Print
محمود الريماوي

طعام الكائنات: جَدْيُ الأب وخروفُ الحصّ

10 سبتمبر 2024
سير

 

في أحد حوارته مع المذيع نيشان على قناة "الجديد" التلفزيونية اللبنانية، وردًا على أسئلة المذيع تحدث سليم الحصّ(1) عن حياته العائلية وطفولته، وكيف كانت والدته بمنزلة الأم والأب بعد وفاة الوالد، وكيف عرض على أمه التنازل عن مصروفه اليومي (نصف قرش) حين سمع الوالدة تتحدث لشقيقتها (خالته) بأنها لم تعد تملك من المال شيئًا، ولم يكن قد حلّ موعد استلام إيجار محليّن تجاريين تركهما الوالد لأسرته، ما يدل على أن الأسرة التي تضم خمسة أطفال، عانت الفقر، لكنه ليس الفقر المدقع، وهو ما كان حال كثيرين في ثلاثينيات القرن الماضي في لبنان وبقية مجتمعات المشرق.

غير أن تجربة خاصة عاشها الطفل سليم لم يشهدها كثيرون غيره، ففي طفولته انتقل مع العائلة لتمضية أشهر الصيف لدى جدته في صوفر، التي كانت تقيم في الطابق الأول لبناية صغيرة هناك، فيما يقيم أصحاب البناية من آل فليحان في الطابق الأرضي، وصودف أنه كان لدى تلك العائلة خروف، وقد انجذب الطفل سليم إلى ذلك الخروف ونشأت صداقة بينهما، حيث كان يتمشى معه ويلاعبه ويداعبه، ومن شدة تعلّقه بذلك الكائن الأليف، كان الطفل يقوم بتمكينه من الاستحمام، ولكسر أي انطباع بالغرابة، فقد نوّه الحص في الحوار إلى أن تعلقه آنذاك بالخروف يشبه تعلّق بشر كثيرين في أيام الناس هذه بالكلاب. وبينما أصبح أمر الصداقة بين الطفل وخروف الجيران معروفًا لدى العائلتين، غير أن إدراك ذلك لم يغيّر من هدف الجيران وراء امتلاك الخروف، إذ أنهم يتعهّدونه بالرعاية ويسمّنونه استعدادًا ليوم عيد الأضحى، وهو ما لم يخطر أبدًا ببال الطفل. ففي صبيحة اليوم الأول للعيد، تناهى إلى مسامع الطفل أنه تم ذبح صديقه الخروف، ولحسن الطالع بعيدًا عن أنظار الطفل، الذي ما أن سمع بالواقعة حتى انتابته صدمة شديدة، إذ لم يتوقع هذا المصير الدامي للكائن المحبوب الذي لم يؤذ أحدًا. "من يومها قرفت اللحوم وأصبحت نباتيًا"، يقول الحص مُعقبًا على الحادثة في الحوار التلفزيوني، الذي دأب فيه المذيع على الحديث بأكثر مما يتحدّث ضيفه.

وما أن تابعت الحوار، حتى تبادر إلى ذهني على التوّ جَدْي أبي. فحين كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، صدف أن اشترى أبي (لطفي) جَدْيًا من باعة أغنام راجلين عبروا من أمام باب بيتنا في أريحا، فلما راق له الجدي ووافقه السعر، فقد سارع  إلى شرائه. وأذكر أنه كائن لطيف مرح ناعم الفرو بلونِ أخّاذ بين البُنّي والعسلي الداكن، بأذنين طويلتين متدليتين، ومن فصيلة شامية. وقد اعتاد أبي على تمضية الوقت مع الجَدْي بعد عودته من الوظيفة، متنقلًا به في أرجاء البستان الذي يحيط ببيتنا، مانحًا لـ "صديقه" فرصة قطف أوراق شجرة الجوافة أو البرتقال، وتنظيف أحواض الشجر من الحشائش والأعشاب، ومانعًا إياه من تناول أوراق دالية العنب. وحين يبلغ الجدي مرحلة الشبع، فقد كان يتم بأمر من أبي توفير دلو من الماء ليأخذ حاجته من الشرب، فيما يتاح لهذا الكائن الوديع الركض لمسافات قصيرة والعودة لأبي الذي كان يستقبله رافعًا غصن شجرة مقصوف إلى أعلى، كي يحاول الجّدْي الوصول إليه، فما إن يوشك على الوصول إليه حتى يرفع أبي الغصن قليلًا، إلى الأعلى ثم يعيد تخفيضه لتمكين الجدي من قضمه، وهي اللعبة المفضلة لأبي وللجَدْي الشامي.

حين حلّ عيد الأضحى في ذلك العام، أذكر أن أبي حاول جاهدًا ثني العائلة عن ذبح الجدي الذي نما جُرمه خلال شهرين، والتذرّع بأنه صغير (قيل له وقتها إن لحم الصغير أطيب...)، وأمام الإصرار على الحاجة إلى لحمه في عيد الأضحى، امتثل أبي على كرهٍ شديد للأمر (لم يكن يُؤبه لرأيي في المسألة، فثمة ثلاثة أشقاء أكبر مني). وفي صبيحة العيد، رفض أبي بشدّة أن يتناول شيئًا من لحم الجَدْي، وطالب أن لا يأكل أحدٌ من ذلك اللحم أمامه، وبدا على كدرٍ شديد وهو يغالب دموعًا حبيسة، أسى على نهاية الجَدْي ولأنه لم يفلح في إنقاذه. لم يصبح أبي نباتيًا بعدئذ، بيد أن إقباله على تناول اللحوم غدا ضعيفًا ومتقطعًا، مع تفضيله الثابت للطعام النباتي. وهو ما أورثني إياه بصور من الصور، فلا آكل لحمًا إلا وشعور بالذنب يصطحبني، إذ أستذكر أن هذه الوجبة هي بعضٌ من كائن كان مفعمًا بالحياة قبل يوم أو يومين، كائن يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويدبّ على الدروب، ولديه ما يُبهجه وما يقبضه، وها إني أتناول لحمه من دون أن يرمش لي جفن. ويأخذني التأمل أبعد من هذا، فإذا كنا نحن البشر نجيز لأنفسنا تناول لحوم الأغنام والأبقار والطيور و"غلال البحر" بداعي كوننا كائنات أرقى منها، فلسوف وبالمنطق نفسه تجيز كائنات أخرى لذاتها الجمعية، وهي تهبط علينا من كواكب مجهولة، وترى أنها أرقى منا، أن تفتك بنا لتتغذى بلحومنا وأعضائنا الحيوية.

على أن دواعي "الواقعية" والاعتبارات الصحية دفعتني لتناول اللحوم بمقادير قليلة وإن على مضض، إذ عانيتُ من نحول شديد حتى وقت متأخر من مرحلة الشباب. وكان غالي شكري(2) قد قال لي حين تعرّفت عليه في بيروت وهو يتملّى قامتي التي تشبه منحوتات جياكوميتي(3) إنني لن أموت، بل سوف أذوب ذات يوم وأتلاشى. وقد شدّني إلى البوذية كون معتنقيها نباتيين، وقد عرفت لاحقًا أن نفرًا قليلًا من هؤلاء (وطارئًا للحق على العقيدة) يتناولون اللحوم، وحين سُئل أحدهم وهو من أصل أوروبي: كيف تُطيق أن تلتهم كائنًا حيًّا، ولماذا لا تعمد إلى الاكتفاء بالطعام النباتي؟ فقد بدا متهيئًا لاستقبال السؤال، وسرعان ما أجاب بأن النباتات هي أيضًا كائنات حية. وفاته القول إن الأبقار والمواشي تتناول الحشائش والأعشاب وهذه بدورها كائنات حية.

من لعنات الحياة أن سر بقاء كائنات يكمن في هلاك كائنات أخرى، وأن الكائنات تتغذى بلا هوادة على بعضها بعضًا في البر والبحر وفي الفضاء (الطيور المفترسة أو الجوارح)، وأن الأصل في الأديان التوحيدية تحريم تناول اللحوم (عدا استثناءات بعينها) وأن ملايين البشر يتغذون إلى جانب أغذية أخرى على الفئران والقطط والكلاب والقرود والضفادع والحشرات وسواها، وأنه كان يُروى عن الصينيين (على سبيل التندّر والمبالغة ومن دون افتراق عن الواقع) أنهم يأكلون كل ما يطير عدا الطائرات، وكل ما يدبّ على أربع باستثناء الطاولات، وكل ما ينبض ويتحرك في أعماق المياه خلا الغواصات. هكذا انتظمت العادات والمواضعات الغذائية على أن حياة كائنٍ أو جماعةٍ ما موقوفة على إزهاق حياة كائن آخر والتغذية به، وهو ما حدا بكاتب هذه الكلمات إلى تدوين هذه السطور قبل أزيد من عشرين عامًا في كتاب "كل ما في الأمر":

الحشرة أكلتها الوردة
الوردة أكلها الخروف
الخروف أكله الإنسان
الإنسان أكله الموت..
يا لها من مأكلة...


هوامش:

(1) سليم الحص: رئيس وزراء لبنان الأسبق الراحل حديثًا.
(2) غالي شكري: ناقد مصري (1935 ــ 1998).
(3) ألبرتو جياكوميتي: نحات ورسام سويسري (1901 - 1966).