Print
محمود الرحبي

العكّاز

13 سبتمبر 2024
قص

كان "مال الله" أو "مالان"، كما يُختصر اسمه في كلمةٍ، يقف منتظرًا أن يقطع الشارع، بعد أن قطع ساعة الغروب مشيًا من بيت أخته بفردة عكّاز؛ وفي طريقه صعد وهدةً منخفضةً تنفرج على بساطٍ صخريّ، لتنتهي خطواته بمستراح الشارع العامّ.
هذه العادة شبه اليوميّة من الحذر هي ما جعل رحلة مالان آمنةً لا تقربها المخاطر، حيث لا يتذكّر أنّه قطع الشارع وتسبّب في وقوفٍ مفاجئٍ لسيّارةٍ مسرعة؛ فحين ينتصب للعبور، لا يهمّه الوقت الذي سينتظره قبل أن يجدف قاطعًا الشارع، وأثناء ذلك الانتظار كانت حواسّه تتنزّه بالنظر في شكل ومحتوى كلّ سيّارةٍ قادمة؛ المشاهد تمتعه لأنّها جديدة عليه، فكلّ سيّارةٍ لا تعني الأخرى، وما سيراه فيها - من وجوه - لن يتكرّر. لا يتقدّم إلّا إذا تأكّد من خلوّ البساط الأسود بما يتّسع لخطواته التي تتناوب على قطعها رجله اليمنى وعكّازه الخشبيّ.
منتظرًا... عينٌ على الطريق المزدحم وأخرى على عكّازه، رفيقه الدائم. بدشداشةٍ غبراء فضفاضة، و"كمّة" فاقعة الزرقة تنزاح إلى الوراء لتفسح المجال لتهوية مقدّمة الشعر، وذقنٍ غير حليقة. للعكّاز عينان رسمتهما رحوم، أصغر بنات أخته التي اعتادت أن تهلّ عليه الصباح؛ مرّةً كانت تحمل كرّاسة رسمها وشنطة ألوان، فقدّم لها فردة عكّازه وطلب أن ترسم لها وجهًا ضاحكًا. وكان حين يختفي الوجه بسبب العرق والشمس يطلب منها أن تجدّده بالألوان.
السقيفة الظليلة لموقف الحافلات لم تكن فارغةً حين وصل إليها ولهاثٌ يسبقه إلى كرسيّ الجلوس. وبحركةٍ تلقائيّة، أشبه بأمرٍ صامت، قام شابٌّ بنغاليّ وأفرغ له مكانه. بجانبه أفريقيّة مع ولدها الذي شرع ينقل عينيه سارحًا إلى جسد وعكّاز مالان، وحذائه المسوّرة إحدى فردتيه بالحديد، بخلاف أمّه المتشاغلة بهاتفها. غمز له مالان مبتسمًا، ثمّ أشار ناقرًا بسبّابته على عيني العكّاز المرسومتين أسفل نافذة المقبض بلونٍ زيتيّ أحمر وسط كلّ منهما نقطة سوداء؛ والهدبان والحاجبان خطّا باللون الأصفر، وقوس الابتسامة الواسعة التي تصل حدودها إلى العينين كان بنّيًّا.
لم يبتسم الطفل وأكمل رحلة نظره في جسد وأشياء الجالس بجانبه، فحوّل مالان عينيه إلى الأمّ وأطال النظر في صدرها ووجهها وشفتيها المكتنزتين بلون العنب.
"باص" المواصلات الذي يتحرّك كلّ أربعين دقيقة، يعبر المحطّات الخارجيّة لـ"العامرات" و"وادي عدي" والـ"حمريّة"، ليلقي مراسيه في (تيرمينوس) الحيّ التجاريّ بـ"روي". سلوكٌ شبه يوميّ يعود إلى ثلاث سنواتٍ خلت، حيث يقوده رأسه في النهاية ليستريح في البار الهنديّ NERVANA. تبلغ المسافة بالحافلة من حيّ "شيكاغو" حيث يعيش، إلى "روي التجاريّ" حيث يوجد البار، أربعين دقيقة؛ وذلك بسبب الزحمة التي لا تنقطع إلّا في الليل، حينها فقط (أثناء رجوعه) تختصر المسافة إلى النصف.
بعد أن يهبط من حافلة الوصول، يمشي نصف ساعةٍ وهو يريح جسده في الطريق جالسًا فوق ثلاثة أماكن تعوّد عليها: تحت "غافة" معرّشة، وهناك زُرعتْ حصاتان مستويتان صالحتان للجلوس الآدميّ، يقدّر أحيانًا أن يجد أحدًا سبقه إلى إحداها، فيتبادل معه الحديث وكأنّه يعرفه منذ الطفولة، وبمختلف اللغات واللهجات والإشارات، حيث يمتلك مال الله شيئًا يسيرًا من كلّ قاموسٍ من قواميس ألسنة مسقط المتخالطة. المكان الثاني الذي يجلس عليه، عتبة دكّانٍ يشتري منه بدايةً قنّينة ماءٍ صغيرة ويظلّ يشربها ببطءٍ جالسًا، مسلّيًا نفسه بمراقبة روّاد المحلّ والخارجين منه. المكان الثالث على مقربة خطواتٍ قليلة من مقصده، وهناك يقف قليلًا ويستغلّ الفرصة لتثبيت إزاره تحت دشداشته، الذي انزاح ببطءٍ مع مجهود المشي المبذول في نقل ثقل الجسد بمساعدة العكّاز خطوةً إثر أخرى. يرمق مدخل البناية وهو يستريح واقفًا في هيئة استعدادٍ لتسلّق سلالم الطوابق الثلاثة، حيث البار الذي تتسلّل منه الموسيقى الهنديّة الراقصة لتملأ الفضاء بمرحٍ ناعم.




صالةٌ واسعة بمساحة طابقٍ كامل، يدلف إليها مالان فيرى نفسه - في ما يشبه سفرًا عبر الزمن - في عالمٍ آخر ليس له علاقة بالعالم الذي كان فيه قبل دخوله. كانت الصعوبة الأكبر في هذا المشوار، تكمن في تسلّق السلالم، حيث عليه أن يرفع ثقل جسده قبل كلّ درجة سلّمٍ وبعدها، مستعينًا علاوةً على عكّازه، بالدرابزين الحديديّ الذي يطوّق حوافّ السلالم. تكاد عيناه أن تخرجا من وجهه وهو يصعد بكلّ ما أوتيت هامّته من قوّةٍ ولهاث. وحين يدلف من باب البار، تعود عيناه إلى سابق حالتهما، ويملأ اطمئنان الوصول صدره. وفي أقرب طاولةٍ فارغة يجلس ويطلب علبة بيرةٍ باردة.
حادثتان طرأتا على حياة مال الله شكّلتا منعطفين يفضي كلٌّ منهما إلى طريقٍ جديد، الأولى حين دخل السجن وقضى فيه أربع سنواتٍ بسبب المشاركة في سرقة بيت، أثناءها طلّقته زوجته وتزوّجت محتفظةً بابنته الوحيدة. وفي السجن لم يفكّر في الانتقام (على غرار بطل رواية "اللصّ والكلاب" لنجيب محفوظ) إنّما فكّر في تغيير حياته. حين خرج اشتغل في شركة توصيل الكهرباء للبيوت والشوارع؛ وكان من ضمن مهامّه الوصول إلى رؤوس الأعمدة الخشبيّة الطويلة المركوزة في العراء. ولكنّه ذات يومٍ - وهنا تبدأ الحادثة الثانية - سقط نتيجة دُوار طوّح به من صدر عمود، فاستقبل الأرض بإحدى رجليه مضحّيًا بها لصالح بقيّة الجسد. التوت قدمه وانحرف الفخذ عن مساره، وحالت ثقوب جيبه بينه والسفر إلى الهند للعلاج كسائر من هم في طبقته. ظلّ زمنًا يكتفي بالمسكّنات التي يحرص على استخراجها من المركز الصحّيّ القريب، كلّما قربت على النفاد. ولأنّه حادث عملٍ أدّى إلى إعاقةٍ دائمة، أعفي من الدوام اليوميّ بعد أن أجرت الشركة له راتبًا شهريًّا ضئيلًا طالما ظلّ على قيد الحياة. مع نقصان المرتّب، انضمّ مال الله إلى بيت أخته واستأجر منها غرفةً خارجيّة مع الطعام. قرّر أن يعطّل تفكيره ويملأ ذاكرته بكلّ ما يرى. وبذلك صار أكثر ما يعمل من حواسّه عيناه.
حين يصعد الحافلة التي تمتلئ عادةً بالعمّال الداخلين والخارجين بعد كلّ محطّة وقوف، لا يترك جزءًا يمرّ أمامه دون تفحّص. يشمل التفاصيل بنظراتٍ شاخصة لا ترى سوى شكل الأشياء وسطحها، كأنّه العابر المتفقّد والآخرون هم الواقفون. هكذا أراد أن ينتقم من ماضيه بأن يستمتع بكلّ ما تلتقطه عيناه منذ استيقاظه صباحًا وتناوله إفطاره الذي ترسله أخته مع ابنتها الوسطى. يستمتع حتّى بالنظر إلى جزئيّات الطعام قبل مضغها، كمن اكتشف فجأةً أنّ طعامًا أمامه، أو أنّ لديه عينين عليه أن يشكر الله عليهما بالنظر جهد الإمكان دون تفريطٍ بأدنى شاذّةٍ وفاذّة. وكان حتّى قبل النوم يحثّ عينيه على أن تتفحّصا كلّ ما هو موجود أمامهما، مركّزًا على الجزئيّات الظاهرة، قامعًا أيّ شرودٍ يعيده القهقرى إلى الردهات المتشظّية لحياته.
بعد أن يضع عكّازه إلى جانبه تنطلق آلة الكلام، وصوته يعلو وينخفض حسب قرب وبعد محدّثه منه. يجد مال الله متعةً مضاعفةً في الحديث ما إن تهبط الجرعة الباردة الأولى من البيرة إلى صدره. وإذا لم يجد متحدّثًا بالقرب منه، فإنّه يحمل جسده إلى أيّ طاولةٍ عامرة ويبتكر مع من يجدهم حديثًا ينطلق من فراغ. يتجنّب أيّ انعراجٍ إلى السياسة، سواء الداخليّة أو الخارجيّة منها، أمّا غير ذلك من حديثٍ فهو مرحّب به، وخاصّةً إذا كان عن النساء، حيث يمكن لمخيّلته أن تبتكر حدائقها الخاصّة. إلى جانب الحديث، فهذا المكان الوحيد الذي يهدر فيه حلقه بالضحك. حتّى حين بدأ نظره يخفت، لم يفكّر مالان بتفصيل نظّارة، كأنّ الأشياء يجب أن تتوارى من تلقاء ذاتها.
لا يمكث أكثر من ساعتين ونصف الساعة وهو يحتسي مشروبه ببطء، ما يكفي لأن يجلب له النعاس في الليل، والتحليق الخفيف أثناء الرجوع بالحافلة المتأخّرة. ومع ما يناسب كذلك ظروف جيبه، ويؤمّن له جلساتٍ شبه يوميّة. وقبل وقتٍ كافٍ من رجوع آخر الحافلات إلى "حيّ شيكاغو" الذي يمكن أن يكون خطيرًا إذا تأخّر الليل، وبذلك سُمّي على اسم شيكاغو الأميركيّة، لتعدّد ألسنته وألوان بشره، وقبل ذلك لاقترانه بالجريمة، فإنّه يعود في زمنٍ تكون الحركة فيه لمّا تزل قائمة؛ لذلك فمال الله لن يأخذ أكثر من ثلاث علبٍ صغيرة يحتسيها على جرعاتٍ متقطّعة يتخلّلها فائض من الكلام. يدخل في حسابه كذلك متطلّبات المثانة، حين ينتظر نصف ساعة، بعد آخر جرعةٍ من علبة البيرة الأخيرة. أثناء ذلك يتردّد أكثر من مرّةٍ على بيت الخلاء.
ولأنّه لا بار في شيكاغو، فإنّ مالان يقطع ذلك الطريق، مالئًا وحدته بتفاصيل قرّر أن يراها جديدة.
على هدي أضواءٍ بعيدة، في الشارع الترابيّ الهابط، كان جسدٌ يتحرّك بمساندة عكّاز، ويغنّي:
صدّقيني يا السديرة/ مالي حبيب غيره... صدّقيني يا السديرة/ مالي حبيب غيره.