Print
سعد القرش

الفرارجي

28 أغسطس 2024
قص



ورث عبده عن أبيه أشياء، صفات اكتسبها بالمران والملاحظة، والتعلّم القاسي، حتى ضاق بأبيه، ولم يرث اسمه، لم يعرفوا لأبيه اسمًا، لقّبوه بالفرارجي، اللقب يحمله تجار الفراخ الحية والمذبوحة، ومعظم تجار الفراخ المذبوحة من النساء، ولم تكن أم عبده إحداهن، يتذكرون قوامها، وينسون وجهها، جاءت إلى القرية، الأدق جيء بها، لكي تكون رحمًا لعبده، امرأة وعاء، ولدته وأرضعته وفطمته واختفت، وضحك الناس قائلين إن الفرارجي شاطر، سحر المرأة، والمغربيات بالفطرة ساحرات، ولا يسحر ساحرة إلا الأسحر منها، ويسألونه أين المرأة يا فرارجي؟ فيشير إلى السماء، ولا يعرف السائلون هل يقصد أن الله أعادها إلى بلادها، أو أنه أخذها بعد أداء رسالة انتهت بفطام الولد الذي كبر، وورث عن أبيه شيئًا من الحكمة في التعامل مع الفراخ، وخصوصًا البيض، وحمل عبده لقب الفرارجي، اللقب دون المهنة، فلا ربّى الفراخ، ولا باعها حية أو مذبوحة، ولا تاجر في البيض، ولا يطيقه نيّئًا مثل أبيه، وإن ظل حريصًا على حكمة الأب، فلا يكسر بيضة إلا لسبب. وينظر عبده إلى النجوم المزيّنة لكتفيه، ويترحّم على أبيه الذي نبّهه إلى الصاغ، ويتنهد، ملامحه محايدة، تغنيه رتبته ووعود الترقي عن الأصل المجهول لأبيه، ولم يعد يلعنه، ويراه من خصاص العشة، والشمس أشرطة تضيء وجهه، وتقلّم جلبابه، تبعًا للمسافات بين أعواد الغاب، ويقلّب البيض على الموقد بملعقة خشبية، ولا أثر لكسر أو شرخ، ويعطيه أول درس يمكنه من البقاء في أوزير، وفي قرى سمنود، التي لم يستقر فيها غريب، قبله أو بعده.
ـ شايف البيض يا عبده؟
ـ آاا، شايف.
ـ شايف إيه؟
ـ بيض.
ـ عارف أنه بيض يا بهيم، ركّز، شايف البيض الضعيف واحتماله الغليان.
ـ عادي.
ـ افهم يا بهيم.
ويمسك الفرارجي بيضة من زاوية العشة، يضعها في صحن، يصبّ عليها قطرات من ماء طنجرة تغلي بالبيض الصامد، فتنفجر البيضة النيئة، ويعاجل ابنه برمي البيضة المختلط صفارها ببياضها بقشرها المتهشم بقطرات الماء الذي فقد حرارته، يلقيه في وجهه، ويسيل على رقبته، ويلوّث جلبابه الكستور.
ـ فهمت يا بهيم؟
ـ البيض آاا
ـ بيض إيه؟ اغسل هدومك، وفكّر في كلامي، وتعال.
لا يذكر الفرارجي عمن ورث، أو تعلّم، نظرية البيض، والولد عبده صغير، حرون، صغير على التعلّم، لو يستطيع صفع أبيه، لكن يد الأب في حجم الطالوش، وقدمه لا يتسع لها مداس، ولسنين طويلة ما احتاج إلى مداس، حتى أرسله العمدة إلى الإسكافي، وقد اختاره مشرفا على الإسطبل، ونبهه إلى مراعاة المقامات، فامتيازه بمداس وإشرافه على الخيل لا يمنحه شرف ركوب أي فرس، إلا في نطاق الغيط وخارج الزريبة داخل الدوّار، ولا يصح أن يتساوى مع السادة على السكة، فيلهث وراء سيد رأسه في السحاب، ويحمد الله الذي رزقه من سعة، وقرّبه إلى العمدة، وساس الخيل. والطريق إلى الإسطبل مرّ بعشة بناها الفرارجي على مشارف القرية، واعتاد السارحون إلى الغيطان مع الشروق، والعائدون آخر النهار، رؤية ذلك الغريب، لا يجترئ على دخول حرم البلد، وقدّروا احتشامه، وغضّ بصره كلما مرّت به امرأة، وحفاظه على حرمة المسافات، واكتفاءه بعطايا البعض نظير أعمال تتطلب قوة عضلية يسعفهم بها، وسمح له العمدة ببناء غرفة من غاب مدهوك بعجين الطين والتبن، وترك جدارها الغربي عاريًا من الطين، فلا تكون الغرفة إلا عشة، وبابها من غاب يغلق من الداخل بخطاف خشبي يستقر في منيم من الخشب. ومن هذا الجدار تتسلل الشمس، فيرى الولد عبده الضوء يتقاطع على وجه أبيه القاسي، ويفهّمه حكمة البيض، في درس أول، بعد أن غسل الجلباب، ونشره على العمود في زواية العشة، وظل باللباس الأبيض المحتفظ برأسين من النجمة الخضراء في علم غطى واجهة العشة، تحية لمصطفى باشا النحاس في زيارته لأوزير في الانتخابات الأخيرة، وعبده كان صغيرًا، ولا ينسى الباشا المهيب، ويسمع كلام أبيه فيلوّح للباشا البشوش، ويهتف باسم الباشا، ويرى أباه ينحنى إكبارًا للباشا، ولا يعلم الباشا أن الغريب المسكين قد لا يناله أكثر من قماش لافتة الإعلان على العشة، والمساحة البيضاء الخالية من النجمة والهلال وشعار الحزب والرمز الانتخابي لن تكفي إلا لباسين، والخياط احتال وصنع لعبده لباسه الذي يستر عورته، بعد نشر الجلباب في الشمس، ويرفع الأب قامته، ويمتن لانتخابات منحته لباسين ولباسًا للولد، ويدعو الله أن يكثر الانتخابات، ويبتسم الأب للباشا، ويتذكر البيض.
ـ البيض يا عبده.
وعبده لا يعرف ماذا يريد أبوه، أيسأل أمْ يأمره بشيء لا يبوح به، ويختبر ذكاءه، يريده أن يخمّنه.
ـ نعم البيض، ماله البيض؟
البيض؟ يكاد الأب يشكّ في نباهة الابن، يطوّل باله في الشرح، عبده يا حبيبي، البيض أنواع، بيض للأكل، وبيض له ديك ترقد عليه الطيور يفقس، البيض الذي أبوه ديك كسّر الفرخة، وبعد التكسير يدوخ وينام، والفرخة من الفرحة تقوم تجري، والبيض الملقّح أغلى، خسارة في الأكل، والأولى أن يفقس، الفقس كسر من داخل البيضة يخرج منه كتكوت إلى نور الله، وكسر البيضة من الخارج يتلفها، البيض حساس يا عبده، والناس بيض، والبيض ينفجر إذا صبّ عليه ماء ساخن، حتى دون الغليان، لكنه يحتمل الغليان لوقت طويل ما دام في صحبة الماء البارد، ويستقبلان معًا حرارة الوقود، يتشرّبها البيض بالتدريج ويعتادها، فإذا غلى الماء تكون البيضة قد استوت، تيبست وتجبّنت، واستعدت لمزيد من غليان يزيدها احتمالًا ولا تتشقق، والقشرة التي كانت هشّة تحمي وتحتمي، افهم يا عبده، الناس كذلك تزمهر وتغضب، تشتعل وتثور إذا فاجأها شيء فوق الطاقة، جرّب دلْق ماء بارد أو ساخن على وجه مخلوق أو يده، بلا شعور لن يتردد في صفعك، هو نفسه يحتمل الاستحمام بماء بارد في طوبة، وماء معطنة الكتان برائحة العطن والدّود السابح في شمس بؤونة، خذ الناس باللين، خطوة خطوة، لا تطلب الشيء مرة واحدة، اقترب من السبع بالمرور، ثم تحايل عليه بإلقاء لحم طازج من بعيد، وفي خطوة تالية يألفك، وتتمكن منه، ابدأ الناس بالتلميح، اخلق عندهم الرغبة في التعاطف معك، تظاهر بالمسكنة يشفقوا عليك، لمّح واتركهم، ثم عُد إليهم تجدهم مستعدين للتفاهم والقبول، سيكون البيض والماء دافئين، والبيض يعتاد الدفء والسخونة، وارتفاع الحرارة حتى الغليان ولا ينفجر، فهمت يا عبده؟
ـ فهمت.
ـ شكلك يقول إنك فاهم، وفّرت عليّ الشتيمة يا بهيم.
ـ نعم فهمت كلامك، وفّر الشتيمة.
ـ تستأهل بيضة.
وكانت المياه قد تبخرت قليلًا، وظهرت قمة البيضة، وابتسم عبده، كوفئ ببيضة بين وجبتين، ينال في أولاهما بيضة مما يجمعه أبوه من بيض، في غفلة من أصحاب البط السابح في الترعة المقامة على شطّها العشة.
ـ بشرط ترد على سؤال، سؤال واحد يا عبده.
ـ اسأل.
ـ قبل السؤال أشرح لك.
من الجوع يجري ريق الولد، وعينه تفلق الطنجرة، ويسأم من الأب الذي يواصل الشرح، يقول إذا تركت البيضة أطول مما يجب، وظلت على النار، تبخّر الماء، ولا يحول شيء بين النار والبيضة في قعر الوعاء الملسوع من تحت، تهمل البيضة فتنفجر، تفقد البيضة يا عبده، ويضيع وقتك والوقود وتتسخ الطنجرة، تسوّد من الداخل، ومن الخارج يكسوها السخام.
ـ نعم.
ـ نعم إيه؟ فهمت؟
ـ انفجار البيضة والشياط.
ـ يختلف عن الانفجار الأول؟
ويشير الأب إلى وجه عبده وصدره، والجلباب المغسول بعد الانفجار الأول، ويرمز إلى ابنه أن يجيب.
ـ في الأول تنفجر، وفي الآخر تنفجر.
يكظم الأب غيظه:
ـ عرفت أنك بهيم؟ أنت نفسك قلت "الشياط" في الانفجار الأخير.
ـ وفي الانفجار الأول تلزيق وتوسيخ للهدوم.
يدرك الأب ضرورة التخفيض من لهجة التعنيف، فالولد نفسه قد ينفجر، يهجّ من البلد، ويطفش من وجه أبيه الذي يجب أن يعلمه على مهل، لا فائدة من وصفه بالبهيم ولو أنه بهيم، الانفجار الأول حماقة، رد فعل تلقائي لعدم التمهيد، وتجاهل حكمة التروّي، الناس أيضا تحتاج إلى الاعتياد البطيء، حتى يتقبلوا الأمر، فلا يرتكبوا حماقة الهياج التلقائي، وصفع من يرشّهم بماء ساخن يهشم البيضة النيئة، والإهمال يا عبده ينتهي بالانفجار الثاني المصحوب بالشياط والسخام، وقد يؤدي إلى حريق، فإذا استوى البيض، واحتمل الغليان، فارفعه عن النار، أو أطفئها، أو أضف المزيد من ماء سيغلي ويحمي البيض من خطر الانفجار، الموضوع بسيط يا عبده، وسهل.
ـ سهل خالص، فهمت.
وفقدت البيضة حرارتها، ويخبطها الفرارجي في حافة الإناء، ويرمي قشرها، وبين أصابعه الإبهام والسبابة والوسطى تنتصب ملساء إلا من قمة تبدو نقرة في قعر الترعة يلوذ بها قرموط، في أيام الجفاف، ويجد فيها ماء شحيحا يحفظ حياته، حتى يأتي الدور ويغمر الترعة.
ـ شايف النقرة في البيضة يا عبده.
ـ آاا شايفها.
ـ تعرف سببها؟
يرفع كتفيه، يستغرب السؤال، ويستعجل البيضة ولا يريدها باردة، ويستعد برغيف عليه ملح بالفلفل والكمون، ويسيل ريقه، وأبوه طويل البال لا يضجر، وينبهه إلى أهمية غمر البيضة كلها بالماء طوال فترة الغليان، لتحيط القشرة بالبياض كاملا، والبياض بالصفار، ويكاد الأب يكف عن الكلام، لولا انسحاب عبده من لسانه، وقوله لأبيه إنه قلما يأكل البيض المسلوق الذي يطيل الكلام عنه.
ـ لا آكل المسلوق ولا المخفوق.
ـ مخفوق؟
ـ أقصد المقلي، سمعت خواجة مصري في البندر يقول "البيض المخفوق".
بردت الطنجرة، ويمسكها الفرارجي، ويأتي ببيضة نيئة ويكسرها، يدلقها في كوز نحاسي صغير، يخضّ الكوز، حتى يختلط الصفار بالبياض، ويرتشفها ويمسح فمه بظهر يده، وهكذا يتناول البيض نيّئًا، دافئًا، ويتسلل وراء العشة، يتصيد بيضا يزلقه بط وإوز يغادر مع الغروب، في سرب يتفرق في الدروب، كل يعرف طريقه، وتصادفه بيضة "بريشت"، لم تنضج قشرتها، لينة مثل محاشم الفرارجي في الصيف، فيثقبها بأسنانه ويشفطها بسرعة، محاذرا أن يراه أحد؛ فيتهمه بالسرقة، ويبلغ عنه، فمن يسرق البيضة يسرق الجمل، وبسرعة يصبّها في فمه، ويدفن القشر.
ـ أمي كانت تعرف حكاية الانفجار الأول أو الأخير؟
ـ أمك؟
ـ نعم، أمي، كانت تعرف؟ أظنها كانت تعرف، أظنها علمتك.
من النادر أن يأتي الولد، الذي يبتسم، على سيرة أمه، ويرى وجوم الأب فيصمت، لا أحد يعرف عن تلك الأم شيئًا، ظل الفرارجي وحيدًا في العشة حتى اكتسب ثقة الأهالي، وتشفعوا له عند العمدة، وانضم إلى التملّية، يسرح بالبهائم وينظف الزريبة، ثم رأى مواهبه أكبر من شؤون لا تحتاج إلى مهارات يتقنها حتى الأغبياء، فاختصه برعاية الخيل، وخصوصًا فرسه، وحيّرته معرفة هذا الأمي بما لا يعرفه علماء درسوا في الأزهر، ويرتقون منبر الجامع، ووجد عنده إجابات عن أسئلة يجهلها الكثيرون، ولا يعرفها إلا خبراء، وكان الاختبار الأول أمام شيخ الخفر وأعيان البلد، يستهدف إضحاكهم، بالاستهزاء بالغريب.
ـ من أين يجيء يا فرارجي البغل؟
تمنى الفرارجي أن يكون السؤال "من أين يا فرارجي يجيء البغل؟"، هل السؤال، الذي طرحه العمدة بلؤم، يعني أن الفرارجي أيضًا بغل؟ يعلم العمدة وضيوفه أن الفرارجي ليس بغلًا، الفرارجي رجل، فحل، أنجب ولدًا اسمه عبده، ودارى الفرارجي غضبه، ليس للفقير حق الانفعال، والفرارجي فقير وغريب منزوع الحقوق، وفهم البعض قصد العمدة، ولم ينتبهوا إلى غضب مكتوم يضطر إلى كبحه الفرارجي، ويجيد طمس آثاره.
ـ البغل ابن حمار عشّر فرسة.
ـ ولد ولا بنت؟
ـ البغل لا ولد ولا بنت، بغل، خنثى.
ـ ومن أين يجيء النغل؟
ـ من حصّان عشّر حمارة.
ـ وكيف نفرق بين البغل والنغل؟
ـ البغل أكبر لأن خاله حصان، والنغل أصغر لأن خاله حمار.
ـ لو فاجأك، من الطوالة، بروز رأسين، مخرطة واحدة، كيف تفرّق بين البغل والنغل؟
ـ أذن البغل أكبر؛ لأنه ابن حمار.
عجبوا لطلاقة لسانه، وسعة معرفته، والعمدة حسده، وتمنى إحراجه، واختبره بمخلوق يراه بعضهم للمرة الأولى، صغير الحجم، خفيف الظل، ناعم الشعر طويله، يبدو لعبة لولا أن فيه روحًا، وأنه من لحم ودم، لا يختال وإن تمتع بصفات تؤهله للسهوكة والاختيال، نزل عنه صاحبه احترامًا لمجلس العمدة الذي سأله عن عمر هذا المُهر، قال صاحب الحيوان إنه أعجبه شكله اليوم في سوق الأربعاء بسمنود، وبدا على وجه الفرارجي الإنكار، أنكر سؤال العمدة، ولم يجرؤ على الكلام ما لم يؤذن له أو يُسأل، ولن يؤذن له بتصويب سؤال العمدة وتصحيح كلامه، ثم أُذن له وسئل عن عمر "المُهر"، قال إنه ليس مُهرًا، ولم تلده فرس، وإنه نسي اسمه، ويعرف صفاته، وقد صادفه مع الغجر، وإنه لن يكبر، لن يصير حصانًا، يظل هكذا صغيرًا رشيقًا لطيفًا، وصاحب المخلوق تذكّر اسمه بالتقريب، شيء مثل سِرْس، سوس، سيس، سفوح، والعمدة كرر الكلمات الأربع، وقال إنه بالفعل دقيق وناعم مثل السِّرْس والسَّفوح، وأعرض عن الاسم، ونظر إلى الحضور، وسأل عن الصفة.
ـ من أين يجيء هذا المخلوق السيس؟
لم يغب عن فطنة الفرارجي أن العمدة يحسده، ويريد إحراجه مستغلًا حماسة معرفته، لكنه لم يوجه إليه السؤال، ولم ينظر إليه، وانتظر الإجابة من كبراء يضربون كفا بكف، صمتوا وأخفى الفرارجي شبح ابتسامة ثقة، وأذن له العمدة بالكلام.
ـ أمه فرسة وأبوه ثور.
وأتبع:
ـ عِجل بِكر، في أول نطّة.
ـ وينفع يعشّر فرسة؟
ـ الثور؟
ـ لا، أقصد المخلوق الصغير، السيس.
كاد الفرارجي يقول إن هذا الهجين "عقيم يا سيدي"، وألجم لسانه فسكت، وظنوا أنه يفكر، وكان يفكر في انتقام العمدة لو شمّ إهانة من قول "عقيم يا سيدي"، هل يردّ ويتفادي مناداة العمدة بسيدي؟ لا يليق، لا تتساوى الرؤوس ولا تقترب المقامات، ولا تشفع له معرفة ببغل أو نغل، وألهمته حذاقته.
ـ رفع الله مقامك يا سيدي، هو مخلوق عقيم.
ـ عقيم؟ ولو، تشفع له خفة دمه، هدية مقبولة، اسحب يا فرارجي.
تسلمه الفرارجي من الرجل الذي لا يملك أن يردّ للعمدة كلمة، وصعد الفرارجي مشرفًا على الإسطبل، وشكر العمدة واستأذنه في بقاء العشة، فاتحة الخير، ولم يعد العمدة يحسده ولا يتعمد إحراجه، واختبر إخلاصه، وأحبه وقرّبه، وصار رجله القوي الأمين، وأوشك الفرارجي أن يطلب الزواج، لا يهمه من تكون العروس، الأهم أن ينتسب إلى القرية التي قبلته أول غريب يقيم فيها، فيستطيع أن يقول كلما سافر إلى سمنود أو المحلة إنه من أوزير، وبفراسته رأى أن طلبًا كهذا يبعده، وربما يسبق الإبعاد تجريس، كيف يجرؤ؟ لا بيت له في البلد، لا عائلة يضع كبيرها يده في يد كبير عائلة العروس، لا أحد يعرف من أين أتى؟ ولا من أين جاء ليلًا بزوجته؟ استأذن في السفر، وعاد بامرأة، دعاها زوجته، وقيل إنها غجرية، ولم يرها أحد تركعها في المصلّى على شاطئ الترعة، ولا لمحتها امرأة تتوضأ أو تغتسل. وقالوا إن الغجر مسلمون، يتوضأون وإذا توضأوا صلّوا، وسألتها امرأة عن بلدها، قالت إنها من بلد السيد البدوي، سيدكم الولي في طنطا، من المغرب البعيد جاء جدها. وتهامس البعض بأن المشرق يأتي منه مسيحيون، ومن المغرب يأتي يهود، واختفت قبل أن يتأكد لهم بالحيلة أو بالإكراه دينها، وتركت عبده فطيمًا ورث عنها القصر وجمال العينين، كيف تتخلى أمّ عن ابنها؟ رجحوا أنها أُخفيت، ورجلها يحتمي من الجريمة بقربه من العمدة، ولا يخشى المساءلة، ثم سكتوا، ليسوا أولياء دم ليطالبوا بقصاص، وجود أم عبده على مسافة منهم لم يكن يؤنسهم، وغيابها لا يوحشهم، ويراها البعض في الابن عبده الذي كبر، والأب الفرارجي يصعد مع العمدة، فإذا حزب الملك تولى الحكم عزلوه، وعمدوا آخر من عائلة توالي حزب الأقلية، ولا يفارق الفرارجي سيده، ويحفظ الود، والعيش والملح، حتى تأتي أول انتخابات بحزب النحاس باشا، وتعيد العمدة ويكبر الفرارجي الذي لم يعد غريبًا، ويكبر عبده ولا تغيب عنه أصول نظرية البيض، كتومًا لا يسأل عن أمه ولو بالصمت، ولا يأبه لما يسمعه أحيانًا من نِثار كلام وشائعات، لا يحمل لها ذكرى، لا أكثر من رضاع أقل من عامين، لا شيء يدعو لسؤال أبيه من كانت، وأين ذهبت، وهل ترجع؟ يقلقه أحيانًا أن ليس له خال، الكثيرون يمكن أن يناديهم يا عم، ولا يستطيع مناداة أي منهم يا خال، سيفتح على نفسه أبوابًا أغلقها أبوه، وما يعلمه الناس أنها لم تدفن في مقابر البلد، ولعلها لا تزال حية، لكنها اختفت. كأن الفرارجي استقدمها لمهمة إنجاب عبده الذي كبر، وشهد اختفاء ما هو أكبر من أمه، زال عالم أبيه، حزب النحاس وأحزاب الملك والملك الذي أخرجوه، وصادروا الأرض من الأعيان وأولهم العمدة، وفاز الفرارجي بفدان دقّ له وتدًا في البلد، وجعل له بطاقة حيازة أرض زراعية، وظل يحافظ على العشة، وجه الخير، ولم يجرؤ على الزواج، لم يفكر في مصاهرة أحد، حتى ممن يملكون مثله فدانا، ولا ممن لم يصبهم الدور في الفوز بأي قطعة من أرض الإصلاح الزراعي، تفادى سؤال الناس عن أصله، وعن أمّ ولد لا يعرف له جدًّا، ولا يزوره خال، ولا يحكي عن أقارب، ويحرص على الصلاة في الجامع، وحفظ قصار السور في الكتّاب، وتعلم الحساب، ودخل المدرسة وكبر وسط أقران لهم أخوال، وشاخ الفرارجي، وكبر عبده واعيًا حكمة انفجار البيض، فصادق زملاءه، وقدم الاحترام الباذخ حتى إلى الذين لا يملكون مثله فدانًا، واستفتى إمام الجامع عن جواز دفن الغريب المسلم في مقابر المسلمين، سأله بهذا التعميم، ثم سأله هل يجوز للغريب الذي حاز أرضا من الثورة أن يحوز مقبرة؟ فأجاز له، وتفهم أن تكون للفرارجي تُرب، عاش الرجل هنا وأنجب، الزوجة رحلت، نعم، لعله قتلها وأخفى جثتها كما يخفي أصله ودينها، وهذا ابنها يحمل شنطة المدرسة، ولا يختلف عن أقرانه، وفي العشة يرى أمه ترفع عينيها إلى السماء، يناديها ولا تلتفت، يقبل عليها، وعيناها تتعلقان بالسقف ورأسها مرفوع، من أنت يا أمّ؟ دليني على أخ لك يكون لي الخال الذي أنتظره، وأذكر اسمه وبلده، وجوده البعيد يسند ظهري، فأتزوج من البلد، ولا يعايرني أحد، وأؤسّس عائلة في بلد لنا فيه مقبرة، وقبل ذلك سيهدم العشة بذكرياتها، بالنحاس باشا الذي مرّ به أمام بيته في سمنود، رآه في حديقة البيت عجوزًا، مثقلًا بأكثر من مائة سنة، متهدل الكتفين، ناداه يا باشا يا باشا، أنا عبده، ردّ عليه إزيك يا عبده، واكتشف عبده أن الباشا أحول، أحول تمامًا ومهزول تمامًا، يجاهد لكي يبتسم، ويفرح بالنداء ويكاد ظهره يستقيم بالتذكّر، هل العزل يسبب الحول؟ يحكي عبده لأبيه عن رؤية الباشا، وعن رؤيته أمه في العشة، وأنه سألها عن أخواله، فطلبت أن يسأل أباه، وعبده يسأل أباه، وتجذبه ضجة في الخارج، كان شاب ذا كبرياء، صاغ أو بكباشي، وحوله ضباط وجنود، والناس يحيونه بحماسة استقبالهم للنحاس، وعبده يسمع كلام أبيه، ويلوّح للباشا الذي رآه في الروب المنزلي يتشمس في الحديقة، وأهل القرية يستقبلونه، ويهتفون بحياته، وفدائه بالروح والدم، ويحيون الضابط الشاب، ويهتفون للثورة، ولا يستطيع الفرارجي الخروج للمشاركة، وعبده كبر ولا يحتاج إلى امتطاء كتفي أبيه، وأبوه لن يدعوه إلى تحية الضابط، وفي سكرات الموت يذكّره بنظرية البيض، ويعده بالوصول إلى المراد، ويهمس يا عبده، حافظ على الأرض يا عبده، مالك أهلك، الناس تنسى، ببطاقة الحيازة الزراعية تضمن جذورًا، وبها تأتي بعروس من قرية أخرى، عروس معروفة النسب والأهل، وزملاؤك أهلك، اهدم العشة يا عبده، عش في البلد، وأسّس بيتًا جديدًا على رأس الفدان، ستتغير الدنيا يا عبده، والذاكرة تخون، ولا تتأخر كلما زار البلد ذلك الصاغ أو أي صاغ، سيكون لك اسم جديد، عبده الغريب، انس أباك الفرارجي، وتذكّر حكمة الحفاظ على البيض.