تتحدّد "المحطة الزمنية" الراهنة للمشهد الثقافي الفلسطيني برسم تحولات سياسية واقتصادية - اجتماعية وتقنية طرأت على هذا المشهد فتركت أثرًا في بنيته الفكرية والثقافية.
وهي تحولات مرتبطة بمتغيرات سياسية واقتصادية - اجتماعية وتقنية خاصة وعامة في الآن عينه.
وثمة تقاطع بين الخاص والعام، ينعكس بدوره على الملامح العريضة للمشهد، بقدر ما يساهم في مآلاته.
وبثقل موازٍ ثمة تقاطع بين الذاتي وما هو عابر له.
بغية الإشارة إلى أبرز ملامح "المحطة الزمنية" الراهنة للمشهد الثقافي الفلسطيني ومحاولة تعيين فيما إذا كانت نقطة بداية لها، سأستعين بالموضوع المركزي الذي طغى على الروايات الفلسطينية الثلاث التي تم ترشيحها ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية خلال آخر عامين، وهي روايات "حياة معلقة" لعاطف أبو سيف، و"مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لربعي المدهون.
وما الذي يمكننا أن نتعلّم منها بشكل عام عن ملامح "المحطة" الراهنة للأدب الفلسطيني بمجمله؟.
صعوبة التحرّر من الماضي
لعلّ أول ما يصادف القارئ أن كتابة المكان تشكّل القاسم المشترك لهذه الروايات.
ولم يحدث ذلك من طريق المصادفة، وهذا ما أمكننا التأكّد منه حتى وفقًا لشهادات كتابّها.
فمحمود شقير سبق أن أكد في سياق حوار مع "ملحق الثقافة"/ "العربي الجديد"، أن للمكان تأثيرًا كبيرًا على أعماله الأدبية.
وأشار أيضًا إلى أنه عاين ذلك وتأكّد منه بالتجربة الملموسة. فحينما كان يعيش في المنفى بعيدًا من مكانه الأوّل، الذي شهد ولادة قصصه الأولى، وجد صعوبةً كبيرة في كتابة قصص تنتمي إلى ذلك المكان وهو بعيد منه، بل إن القصص التي كتبها عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) وهو مقيم في المنفى، اتّسمت إلى حد ما بما يسمى "التذهين" الذي يصوغ الرؤى والمشاعر والأمكنة على نحو مفتقر إلى حرارة التجربة والمعايشة الحية. لذلك، ومن أجل تجاوز هذه المعضلة، لجأ - كما يقول - إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا التي لا تحتاج إلى مكان مفصّل، بل تكتفي بجزئية من مكان ما لتشكّل وعاءً لمادة القصة وحاضنة لها. وحين عاد إلى الوطن وتعايش من جديد مع مكانه الأوّل، عاد إلى كتابة قصص تستوحي هذا المكان وتتأطر من خلاله، وتغتني في الوقت نفسه بكل ما يعنيه المكان من هوية وانتماء.
وربعي المدهون كشف في مجرى حوار آخر مع "ملحق الثقافة" نفسه، أنه احتاج في "مصائر" إلى قراءة الكثير عن وضع عكا سنة 1948، وتفاصيل جغرافية هذه المدينة، وكذلك القدس والمدن الأخرى، ومشاهدة فيديوهات، وخرائط للشوارع، وحتى الاستعانة بدراسات حول اللهجات الفلسطينية المتعدّدة في المدن التي تطرق إليها في روايته. ومن ثم قام بتوليف المعلومات ونسجها في سياق السرد بصبر امرأة تطرّز ثوبًا فلاحيًا بخيوط الحرير. وبرأيه هكذا يتحقق للسرد غناه، ويقدم للقارئ معلومات تاريخية وجغرافية وسياسية وعلمية وسياحية وغيرها، بحيث لا تبدو قادمة من خارج السرد، أو زائدة عن حاجته. وأشار أيضًا إلى أن كل مكان يغيب المرء عنه، لا بدّ أن تحدث عودته إليه صدمة، إيجابية أو سلبية. فكل لقاء يبعث على الدهشة. لكن لقاء الفلسطيني بأرضه يشكل صدمة من نوع مختلف: إنه يخوض مواجهة مع ماضيه، ذاكرته، التي يحاول تحريرها من سطوة الأيديولوجيا، ومن مأساة الواقع. كما أنه في كل مرة يرى المُبعد في الوطن وطنًا آخر لم يره، ولا يكف عن رؤيته بتفاصيل أخرى ومشاعر أكثر حميمية، فيدوّن ما يراه في الورق وعلى سطح الذاكرة، كي لا يفقده مرة أخرى.
أمّا عاطف أبو سيف فيؤكد أن الوطن كلمة كبيرة برغم ضيقه بنا كما يقول الشاعر محمود درويش. وبحسب قراءته، الوطن في الوعي الفلسطيني شيء مفاهيمي نوستالجي مرغوب ومشتهى. وهو حين قياسه بقسوة الواقع يبدو متعذرًا. وربما في الرواية - كما في الفن - تكون استعادته ممكنة، وبالتالي تصير الرواية مبشرة بفرص تحقيقه. وهو يشير إلى أن شخصيات روايته في المخيم لها ذكريات عميقة ودافئة في يافا مكان ولادتها ومرتع طفولتها وحضن صباها، وبالتالي فهي لا تعيش الواقع بل تقارنه باللحظات الجميلة التي عاشتها في المدينة العربية الأجمل على شاطئ البحر المتوسط.
إذن في ما يختص بالموضوع، يُمكن الاستنتاج بأن هناك خصيصة مركزية تُميّز هذه الروايات الثلاث المرشحة لجائزة البوكر العربية، كونها حتى وهي تصوّر الواقع الراهن منهمكة بالأساس في ماضيها ذي الوقائع الصادمة، وهذا لا يعني أن من الصعب عليها توجيه نظرها إلى الحاضر، بقدر ما يعني أن لهذا الماضي عملًا أدبيًا لم ينته بعد، أو أنه غير مُنجَز.
في واقع الأمر كان السؤال المرتبط بالنكبة الفلسطينية الكبرى سنة 1948 أحد أهم الدوافع الرئيسية وراء العودة المستمرة من جانب الأدب الفلسطيني، جيلًا جيلًا ومرحلة مرحلة، إلى الماضي. وبالتالي كان أحد أسباب صعوبة التحرّر منه.
فهذا الماضي، بالنسبة للمبدع الفلسطيني كائنًا من يكون، هو بمثابة مرتكز الرفض والتمرّد على الحاضر في مستوى الصيرورة، من جهة. وهو في الوقت ذاته متكأ الكشف عن مفهوم المستقبل والجديد على صعيد السيرورة والرؤيا (الحلم)، من جهة أخرى.
وهذه العودة، كما تبدّت في الأدب الفلسطيني عمومًا، عادةً ما جاءت حافلة بتصوّر للماضي ومقاربة له يتمظهران في مناحٍ تبدو مختلفة كثيرًا عن تمظهرات الماضي في إبداعات شعوب أخرى.
والقصد من هذا، أنه إذا كانت مقاربة الماضي في تلك الإبداعات الأخرى تتمظهر في مناحٍ تعبر بكيفية ما عن مماشاةٍ مع الحاضر بصفة إيجابية، فإن المبدع الفلسطيني في لا وعيه، إن لم يكن في وعيه التام، يرفض التعامل أو التماشي مع الحاضر على الرغم من تصوّره للماضي ومقاربته له. فالحاضر، هنا والآن، حاضر غير مرغوب بمقدار ما هو "حاضر حتى إشعار آخر" أو "حاضر بالوكالة" مقطوع عن الماضي، وإن شئنا التحديد فإنه متجّه نحو مستقبل يشكّل ذلك الماضي آصرةً عضوية في سياق استشراف واستشفاف هوية محددة له.
وأشير كثيرًا أنه في حالة الأدب الفلسطيني، وارتباطًا مع العودة إلى الماضي، نصادف عنصرين متصلين مبنًى ومعنًى:
الأول- عنصر بناء الذاكرة الوطنية.
الثاني- عنصر إعادة بناء المكان، ويتم ذلك في أحيان كثيرة عبر ما يسمى تفنين السيرة الذاتية أو محاولة تصعيد السيرة الذاتية إلى مستوى الأثر الأدبي.
الخروج على التنميط
لئن كانت هذه العودة إلى الماضي "مسلكًا أدبيًا" مشتهًى لا تعوزه المبرّرات، فإنها في الوقت ذاته وقفت وراء ما يمكن اعتباره تنميطًا للأدب الفلسطيني.
لكن قبل تفكيك هذه المقولة، تستدعي عصارة التجربة المنوي إخضاعها للتأمل والنقد بهذا الشأن، من باب الوعي المسبق الاختيار، أن نتمحور حول واحد من التطلعات البارزة التي تمّ رهن الأدب الفلسطيني ولا سيما في فلسطين التاريخية بها، ويتمثل هذا التطلع في جعل هذا الأدب وعاء أو وسيلة مهمة جدًا، كي لا أقول الوحيدة، في حماية الهوية القومية والوطنية.
إن حماية هذه الهوية من عوامل التشويه أو الاندثار أو المسخ، من ناحية الشعب الفلسطيني عمومًا، كانت وما تزال مهمة غاية في الأهمية. وهي كذلك خصوصًا من ناحية الفلسطينيين في الداخل.
وهناك العديد من المعاني والدلالات للهوية الوطنية من منظور الفلسطينيين.
وإذا ما حصرنا هذه الدلالات من منظور الفلسطينيين في الداخل - بحكم معايشتي لهذه التجربة - يتوجب التشديد على ما يلي:
أولاً: الهوية الوطنية، وفقًا لتصوّر الفلسطينيين في الداخل، هي توكيد لمجتمع أنكر أعداؤه وما زالوا ينكرون حتى مجرّد وجوده.
ثانياً: الهوية الوطنية، بالنسبة للفلسطينيين من الداخل، هي المنقذ من الاغتراب في بلاد هم أصحابها تاريخيًا وقامت عليها، بصورة عنيفة تزداد عنفًا، دولة (كيان) جرّدتهم من الوطن وتقصيهم من المواطنة وترفضهم، مع ما يمكن أن يترتب على واقع كهذا من افتراق ظاهر عن الذات.
ثالثاً: الهوية الوطنية هي عنوان كفاح للعودة إلى حياة طبيعية، انتهت بسبب النكبة سنة 1948.
وبالعودة إلى مسألة التنميط، لا يسعني سوى أن أوافق على الاجتهاد الذي يقول إن اتفاق أوسلو (1993) كان "محطة زمنية" أخرى في المشهد الأدبي الفلسطيني. فبعد هذا الاتفاق وما عناه من تحولات سياسية واجتماعية، تواترت محاولات خروج الفلسطيني من التنميط إلى أبعاد أكثر تفصيلًا وعمقًا في الحياة اليومية والاجتماعية، وفي العلاقة مع الناس والآخر، بينما قبل أوسلو كان تنميط الأدب الفلسطيني واضحًا، ويكاد موضوعه ينحصر في الصدام المباشر مع الاحتلال.
ويعتقد بعض من طرحوا هذا الاجتهاد أن الأدب الفلسطيني بعد أوسلو شهد ازدهارًا واضحًا جدًا، فقد ظهرت أسماء جديدة كرّست نفسها في الساحة الأدبية الفلسطينية. وأصبحت الحياة في ظلّ الظروف المتغيرة الجديدة والغرائبية إلى حدّ ما، هي الموضوع الرئيسي في الأدب الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك، صار الانفتاح على العالم الخارجي أكبر خصوصًا من خلال عودة الكثير من المثقفين الفلسطينيين من المنافي المتعدّدة، ومساهماتهم في المشهد الثقافي الجديد. ونتيجة لاجتماع هذه العوامل، شهد النتاج الإبداعي قفزة نوعية في الشكل والمضمون والمجالات والموضوعات، وهو ما يظهر جليًا في حال المقارنة بالنتاج الإبداعي قبل أوسلو.
ويبدو لي أنه لا طائل من طرح السؤال فيما إذا كانت هذه الحالة بمنزلة إيذان ببداية مرحلة المماشاة مع الحاضر، نظرًا إلى أنها تنكفئ على نفسها، ولو بدليل عودة الصنف السالف من الكتابة عن المكان.
هاجسان
حتى وإن كانت العودة المجلجلة إلى الكتابة عن المكان، كما يتجلّى الأمر في الروايات الثلاث المرشحة لجائزة البوكر، تعني استحالة التحرر من "الموضوع الفلسطيني المباشر"، فليس فيها ما يصرف النظر عن هاجسين يؤرقان المشهد الثقافي الفلسطيني الآن: الأول، الهاجس الفنيّ والجماليّ. فليس الموضوع - مهما يكن - هو ما يزكّي الأدب. الثاني، هاجس الكتابة ضمن مُناخ رائج، يفتقد إلى ما كنّا نسميه "مرجعية الإجازة". وبصرف النظر عما يمكن أن تثيره التسمية من تحفظات مبرّرة، فليست التسمية هي ما يهمنا، إنما الحالة النقيضة التي تُفتقد فيها مرجعيات ويختلط القمح بالزؤان من جراء اعتماد معايير ليست أدبية صرفة، ليس أبسطها معيار العلاقات العامة، وشيوع سبل الانتشار، وتكوين عوالم افتراضية بديلة من العوالم الحقيقية بما في ذلك عالم الإبداع. ويقف وراء الهاجسين ثالث أكبر منهما، هو هاجس "نبض الجماهير"، الذي يحيل إلى موضوع تراجع ثقافة الكتابة وصعود قوة "ثقافات" منافسة مثل وسائل الإعلام. وباعتقاد كثيرين، فإن تراجع ثقافة الكتابة يؤدي في العمق إلى تقويض مكانة الكتابة المتخيّلة. لكن سأسارع إلى استنتاج بأن استمرار رعيل كتاب الرواية الذي يمثله شقير والمدهون في الكتابة والاستقرار في عمق المشهد، ينفي أي زعزعة للثقة بالنفس لدى المبدعين الفلسطينيين بالنسبة إلى ضرورة الأدب وضرورتهم معه، مثلما يحدث في أنحاء أخرى من العالم المعاصر.