Print
مصطفى حديد

حمّام التحتاني

29 يوليه 2024
سير

في آخر نقطة على القناة التي تخترق القرية من جنوبها إلى شمالها، أقيمت طاحون "العرجا"، يليها حمّام التحتاني، وهما بناءان يعودان إلى زمن بناء البلدة في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.
بعد خروج الماء من صهريج الطاحون، ينطلق متعرجًا كأفعى بين حقول القرية، بينما يدخل فرع إلى الحمّام يغذي مرجل تسخين الماء، أو القازان.
والبحرة القائمة في منتصف القاعة الرئيسة ينبع ماؤها من عمود حجري في مركزها مرتفع قليلًا عن جوانبها لينساب فوق أضلاعها الثمانية متابعًا طريق العودة إلى القناة.
على الواجهة الشرقية المصمتة، في أقصى زاويتها الشمالية، أقيم باب الحمّام على إطار حجري يعلوه قوس، ويفضي إلى دهليز ضيق يهبط غربًا إلى صالة الحمّام الرئيسة، قاعة واسعة مربعة الشكل تعلوها قبة مزينة بعيون من الزجاج السميك لإنارة المكان. في ثلث القاعة الجنوبي، ترتفع الأرض ثلاث درجات مشكلة ما يشبه خشبة مسرح تحيط بجوانبها الثلاثة مقاعد حجرية مستمرة تؤمن مكانًا للجلوس وممارسة متع الحمّام، من طعام وشراب ونميمة، أحاديث خافتة تتناول الحوادث التي تقع تحت السطح في مجتمع صغير مغلق يصعب، أو يستحيل، فيه إخفاء شيء.
في الجدار الشرقي للقاعة باب مغطى بقماش خفيف يؤدي إلى صالة الاستحمام، غرفة مربعة أصغر قليلًا من الصالة الخارجية توزع على أضلاعها أجران حجرية تملأ بالماء الساخن والبارد من فتحات في الجدار لها سدادات خشبية تغلقها بإحكام، وفي جدارها الجنوبي فتحة تفضي إلى المقصورة، غرفة صغيرة مقامة مباشرة فوق الموقد (القميم)، وتكون حرارتها مرتفعة تسبب التعرق الشديد، ولهذا السبب كانت النسوة يحرصن على إدخال الأطفال إليها لمزيد من النظافة.
في خمسينيات القرن الماضي، كان القمل يرتع في رؤوسنا وثنايا ثيابنا، وكان الحمّام ترفًا يتاح في مناسبات متباعدة، كالزيجات التي يستغلها المقربون للحلاقة والحمّام المجاني، وفي أيام الدفء يغسل الأطفال في أطباق بقليل من الماء الساخن، في باحة الدار، أو ضمن الغرفة، وكانت المعاشرة الزوجية تشكل عبئًا ثقيلًا على النساء في أوقات البرد التي تغطي أكثر من نصف السنة، فالرجل في إمكانه الذهاب إلى الحمّام ليغتسل قبل الفجر، ويصلي الصبح حاضرًا في الجامع المجاور. كما أن في مقدوره الغطس في ماء القناة من دون حرج.
قال شاعرنا:
حارتنا مللا حاره/ فيها حمّام وطاحون. وجامع فيه المناره/ وخلوة تلفي كل زبون.
في يوم ربيعي، صعدت الشمس باكرًا ناشرة أشعتها الذهبية الخجولة، تبعث الدفء في مفاصل قريتنا التي أضناها وأمضها البرد، دخلنا الحمّام، والدتي وأنا. ناظرة الحمّام امرأة خمسينية تأملتني كما يتأمل جزار خروفًا عند شرائه، ثم تحدثت مع الوالدة بكلام ما فهمت منه شيئًا، قبل أن تسمح لي بالدخول.
على خشبة المسرح، هيأت الوالدة لوازم الجلسة، تفقدت الجوز، والزبيب، والتين، والمشمش اليابس، وحبات من البرتقال، مما يعد شيئًا ثمينًا في تلك الأيام، ثم تعرت، ونزعت ثيابي، ودلفت إلى حجرة الاستحمام.
ازدحام وضوضاء وصراخ الأطفال يختلط مع رنين الطاسات النحاسية على البلاط. وجدنا مكانًا إلى جوار امرأة نحيفة طويلة شعرها يغطي معظم جسدها، وثدياها متدليان ممطوطان كثديي معزاة هرمة، وإلى جانبها تجلس صبية مرحة، وهما منهمكتان في صب الماء على جسديهما يمينًا ويسارًا. بعد أن غسلت أمي رأسها بالماء والصابون، فركته بمسحوق الأشنان، وقبل أن تخرج إلى الصالة لمشاركة النسوة، دفعتني إلى الصبية راجية منها أن تغسلني في المقصورة، وضعت مزيدًا من المسحوق في شعرها وخرجت.
والأشنان نبات صحراوي معمر يوجد بكثرة في المناطق المحيطة بقريتنا. ولاحتوائه على نسبة عالية من الصوديوم كان أهالي المناطق البعلية الواقعة شرقنا يجمعونه غضًا، ويجففونه، ثم يطحنونه على شكل مسحوق، ويأتون لمبادلته بمنتوجاتنا.
عملت الصبية بهمة عالية، فمررت الليفة المشبعة بالصابون على كل أنحاء جسمي، ثم تابعت الفرك بالكيس، وأعادت الكرَّة بالماء والصابون وبحركة دائرية من يديها، متابعة سكب الماء. الآن صرت فلة، قالت لي وأوقفتني وأدارتني مواجهًا لها وهي تجلس على كرسي من خشب الجوز، هو عبارة عن عارضة صغيرة على دعامتين متوازيتين بحجم الكف.
قالت لي: أغمض عينيك لئلا يؤذيهما الصابون، ثم جذبتني إليها وضغطتني بقوة كادت تزهق روحي، صرت محاطًا بها كلقمة سائغة في فم جائع، يد تطوقني، والأخرى تضغط على إليتي بحركة متشنجة. أحسست، عندها، إنني بحاجة شديدة إلى التبوّل...
بعد شهر، أو يزيد قليلًا، كانت صالة الحمّام أقل ازدحامًا. جلسنا إلى جوار امرأة قصيرة تميل إلى البدانة، متجهمة عابسة كأنما فقدت عزيزًا، طلبت من والدتي لوح الصابون متذرعة بأنها نسيت أن تجلب صابونتها. أعطتها الصابونة، وطلبت منها أن تغسلني وخرجت.
أجلستني أمامها، وكلما تراجعت قليلًا إلى الوراء تبعدني. ولما قالت لي صار رأسك وظهرك كالفلة، أضافت: خذ الليفة ونظف نفسك من الأمام. استدرت لأقول لها لا أستطيع ذلك، فأدارتني بعصبية: لا يحل لك أن تنظر إلي...
ونحن نغادر الحمام للمرة الأخيرة في دور النساء، قالت ناظرة الحمّام بلهجة قاطعة: هذه المرة الأخيرة التي يسمح فيها بإدخاله مع دور النساء!

*كاتب سوري.