في الممرِّ الإسمنتي القصير، خطونا الواحد تلو الآخر في صمت وتأدُّب، حاسري الرؤوس. وعند الخطوة الأخيرة، لمحت طيف شخص هادئ يتحرَّك ببطء، وفي ظلام يقابله ضوء الغرفة الأخرى، قام بإشارة من يديه تدلُّ على السماح لنا بالمرور. لكن لم أفهم ذلك جيِّدًا إلَّا ونحن في منتصف الطريق.
حين وطئت رجلاي آخر درجة ونحن على أعتاب الساحة المربَّعة وسط منازل متقشِّفة أغلبها بواجهات غير مصبوغة ونوافذ متنافرة الأشكال والذوق، وعربة مجرورة يرقد بجوارها حصان هزيل، قال سعيد: "جدَّتي هي من كانت تصلِّي في الغرفة الصغيرة". ثمَّ سكت.
تنحنح محمَّد بحياء وقال: "تقبَّل الله منها".
تقدَّمنا جميعًا ناحية الزقاق الخالي. وتحت ضوء المصباح صار وجهه أكثر شحوبًا وبرزت إحدى أسنانه الأماميَّة. ودَّعنا محمَّد الذي انطلق وحيدًا إلى بيت عائلته سالكًا الخطَّ أمام الفرن ومنزل إمام المسجد الضرير.
انفرد صديقي بالشبَّان مرَّة أخرى، إلَّا الفتاة الشقراء فقد ظلَّت ساهمة في صفاء الليل وهدوئه وبيوت البنَّائين والمياومين وعمَّال المصانع التي يتسرَّب من نوافذها المشوَّهة ضوء أصفر كئيب، ففي تلك الغرف ذات الأثاث الفقير والأفرشة العتيقة تنام النساء المنهكات والبحَّارة المتجهِّمون وأطفال الورشات الحرفيَّة بأسمالهم المرقَّعة وأياديهم الملطَّخة بالمرق والجروح القديمة التي لم تبرأ.
كانت الشابَّة الألمانيَّة فارعة الطول بشكل غير مبالغ ولا قبيح، قويَّة الجسد، بشوشة وحالمة. بعكس رفيقها فقد بدا طيلة الساعات منطويًا على نفسه، قليل الكلام.
ظلَّ سعيد طوال السهرة، يراقب الشابَّة بخجل والعرق يتصبَّب من جبينه الأسمر، محاولًا أن يسترق نظرات حزينة ومتوتِّرة من جسد الأنثى الموغل في السحر والبياض، وفي كلِّ مرَّة كان محمَّد يغمز له ويكشف محنته وضياعه بإشارات ماكرة، كان يهمس له في أذنه أنَّه سوف لن يتذكَّر محاضرات الامتحان، وسوف يؤدِّي به فيما بعد إلى نسيان عائلته وعنوان بيته وربَّما نفسه أيضًا، ثمَّ نغرق كلُّنا دفعة واحدة في موسيقى من الضحك العذب البريء لم نعرف له مثيلًا في قادم الأيَّام والسنوات.
وسط ثرثرة الليل الدافئة انغمست في تأمُّل محمَّد وهو يخطو في عتمة الدرب الطويل، كان يرتدي قميصًا بنيًّا أكبر يتجاوز دائرة حزامه، لقد تعوَّد أن يلبس ثياب أبيه، ذلك الرجل الأمازيغي الصموت الصابر الذي عاد مكتئبًا وفاقدًا شهوة الكلام والتعلُّق بالناس، بعد أن طرد من العمل جرَّاء إفلاس معمل النسيج، منحوه مبلغًا هزيلًا ورموا به من بيت الحراسة إلى الشارع والطرقات والجوع.
وكلَّما ابتعد عنَّا يبدأ شكله في الامحاء تدريجيًّا، وتساءلت في أعماق نفسي عن العلاقة بين الظلام والحركة وأجساد البشر وعن التأويلات والشكوك التي تسيطر على أرواحنا حيال كلِّ ذلك.
غادر الأصدقاء كلُّهم الموكب الليلي واختفوا في حلكة الأزقَّة الراقدة في الرتابة والسكون، ولم أعد أسمع إلَّا أحاديث بعيدة ومبهمة، وشيئًا فشيئًا تلاشت كلُّ الأصوات.
كان الطريق الذي اعتدنا أن نمرَّ منه في كلِّ مرَّة موحشًا وكان يزداد ظلامًا ووحشة في نهاية الخريف وطوال فصل الشتاء، وكانت هناك أبنية مهجورة وأخرى غير مكتملة البناء، كانت على مرِّ الأعوام مرتعًا للسكارى والمشرَّدين والهائمين على وجوههم، وربَّما تجد أيضًا بداخلها بعضًا من الفارِّين من الشرطة والمراهقين الأقوياء الجانحين، أولئك الذين أحسُّوا فجأة أنَّهم كبروا فعلًا، ورفضوا كلَّ وصاية أو تحكُّم.
كنت أعرف بعضهم وأتوجَّس منهم، ففي ذروة الحاجة للشراب الرخيص المصنوع في البيوت والدواوير النائية في حزام أحيائنا البائسة، أو المخدِّرات وسجائر الحشيش، كانوا مستعدِّين للاعتداء على أيِّ شخص، وخصوصًا ضيوف الحيِّ من الغرباء والباعة المسالمين العابرين، أو السطو على الألبسة والأحذية، أو القفز فوق أسطح المنازل وترويع النساء والعجزة، أو على واجهات المتاجر البسيطة التي كان يمتلكها غالبًا رجال تعساء وصبورون.
مررنا بأحد الأزقَّة وقد كانت هناك حديقة صغيرة مهجورة ومنحدر به حفر وغبار وظلمة كثيفة ولم تزل شاحنات ومعها الآلات وثياب العمَّال تملأ زاوية الملعب المحاذي للمدرسة، كنت خائفًا وأنا أتخيَّل مشهد السكارى وخرِّيجي السجون الغاضبين محمَّلين بالسكاكين وقناني الخمر الفارغة.
كان لا بدَّ من أن أخترع قصَّة أو سببًا يدفع صديقي للعبور معي إلى برِّ الأمان، والوصول إلى بيتنا والشارع المضاء بمصابيح حديثة والزليج الأحمر الذي يشعُّ لمعانًا في ليالي الصيف.
حين غادرنا بيتهم الصغير في الزقاق الجانبي بمحاذاة ساحة العربات المجرورة، وقد وضعت يدي على كتفه وهمست له: "اسمع يا صديقي العزيز، غدًا سوف أعود إليك ومعي مجلَّة أوروبيَّة حديثة حصلت عليها مؤخَّرًا فيها صور مدن ساحرة ونظيفة، معلومات عن الجامعات والحياة الجميلة هناك، وعناوين شابَّات شقراوات رائعات يرغبن بالتواصل والتعرُّف إلى شبَّان وسيمين ومتعلِّمين من بلادنا وهي فرصتنا للهروب من هذا العالم الكريه كلِّه،
اسمع... سوف نتخلَّص من الفقر والإخوة المشاكسين والدروب المغبَّرة والجيران الفضوليِّين، ونطير إلى عالم آخر يليق بنا"، ثمَّ أردفت: "يجب أن يبقى سرًّا بيننا، ولا تبُح به لأحد إطلاقًا كي يحقِّق الله أحلامنا وسترى.
سوف نختفي فجأة بدون أن ينتبه لذلك أحد، حتَّى يذيع خبر رحلتنا ونجاتنا للأبد، سينتشر الأمر في الحيِّ وفي الثانويَّة وفي كلِّ الأمكنة الأخرى حيث يسكن بقيَّة الأصدقاء المنحوسون، ويصل الخبر الأسطوري إلى كلِّ الفتيات الأنيقات المتعجرِّفات اللاتي رفضن صداقتنا، وسنجعلهنَّ يمتن من الحسرة والندم".
أمام باب المقهى الذي يعجُّ بداية المساء وحتَّى آخر الليل بالحرفيِّين والعمَّال والسائقين والعاطلين للعب الورق وسط الأحاديث المختلطة وروائح الحساء والشاي ودخان السجائر والكيف، في أحايين كثيرة كان ينضمُّ إليهم بعض العازفين العائدين من صخب الأعراس وحانات وسط المدينة، وقفت ألتقط أنفاسي وقلت لسعيد: "اسمع يا صديقي العزيز، لا بدَّ أن نغتنم الفرصة قبل فوات الأوان، الانتظار يقتل حياة الإنسان وأحلامه".
أصبحت أكثر خفَّة ووداعة في نهاية الطريق، وشعرت بأنَّ سعيد يهيم ويضيع في متاهة تلك الأحلام التي نسجتها مرغمًا في طريقنا المظلم، وفجأة خرجنا إلى المكان المنتظر ونحن على مشارف الشارع الواسع بدا لي منزلنا شاهقًا وشامخًا وأكثر ألفة ودفئًا، وخُيِّل لي أنَّه صار في حلَّة جديدة لم أعهدها وأحببته أكثر من أيِّ وقت مضى.
ولاح لي ضوء خافت في الطابق الأوسط، وآخر في نافذة الغرفة العليا وتأكَّدت أنَّ أخي يدخِّن في السطح ويفكِّر بتلك الشابَّة المكتنزة البيضاء الخجولة ذات النظَّارة المستديرة، كانت تمرُّ عائدة من الثانويَّة أو من حانوت البقَّال الكبير، تعوَّدنا أن نسمِّيها عزيزة جلال بوجهها الأبيض المستدير وشعرها المائل إلى اللون الأحمر ولامبالاتها تجاه فضولنا ونظراتنا،
بلا شكٍّ، كان يغنِّي بصوت عذب وخافت جدًّا أقرب إلى حشرجة شخص مريض ووحيد، وأحيانًا كان يداري حركاته، يسعل وينظر إلى نجوم السماء المتلألئة، يحلم ويتنهَّد...
(المغرب – الرباط)