كانوا يسقطون من السماء، نساءً ورجالًا وأطفالًا. سقط بعضهم عليّ لكنهم تجاوزوني واستمروا في الانهمار كأنهم مطر خريفي. لم أشعر بهم يصطدمون بجسدي، بل مضوا إلى أسفل بسرعة تضبطها الجاذبية. لم أفهم من أين أتوا حقًا. هل يكفي أنني رأيتهم يَهوُون من السماء كي أستنتج أنهم سُكّان السماء؟ وأيّ سماء؟ إذ يقال إن السماوات سبع... هل سقطوا من طائرة ما؟ طائرة ضخمة تحمل المئات، بل الآلاف من البشر من مختلف الأعمار والجنسيات؟
رفعتُ رأسي كي أتتبّع حركة السقوط وكي أتمعّن في مكان انطلاقه، ولكنني شعرت بدوخة طفيفة كتلك التي نشعر بها حين نتابع سقوط ندف الثلج ونحن نقلب الرأس ونُثبّتُ النظر في ما هو أبعد من النُّدف هناك، فوق. كانوا خلال سقوطهم يدورون حول أنفسهم قليلًا أو كثيرًا. لم تكن على وجوههم تعابير ما. وجوه غير مُعبِّرة، لا خوف ولا قلق ولا يأس يصبغ سحناتهم.
هل جاؤوا من الفضاء، هل هم سكّان كوكب آخر؟ لكنهم يلبسون مثل ما يلبس سكّان الأرض في هذا العصر بالذاتǃ هل يكونون قُرَناءنا في بُعدٍ موازٍ آخر أو في مجرّة أخرى واصطدم بُعدهم ببُعدنا لأسباب معقّدة فنتجت هذه الظاهرة غير المعقولة؟ ما الذي يحدث بحق السماء؟ǃ
كنتُ واقفًا في مكان مرتفع... وقد تسلّقتُ جبلًا ووصلت إلى منتصف ارتفاعه. هي رياضة أقوم بها من وقت إلى آخر لأرفِّه عن نفسي. وهنا وقع ما وقع... لكنّ الشيء الأكثر غرابة هو أنهم حين يصلون إلى سطح الأرض يختفون تمامًا كما تفعل ندف الثلج الخفيفة التي تذوب وكأنها لم تكنǃ كان الأمر غير قابل للتصديق، ومع ذلك ها هو يحدث أمام عينيّ... كنتُ وحدي، ولذلك تسلّل الشك إلى قلبي، وإلى عقلي. لو كان هنالك مَن يصحبني لسألتُه لأتحقق ممّا تراه عيناي، أهوَ محض خيال وتخريف، أم حقيقة رهيبة وظاهرة جديدة لم تحدث من قبل؟
لكنني مضطر كل الاضطرار لأعتمد على حواسي كي أجزم أن كان ما يجري حقيقة. أغلقتُ جفنيّ مرارًا وتكرارًا، وسدّدتُ كفّين جافّين لخدَّيَّ، ونظرت حولي... ما زال أولئك البشر يسقطون هنا وهناك بلا تعابير، بلا صراخ، بلا بكاءǃ
رأيتُ بينهم رجلًا يلبس بدلة سوداء أنيقة بربطة عنق، وكان يحمل حقيبة جلدية فخمة من النوع الذي يحمله رجال الأعمال... دار قليلًا حول نفسه وهو يهوي كأنه ورقة خريفية آفلة، ثم ذاب فوق سطح الأرض. على يميني لمحتُ طفلًا يحمل لعبة: سيارة إطفاء. لم ينظر إليّ. كان يتابع سقوطه برتابة غريبة. وهناك، على بعد أمتار قليلة، فتاة جميلة ذات شعر نحاسي لامع، ترتدي فستان سهرة من القطيفة الداكنة، يُفصِّل بدقة منحنيات جسدها الرشيق، تهوي بخفة الريشة النَّوْرَسِيّة في أُمسية بَحْرية. بعد لحظات، اختفت الفتاة وهي تلامس الأرض.
استمر انهمارهم والسّكينة تلفّ تلك الظهيرة لفّا لا فكاك منه، وكأنهم سيل بشري لا نهاية له. بقيتُ متسمّرًا في مكاني في الجبل، أرمقهم وكأنهم محض أشياء لا روح لها رماها شخص ما هناك، في الأعلى.
هل هي لعبة ماكرة، أم تجربة علمية تفتقر إلى الرحمة الإنسانية؟
كلّ شيء ممكن في هذا العصر الذي رأينا فيه الأعاجيب.
فكّرتُ قليلًا، أأنتظر نهاية هذا التحول الطّقسي الذي يسقط فيه البشر من السماء بدلًا من المطر، أم أعود أدراجي وأبتعد بسرعة عن هذا المكان الغريب؟
حرّكتُ قدمَيّ وقد كنت مثبِّتًا إيّاهما على سطح صخرة بارزة، فإذا بها تميد تحتهما، وإذا بي أسقط من الجرف لأجدني أرفرف كالورقة التي لا حول لها ولا قوة، في قلب الفراغ. دُرت قليلًا حول نفسي وأنا أَهْوِي. شعرت في البداية بالخوف يتملّكني. صدرتْ مني صرخة سرعان ما انطفأت، فقد انتابني إحساس لم أختبره من قبل. شعرتُ أنني ندفة ثلج تسحبها قوة خفية إلى الأسفل. استسلمتُ لتلك القوة الغامضة وأنا أمنحها كل كياني وثقتي. اختلطتُ بالبشر الآخرين الذين كانوا ما زالوا يسقطون بهدوء، وحينها لم أعرف إن كنتُ أنا هو أنا. فقدتُ تمامًا في تلك اللحظة إحساسي بذاتي.
(15/12/2021)
*كاتبة وشاعرة من الجزائر.
رفعتُ رأسي كي أتتبّع حركة السقوط وكي أتمعّن في مكان انطلاقه، ولكنني شعرت بدوخة طفيفة كتلك التي نشعر بها حين نتابع سقوط ندف الثلج ونحن نقلب الرأس ونُثبّتُ النظر في ما هو أبعد من النُّدف هناك، فوق. كانوا خلال سقوطهم يدورون حول أنفسهم قليلًا أو كثيرًا. لم تكن على وجوههم تعابير ما. وجوه غير مُعبِّرة، لا خوف ولا قلق ولا يأس يصبغ سحناتهم.
هل جاؤوا من الفضاء، هل هم سكّان كوكب آخر؟ لكنهم يلبسون مثل ما يلبس سكّان الأرض في هذا العصر بالذاتǃ هل يكونون قُرَناءنا في بُعدٍ موازٍ آخر أو في مجرّة أخرى واصطدم بُعدهم ببُعدنا لأسباب معقّدة فنتجت هذه الظاهرة غير المعقولة؟ ما الذي يحدث بحق السماء؟ǃ
كنتُ واقفًا في مكان مرتفع... وقد تسلّقتُ جبلًا ووصلت إلى منتصف ارتفاعه. هي رياضة أقوم بها من وقت إلى آخر لأرفِّه عن نفسي. وهنا وقع ما وقع... لكنّ الشيء الأكثر غرابة هو أنهم حين يصلون إلى سطح الأرض يختفون تمامًا كما تفعل ندف الثلج الخفيفة التي تذوب وكأنها لم تكنǃ كان الأمر غير قابل للتصديق، ومع ذلك ها هو يحدث أمام عينيّ... كنتُ وحدي، ولذلك تسلّل الشك إلى قلبي، وإلى عقلي. لو كان هنالك مَن يصحبني لسألتُه لأتحقق ممّا تراه عيناي، أهوَ محض خيال وتخريف، أم حقيقة رهيبة وظاهرة جديدة لم تحدث من قبل؟
لكنني مضطر كل الاضطرار لأعتمد على حواسي كي أجزم أن كان ما يجري حقيقة. أغلقتُ جفنيّ مرارًا وتكرارًا، وسدّدتُ كفّين جافّين لخدَّيَّ، ونظرت حولي... ما زال أولئك البشر يسقطون هنا وهناك بلا تعابير، بلا صراخ، بلا بكاءǃ
رأيتُ بينهم رجلًا يلبس بدلة سوداء أنيقة بربطة عنق، وكان يحمل حقيبة جلدية فخمة من النوع الذي يحمله رجال الأعمال... دار قليلًا حول نفسه وهو يهوي كأنه ورقة خريفية آفلة، ثم ذاب فوق سطح الأرض. على يميني لمحتُ طفلًا يحمل لعبة: سيارة إطفاء. لم ينظر إليّ. كان يتابع سقوطه برتابة غريبة. وهناك، على بعد أمتار قليلة، فتاة جميلة ذات شعر نحاسي لامع، ترتدي فستان سهرة من القطيفة الداكنة، يُفصِّل بدقة منحنيات جسدها الرشيق، تهوي بخفة الريشة النَّوْرَسِيّة في أُمسية بَحْرية. بعد لحظات، اختفت الفتاة وهي تلامس الأرض.
استمر انهمارهم والسّكينة تلفّ تلك الظهيرة لفّا لا فكاك منه، وكأنهم سيل بشري لا نهاية له. بقيتُ متسمّرًا في مكاني في الجبل، أرمقهم وكأنهم محض أشياء لا روح لها رماها شخص ما هناك، في الأعلى.
هل هي لعبة ماكرة، أم تجربة علمية تفتقر إلى الرحمة الإنسانية؟
كلّ شيء ممكن في هذا العصر الذي رأينا فيه الأعاجيب.
فكّرتُ قليلًا، أأنتظر نهاية هذا التحول الطّقسي الذي يسقط فيه البشر من السماء بدلًا من المطر، أم أعود أدراجي وأبتعد بسرعة عن هذا المكان الغريب؟
حرّكتُ قدمَيّ وقد كنت مثبِّتًا إيّاهما على سطح صخرة بارزة، فإذا بها تميد تحتهما، وإذا بي أسقط من الجرف لأجدني أرفرف كالورقة التي لا حول لها ولا قوة، في قلب الفراغ. دُرت قليلًا حول نفسي وأنا أَهْوِي. شعرت في البداية بالخوف يتملّكني. صدرتْ مني صرخة سرعان ما انطفأت، فقد انتابني إحساس لم أختبره من قبل. شعرتُ أنني ندفة ثلج تسحبها قوة خفية إلى الأسفل. استسلمتُ لتلك القوة الغامضة وأنا أمنحها كل كياني وثقتي. اختلطتُ بالبشر الآخرين الذين كانوا ما زالوا يسقطون بهدوء، وحينها لم أعرف إن كنتُ أنا هو أنا. فقدتُ تمامًا في تلك اللحظة إحساسي بذاتي.
(15/12/2021)
*كاتبة وشاعرة من الجزائر.