية، كما يليق بطقس قعداتنا أن يكون.




كل شيء كما ينبغي له ان يكون! لماذا، إذًا، يتمطمط الحزن أمامنا كقط أليف؟ لماذا نشرب الحزن بدل العرق، ونأكله بدل الزيتون؟ لماذا يلدغنا في المكشوف من قلوبنا كما لو أنه بعوض؟
تقولين لي: منذ ذلك اليوم، منذ رحلتم كلكم، منذ بدأ الجميع بالاختفاء صار خبزنا شوكًا، وملحنا دمعًا حارقًا. أحضنك وأبكي بينما يوسف، كعادته، يحاول فصل الملح عن ماء دموعنا، ويحفظه في منديل نظيف: الملح سلعة باهظة هذه الأيام لا يهدره إلا أولاد الحرام.
أدخل مطبخًا أليفًا أبحث فيه كعادتي عن لا شيء، هو اعتياد تلك الروائح فقط: الصخب، الحب، الدفء الطيبة، روائح في الذاكرة لا تتوقف، أصدقاونا الموتى، أصدقاؤنا الأعداء، مشاريعنا المشتركة في قرية تذبح المشاريع كأضاح للباب العالي. أتمسك بكما، تحضناني معًا كما لو كنت ابنتكما الغائبة، هل هي صدفة أن تعيش ابنتانا معًا في بلد غريب؟
أعدي القهوة يا رويدة، أنا قادمة الآن. سأفتح لك فنجانك، علمني الشعر الشعوذة، وعلمني الحب الفاشل سيرة الودع، وعلمني تلفَ القلب غيابٌ لن ينتهي، سآتي إليك بثوب أسود طويل واسع أخفي تحته مدن آوي اليها كلما ارتفع طرف الثوب وانكشفت، وأغطي يديَّ بوشوم الحنين، بينما يتدلى من أنفي وشفتي حلقان يخشخشان كلما بكيت. أعدي القهوة يا رويدة وانتظريني، لم يبق لي غيرك ينتظرني تحت تلك الشجرة.
(والدنيي غافلة والقمر غاب، بتقشعني واصلة عم دق الباب، وبتسأل كيف طلعتي بهالعتمة وما فزعتي)...
نجلس نحن الثلاثة أعلى الطاولة في المنتصف تمامًا، الطاولة تدور ببطء شريط سينمائي قديم، تتوالى الصور، بشر من كل مكان يضحكون باللهجات كلها، باللغات كلها، بالألوان كلها، يلتفون حولنا بأجساد منهكة ووجوه أتلف الزمن ملامحها الفريدة، أنا وأنت نحاول ترتيب أماكنهم على الطاولة، بينما يوسف يعيد الضوء إلى أعينهم المطفأة، لكنهم يرحلون مسرعين كما لو أن ذئابًا تطاردهم.
لا نهتم كثيرًا، فالطاولة تدور ولا تتوقف ونحن نسند ظهورنا إلى بعضنا بعضًا، ونمد سيقاننا في فراغ لم ننتبه كيف اتسع كثيرًا تحت أقدامنا قبل أن تختفي الطاولة كلها ونسقط على الأرض القاحلة.
يقولون: قرب بيت على رأس الجبل في القرية الغريبة ثمة ثوب أسود واسع يغطي ثلاث صخور تسند بعضها بعضًا كما لو أنها ثلاثة أشخاص ينتظرون معجزة.