يغري الحوار مع رسام الكاريكاتير السوري العالمي علي فرزات، بمحاولة الغوص على أفق العلاقة بين "صحيحي العقل" والحرية في الحيّز الثقافي العربي.
وهو إغراء يعود إلى أسباب كثيرة، ففرزات صاحب "ريشة حرّة هزّت عرشًا"، كما يحبّ أن يكرّر. والفنّ بالنسبة إليه ليس حرفة أو مهنة فحسب، إنما أساسًا سلوك وأسلوب حياة.
وإرهاصات ما أبدعـته ريشته على أثر اندلاع الثورة السورية كانت بادية في فنّـه قبل اندلاعها أيضًا، وهي التي أهّلتـه لأن يصبح صوتًا فنيًا واضحًا وجسورًا في رسم ملامح موضوعات ومشكلات عانى المواطن العربي تحت وطأتها الأمّريـن، كونها - علاوةً على عنصر المقاومة فيها، الذي لا يمكن التقليل من أهميته بحال من الأحوال - شفّت عن "نداء الداخل"، الذي يعبّر عن أسرار نفس بشرية قلقة، تفجّر رموزًا وإشارات تؤدي استعاراتها من خلال الإيحاء المكثف.
اقرأ أيضًا: توظيف الدلالة
وعلى صلة بهذا، يؤكد فرزات هنا والآن أن الناس هم رصيده، وأنه ينتمي إليهم، ومن همومهم ومعاناتهم يستمدّ موضوعاته وشخصياته.
والمتمعّن في رسومه لا يطلّ على مشهد بعينه فقط، هو السوري تحديدًا، وإنمّا على ما هو أعمّ وأشمل، نظرًا إلى أنها تتعدّى التعيين إلى التجريد.
هذا ما ينطبق، مثلًا، على لوحة رسمها في معهد العالم العربي في باريس منذ سنة 1989، عن ديكتاتور في بزّة جنرال يسكب أوسمة ونياشين في الطبق لمواطن فقير يحتاج طعامًا ومن حولهما الدمار، وسرعان ما تسابق زبانية أنظمة دكتاتورية في العالم العربي إلى بذل مساع لإنزالها وحجة كل منهم أنها لرأس نظامه، بينما كانت لمجرّد ديكتاتور ما لا على قاعدة أي تعيين، وفق ما يؤكد.
اقرأ أيضًا :"محاكمة" كافكاوية
من أين استمددت عبارة "صحّة العقل" في مقام الحديث عن فرزات؟
قبل أكثر من عامين وشهرين، وبالضبط يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول 2013، رحل الكاتب الإنكليزي كولن ويلسون عن اثنين وثمانين عامًا.
وأبرزت التقارير التي كُتبت عنه بعد رحيله، أنه على الرغم من كونه أصدر نحو مئة كتاب، لم يحظَ باعتراف المؤسسة الثقافية البريطانية به على الإطلاق.
ويبدو أن سبب ذلك راجع بشكل رئيس إلى كتابه “Outsider” الذي ألفّه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وقدّم فيه قراءة لكتاب وأدباء عالميين قاسوا الويلات تحت وطأة مأساة الانفصال بين المثال والواقع، وكابدوا "إشكالية الهدف في الحياة" وفقًا لتعبير ويلسون نفسه.
وقد ترجمه العراقي أنيس زكي حسن في منتصف ستينيات القرن العشرين الفائت إلى اللغة العربية بعنوان "اللامنتمي".
اقرأ أيضًا: تدريب العين أخلاقيًا
يقول ويلسون: "إن اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذّرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه... إنه ليس مجنونًا، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقل... مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية... هو يريد أن يكون حرًّا ويرى أن صحيح العقل ليس حرًّا، ولا نقصد بالطبع الحرية السياسية وإنما الحرية بمعناها الروحي العميق".
بقدر ما إن فرزات ظلّ محافظًا على "صحّة العقل" بإزاء كل ما أحاط ويحيط به من أسباب الجنون، بقدر ما إنه كان بمنزلة منتم إلى الناس بأطيافهم لا إلى أي جهة سياسية أو حزبية.
وردًّا على سؤال في ما إذا كان يفتقد الآن "متعة" بذل جهد في التحايل؟ يقول إن قيمة الكاريكاتير أو تأثيره عندما كان في داخل سورية جاء من أنه انتقد بشكل مباشر ما كان يعتبر "تابو" أو من المحظورات، ويقصد رأس النظام وفروع الأمن، حيث أنه ذكرهم بالاسم. وبالتالي لم يعد لديه ما هو أقسى من ذلك. وبقيت مهمته الاستمرار في تقديم ما يهمّ الناس ويحاكي مشاعرهم. ولذلك راح الناس يرفعون هذه الرسومات خلال المظاهرات.
ويضيف: "لقد سخرت من الرئيس، حين كانت الناس تتكلم عن السلطة همساً، أو تخاف حتى الهمس، باعتبار أن للجدار آذانا. في أيام الهمس، صرخت بأعلى صوت من الداخل".
نستطيع أن نزيد أن هذه القيمة والتأثير كانا محصلة نأيه عن فن تلفيق الواقع، ودأبه على تحويل الحقائق الصعبة إلى صور واضحة ومُوحية.
وبذا دقّ بيده التي تضرّجت بالدم باب الحرية في الشام التي قيل فيها بيت الشعر الخالد: "وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ!".
وإرهاصات ما أبدعـته ريشته على أثر اندلاع الثورة السورية كانت بادية في فنّـه قبل اندلاعها أيضًا، وهي التي أهّلتـه لأن يصبح صوتًا فنيًا واضحًا وجسورًا في رسم ملامح موضوعات ومشكلات عانى المواطن العربي تحت وطأتها الأمّريـن، كونها - علاوةً على عنصر المقاومة فيها، الذي لا يمكن التقليل من أهميته بحال من الأحوال - شفّت عن "نداء الداخل"، الذي يعبّر عن أسرار نفس بشرية قلقة، تفجّر رموزًا وإشارات تؤدي استعاراتها من خلال الإيحاء المكثف.
اقرأ أيضًا: توظيف الدلالة
وعلى صلة بهذا، يؤكد فرزات هنا والآن أن الناس هم رصيده، وأنه ينتمي إليهم، ومن همومهم ومعاناتهم يستمدّ موضوعاته وشخصياته.
والمتمعّن في رسومه لا يطلّ على مشهد بعينه فقط، هو السوري تحديدًا، وإنمّا على ما هو أعمّ وأشمل، نظرًا إلى أنها تتعدّى التعيين إلى التجريد.
هذا ما ينطبق، مثلًا، على لوحة رسمها في معهد العالم العربي في باريس منذ سنة 1989، عن ديكتاتور في بزّة جنرال يسكب أوسمة ونياشين في الطبق لمواطن فقير يحتاج طعامًا ومن حولهما الدمار، وسرعان ما تسابق زبانية أنظمة دكتاتورية في العالم العربي إلى بذل مساع لإنزالها وحجة كل منهم أنها لرأس نظامه، بينما كانت لمجرّد ديكتاتور ما لا على قاعدة أي تعيين، وفق ما يؤكد.
اقرأ أيضًا :"محاكمة" كافكاوية
من أين استمددت عبارة "صحّة العقل" في مقام الحديث عن فرزات؟
قبل أكثر من عامين وشهرين، وبالضبط يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول 2013، رحل الكاتب الإنكليزي كولن ويلسون عن اثنين وثمانين عامًا.
وأبرزت التقارير التي كُتبت عنه بعد رحيله، أنه على الرغم من كونه أصدر نحو مئة كتاب، لم يحظَ باعتراف المؤسسة الثقافية البريطانية به على الإطلاق.
ويبدو أن سبب ذلك راجع بشكل رئيس إلى كتابه “Outsider” الذي ألفّه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وقدّم فيه قراءة لكتاب وأدباء عالميين قاسوا الويلات تحت وطأة مأساة الانفصال بين المثال والواقع، وكابدوا "إشكالية الهدف في الحياة" وفقًا لتعبير ويلسون نفسه.
وقد ترجمه العراقي أنيس زكي حسن في منتصف ستينيات القرن العشرين الفائت إلى اللغة العربية بعنوان "اللامنتمي".
اقرأ أيضًا: تدريب العين أخلاقيًا
يقول ويلسون: "إن اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذّرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه... إنه ليس مجنونًا، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقل... مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية... هو يريد أن يكون حرًّا ويرى أن صحيح العقل ليس حرًّا، ولا نقصد بالطبع الحرية السياسية وإنما الحرية بمعناها الروحي العميق".
بقدر ما إن فرزات ظلّ محافظًا على "صحّة العقل" بإزاء كل ما أحاط ويحيط به من أسباب الجنون، بقدر ما إنه كان بمنزلة منتم إلى الناس بأطيافهم لا إلى أي جهة سياسية أو حزبية.
وردًّا على سؤال في ما إذا كان يفتقد الآن "متعة" بذل جهد في التحايل؟ يقول إن قيمة الكاريكاتير أو تأثيره عندما كان في داخل سورية جاء من أنه انتقد بشكل مباشر ما كان يعتبر "تابو" أو من المحظورات، ويقصد رأس النظام وفروع الأمن، حيث أنه ذكرهم بالاسم. وبالتالي لم يعد لديه ما هو أقسى من ذلك. وبقيت مهمته الاستمرار في تقديم ما يهمّ الناس ويحاكي مشاعرهم. ولذلك راح الناس يرفعون هذه الرسومات خلال المظاهرات.
ويضيف: "لقد سخرت من الرئيس، حين كانت الناس تتكلم عن السلطة همساً، أو تخاف حتى الهمس، باعتبار أن للجدار آذانا. في أيام الهمس، صرخت بأعلى صوت من الداخل".
نستطيع أن نزيد أن هذه القيمة والتأثير كانا محصلة نأيه عن فن تلفيق الواقع، ودأبه على تحويل الحقائق الصعبة إلى صور واضحة ومُوحية.
وبذا دقّ بيده التي تضرّجت بالدم باب الحرية في الشام التي قيل فيها بيت الشعر الخالد: "وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ!".