Print
فيصل خرتش

أهالي غزّة ليس لديهم عيد

7 أغسطس 2024
يوميات

قبل العيد الكبير بعدّة أيام، كان والدي يجمعنا ويمضي بنا إلى سوق المدينة، وعندما نصل إليه يضعنا في إحدى الزوايا، ويأخذ فتاة واحدة وذكرًا، لأنّ عددنا كبيرٌ ويصلُ إلى خمسة عشر نفرًا، كلُّهم سيشترون الثياب للعيد، من الحذاء إلى الهبرية، التي هي غطاء الرأس. يأخذ أبي كلّ اثنين ويشتري لهما زوجًا من الأحذية مع أمهما ثمّ يعودان وكلٌ حذاؤه تحت إبطه، وتأخذ الأم اثنين آخرين ثمّ تعود بهما إلى أن ينتهي التسوّق، ونعود إلى البيت عبارة عن كتلة من البشر تمشي بهدوء وحذر.

رفعنا ثياب العيد في خزانة الملابس، وصرنا نعدُّ الأيام كي نصل إلى يوم العيد، كلٌ له مطمورة يصمّد فيها النقود، وأبي يزيد لنا الخرجية، وأمنا كذلك، لنضع النقود في المطمورة، وكلّ يوم نراقبها ونهزّها لنرى هل أصبحت موزونة أم لا، فإذا ما جاءت ليلة العيد فتحناها وعددنا النقود التي فيها، وفي ليلة الوقفة، نذهب إلى حمّام السوق، نحن وبعض أولاد الحارة، ندخل إليها ونجلس على المصطبة، وخلال ذلك يلقي الحمامي إلينا بالمآزر، فنرتديها وننزل إلى الجواني، مرورًا بالبراني، أولاد من جيلنا ورجال يغتسلون، نصل إلى الجرن الذي في صدر الحمام المحجوز لنا، لأنّ بعضنا قد سبقونا وحجزوا الجرن، نغتسل وبكيس التفريك ندعك جسدنا ثمّ نتليّف، وقبيل الفجر نكون جاهزين لصلاة الصبح، نخرُج من الجوّاني على البرّاني، فيستقبلنا الحمامي وعلى كتفه المناشف، يضعها على وسطنا وفوق أكتافنا وعلى رؤوسنا، نستريح قليلًا، ونلبس ثيابنا النظيفة ونغادر إلى البيت.

ننطلق مع الوالد إلى المسجد، ونصلي صلاة العيد، وبعدها نزور قبور الأقرباء ونقرأ لهم، حينذاك يتركنا الوالد ويمضي للمعايدة، ونحن ننطلق في المقبرة، ونصرخ ملء صوتنا: "مقرّي مقرّي على روح مواتوا قبل ما تموت حماتو". ونقفز من قبر إلى آخر، سورة ياسين بربع ليرة، وسورة الرحمن بعشرة قروش، وأحيانًا يلقي أحد الزوّار كمشة من النقود، فنقعي ونلمّها؛ تجد حوالي عشرين صبيًا وهم يلمّون النقود، نتضارب ونتكامش، هذا لي وهذا لك، المهم في ذلك من يحصّل نقودًا أكثر.

نعود إلى البيت ونرتدي الثياب الجديدة، وننتظر والدنا كي يعود من معايدة الأقارب، نقبّل يده ونقول: كلّ عام وأنت بخير، ونقول مثلها لأمنا وخالتنا وجدتنا وأخواتنا الكبار، ثمّ ننطلق إلى السينما لأن وقتها قد حان.

نقطع تذكرة وندخل إليها، ويكون الفيلم لهرقل أو لماشستي أو طرزان، فنتسمّر لمدّة ساعتين على المقعد، لا صوت ولا حركة حتى ينتهي الفيلم، وقد نذهب إلى فيلم آخر، أو إلى القلابات والمرجوحات، فنتمرجح لمدّة ساعة أو أكثر، وقد نركب الخيل التي تمشي بنا إلى الحديقة العامة، ثمّ تعود.

مراجيح العيد بحلب (دار الوثائق الرقمية التاريخية)


بعد ذلك نأتي إلى البيت، فالوالد ينتظرنا كي يفاخر بنا أمام الذين سوف نعايدهم من الأصدقاء. نمضي إليهم، ونجلس في حضرتهم. البداية تكون مع شرب القهوة للكبار، أما نحن الصغار فنشرب عصير البرتقال أو شراب الورد، ويلي ذلك الكرابيج والمعمول والغريبة وأقراص العجوة، نأكل منها قليلًا كي لا نشبع، لأننا سوف نأكل عند الذي سوف نزوره بعد قليل. ثمّ يأتون بالفواكه من برتقال ويوسفي وتفّاح وكرز ومشمش، نأكل أيضًا، ونتلقى غمزة من أبي، فننهض معه، وتكون النساء قد سبقتنا إلى باب الدار، نسمع أصواتهن "منعادة هه، حضرتو وما حضر واجبكن، القهوة ما شربتوها"، تقول أمي: "خيرها بغيرها، يا الله بخاطركن".

المساء نقيّ هذا اليوم، ولا شيء أروع من العيد، والدكاكين التي أقيمت في الساحة العامّة وتباع فيها الألعاب والفاكهة، هنا نجد المصارعين والحواة يؤدّون عروضهم، فهم يدهنون أجسامهم بالزيت، ولا يرتدون سوى سراويل، يختالون في مشيتهم أمام الأولاد قبل بدء الاشتباك، يصفّقون بأيديهم ويطلقون عبارات تنذر بالتهديد والوعيد، وسرعان ما يظهرون أسفهم عندما يبدؤون المصارعة.

الحواة أكثر خبرة في عملهم؛ يرافقهم صبي في دور المهرّج أو البهلول، ويؤدّي مقاطع بين فترات العرض لتسلية المشاهدين، وليس لديهم طاولة، بل يجلسون على الأرض، وهم حاذقون في لعبة الفناجين والكرات، ويؤدّون حيلًا عديدة بالثعابين الحية. وخلال ذلك نستمع إلى الموسيقى، الجميع يرفلون في ثياب جديدة، وتحتشد الشوارع بشكل غير اعتيادي بأعداد غفيرة من الأولاد وهم يتجولون من مكان إلى آخر.

وفي الأيام التالية، يقوم الناس بزيارة بعضهم، وهم يبدون في أبهى حلّة عندما يخرجون للزيارة. وتتواصل الأفراح والمهرجانات في السراي، وتطلق الألعاب النارية في كلّ ليلة لإدخال البهجة إلى قلوب الناس.

ظلّت دار أبي مفتوحة خلال ما تبقّى من أيام العيد، ووزّعت الهدايا، والطعام على الفقراء، وأرسلت النساء تهانيهنّ إلى قريباتهنّ، وتبادلن الزيارات، كما قدّمن الهدايا للأطفال، ووصل الحجّاج من مكة، بعد أن قدّموا أضحياتهم في جبل منى. أما هنا، فقد بدأ ذبح الخراف منذ أوّل أيام العيد في كلّ مكان من المدينة، ووزّعت اللحوم على الأهالي، ويمكن مشاهدة الأولاد وهم يسوقون الحملان في الشوارع لبيعها إلى الأهالي.

أمّا أهالي غزّة هذا العام فلا عيد لهم، بسبب هجوم الطيران والمدفعية على بيوتهم، فهي إمّا مدمّرة عن بكرة أبيها، أو مخرّبة أو ممسوحة عن الخارطة، هذه أمّ تنتظر أولادها الأربعة الذين استشهدوا وهي جالسة فوق ركام البيوت، لعلّ أحدهم يخرج من بين الأنقاض، وهنا أخت مشرّدة تنظر إلى الفضاء بدون أن تقول شيئًا، وهناك في المدرسة طفل صغير يبكي لأنه بحاجة إلى أمّه التي قضى عليها الطيران الإسرائيلي، وفي المستشفى الذي قصف كثير من الشهداء والجرحى الذين يبكون ويئنون بصمت، إنه الرعب القادم مع الطيران الإسرائيلي، لا توجد همجية تقابل همجية إسرائيل.

ليل من العذاب والقتل ونهار من الدمار والبطش، ولا أحد يمنع إسرائيل من أن توقف ذلك، كلّ العالم يتفرّج وينظر ونقول: لينصر الله أهل غزّة، إننا نجد الدمار والقتل والتشريد أمام عيوننا، هذا يكفي يا إسرائيل!