Print
رشا عمران

في صالة بانونيكا

25 أغسطس 2024
يوميات
كانت تقف أمام البار تحمل كأس نبيذ أحمر في يدها
عيناها غائمتان
لم يكن الضوء الخافت في الصالة هو السبب
تلك الشابة التي في الثلاثين عيناها تدمعان
ابتسمت لي حين اقتربت من البار لأحمل كأس نبيذ أحمر مثلها:
كأن العرض اليوم كان قصة حياتي
قالت لي وهي تمسح عن خدها المصقول بقايا دمعة صافية
تلك الشابة التي في الثلاثين الواقفة أمام البار تحمل كأس نبيذ أحمر في يدها.
في صالة بانونيكا بعد أن أنهينا العرض رأيت نفسي في كل النساء اللاتي كن هناك.
قالت لي شابة مغربية: ياااااه أنا أشعر بنفس الوحدة التي كتبت عنها! نحن النساء نتوالد من أنفسنا!!
اعترض شاب فرنسي قائلا: نحن نشعر بالوحدة أيضا، يقضم فأر الوحدة أرواحنا حتى يدميها.
في صالة بانونيكا المكتظة في نانت كانت الوحدة، وحدها، سعيدة بانتصارها.
هل تشعرين بالوحدة أنت أيضا؟ سألت إيزابيل صديقتي الفرنسية وشريكتي في العرض وهي تقترب لتشاركنا حديثنا.
- حين أكون على المسرح أشعر صخب الكون في داخلي، قالت إيزابيل: مثلك تماما حين تكتبين الشعر تستدعين الحياة والعالم إلى روحك، وحين تنتهين تتسع تلك الصحراء التي تقفين فيها وحدك.
أنا شجرة وحيدة تركتني الحياة على مفترق طرق عديدة كما لو أنني أشتهي عابرا ما ليمدّ يده ويمسح عن أوراقي الجفاف، كما لو أنني منذورة للانتظار. أنا شجرة وحيدة لا عصافير تأتي لتنام بين أغصاني ولا يأتي حطّاب ليقتلعني؛ جذوري عميقة جدا، منذ حواء وهاجر وميديا وإلكترا وأوفيليا وبانونيكا وبينلوبي.... أنا بينلوبي... مثلها أتقن الانتظار وأحيكه حبكة حبكة، مثلها أتقن الوحدة وأرتديها ثوبي اليومي. أنا شجرة وحيدة جذوري الآن تمتد من دمشق إلى القاهرة ومن القاهرة إلى هنا.
في صالة بانونيكا أجلسنا الوحدة على كرسي في المنتصف وألبسناها ثوب عرس أبيض.
يبدو العالم مألوفا هنا في نانت! قلت لنفسي وأنا أحاول التأقلم مع خدر النبيذ في رأسي المتعب.
هل جئت إلى هنا سابقا؟ هل تحدثت مع العابرين في الشارع والسكارى في البارات والنساء اللاتي يفترشن الشوارع الباردة؟
كما لو أن نانت نص من نصوصي عن الوحدة، كما لو أن بانونيكا هي المرأة التي وجدت قبلي في كل مكان، كما لو أن الشابة الغريبة الواقفة على البار، والشابة المغربية والشاب الفرنسي وتلك السيدة الخمسينية التي ترتدي وشاحا من الحزن وذلك الرجل الستيني وهو يمسح غبش الفقد عن نظارته بحركة اعتيادية. كما لو أنني عرفت الجميع في حياة سابقة!! من أين نأتي وإلى أين نذهب وكيف نشعر أننا كنا هنا في يوم ما؟!
- أحب موسيقى الجاز، تشبه طريقتي في كتابة الشعر، تشبهني، الحزن والفرح فيها أصيلان، ما هي الوحشة غير ذلك الخط الطويل الذي يسير عليه الحزن والبهجة متعانقان؟
تلك الليلة في نانت، حين وقفت على المسرح الصغير في صالة بانونيكا، ارتعشت كما لو أنني أرتجل الحزن، كما لو أنني ساكسفون يعزف نفسه، ارتعشت كما لو أنني أغنية نفسي كما لو أن نفسي هي كل المحيطين بي.
- كلنا قصائد أنفسنا يا سيدتي، قال لي رجل وسيم ترافقه زوجة باسمة.
ما الذي يمنع امرأه مثلي على أبواب الستين من أن تغازل رجلا وسيما يتأبط ذراع زوجته؟ طرحت السؤال على الزوجة فابتعدت وهي تضحك ضحكة عابثة.
ابتعد الزوج أيضا
هل كان يخشى من مغازلتي؟
كل ما هنا مخصص لترتيب تفاصيل الوحدة: البار الممتلئ، الصمت، موسيقى جاز خافتة، ضوء شاحب،
تلك نهاية عرض مثقل بالوحدة تقدمه امرأتان بلغات النساء كلهن (يا ناطرة وحدك على مهب الهوا متلك أنا شجرة علي مفرق طريق)
في صالة بانونيكا كانت النساء أشجارا، والصالة غابة، كنت أمشي وحدي في تلك الغابة لا رفيق لي ولا عشيق، قلبي الخبير بتقطير الألم كان يسقي شجر الغابة فتخضر أوراق الحزن وتزهر.
لماذا نأتي إن كنا سنذهب بعد قليل؟
لماذا ندخل الغابة وننتظر ونحن ندرك أن الشجر لن يتحرك؟
لماذا نبكي حين نغادر؟
في صالة بانونيكا النبيذ هو من يطرح الأسئلة، النبيذ المعتق الذي يشربه عازفو الساكسفون والشعراء والغاوون. أما العرض فليس سوى محاولة تفكيك التعتيق عن القلوب المتلفة التي تقف كأشجار وحيدة في مفترق طرق الموت.
قالت السيدة التي تقدم النبيذ على البار: في هذا المكان يعرف الجميع أن غودو هو الموت، ومع ذاك ننتظره جميعنا كل يوم هنا، ربما إذا جاء وسمع عازف الساكسفون وسمع شعرا جميلا وشرب النبيذ من كؤوسنا سوف  يرقص رقصة التمرد على سيده الله منتصرا للحياة.
في تلك الليلة في صالة بانونيكا كانت الوحدة ترتدي فستانا أبيض بطرحة بيضاء طويلة تغطي الصالة كلها وتجلس على كرسي في المنتصف وتتزوجنا كلنا.