لا يخفي الأديب خليل النعيمـي في الحوار معه، كما هو دأبـه دومًا في حوارات أخرى، أن رحيله من سورية فور أن اكتشف بشكل مبكر أن الحياة في ظل نظامها البائس لا تُستحق أن تُعاش، لم يكن هجرة وإنما مجرّد تَرْك يحيل إلى فعل اختيار واعٍ.
وبحسب مفرداتـه هو، لمفهوم الهجرة تعريف مستتب، ومقوِّمات، وأسباب وأساليب، فيما أن التَرْك يظلّ نوعًا من الرحيل الإرادي المُخطط له بعناية.
وحين كانت تلّح عليه الأسئلة، درج على إضافـة أن هذا الترْك فيما يتعلّـق به شخصيًا بمثابة انتقال من مكان لم يعد يريحه إلى مكان آخر، وأنه لا ينفُرُ من الأمكنة، وإنما من الفكر الذي يتحَكّم فيها، ولا يستبدل مكانًا بمكان بديل، وإنما وضعًا بوضع مغاير.
بالتوازي مع هذا لا يرفض بالمطلق أن هذا التَرْك يفضي أيضًا إلى منفى حتى لو كان إراديًا أو اختياريًا.
وسنعود إلى دلالة المنفى لاحقًا.
اقــرأ أيضاً
قبل ذلك، يلزم الالتفات إلى توكيده أن "وعي الكائن" الذي يُعايش الأشياء وليس وجودها الكمّي، هو الذي يعطيها المعنى، أو هو الذي يستخرج جوهرها من العدم.
ومع أنه يورد ذلك ضمن تقييمه الخاص لأدب الرحلة في العصر الراهن، فإن هذا المعيار ينطبق على أي كتابـة، بما في ذلك الكتابة النقديـة، كما قرأنا في نظريات كثيرة.
إن علاقة الناقد بالأثر الأدبيّ هي "علاقة معنى بشكل"، وفق ما يقول رولان بارت. فالناقد لا يمكنه أن يدعّـي "ترجمة" الأثر خاصة بوضوح أكبر نظرًا إلى أنّه ليس هناك ما هو أوضح منه. ما يستطيعه هو أن "يولّـد" معنى معينًا، مشتقًا إيّـاه من شكل هو الأثر الأدبيّ.
ربما يكون بارت قد بالغ في دور الناقد، حين كتب عنه قائلًا إنه يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي أنه ينتج تلاحمًا للعلامات. لكن ما ذهب إليه من ضرورة عدم التلهي بـ"ترجمة" الأثر عن الحاجة إلى إقامة المعنى معه يقف في صلب الكتابة حول أي شيء.
وبشأن المنفى، اعتبر إدوارد سعيد أن شجنه دفيـن لا يمكن التغلّب عليه، فهو ينبع من الواقع الأساسي للمنفيّ، ومن الانفصال أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ومكانه الأصليّ، بين الذات وموطنها.
اقــرأ أيضاً
برأي سعيد، دائمًا يجيء المنفى في المعتاد وليس أبدًا نتيجة لتغيرات تكون غير متوقعة وجذرية، تؤثر في مجموعة من الناس. وإن كان صحيحًا أن كل من يُمنع من العودة إلى موطنه منفيّ، إلا إن ثمة فروقًا بين المنفيين واللاجئين والمغتربين والمهاجرين، وإن كانت مصائرهم وأوضاعهم القانونية كثيرًا ما تمتزج. والمنفى ينبع من ممارسات قديمة قدم الدهر مثل الإبعاد. وما أن يُبعد الشخص حتى يضطر إلى العيش منفيًا في مكان آخر، وهي حياة غير طبيعية وبائسة، تدمغه بوصمة الغريب. وتعتبر إقامة أوفيد في تومي مثالًا شهيرًا من أمثلة المنفى في الأزمنة الكلاسيكية القديمـة، وكذلك يعتبر نفي فيكتور هوغو إلى جرسي على يد نابليون الثالث من الأمثلة الحديثة والمعروفة.
أمّا اللاجئون فإنهم ينتمون إلى عصر الدولة الحديثـة، باعتبارهم مواطنين لدولة ما، يتقرّر أنهم قابلون للاستبعاد فيُرحّلون أو يُجبرون على الرحيل، وهنا يتحولون إلى أغراب في الدولة التي تؤويهم. وكلمة "لاجئ" أصبحت كلمة سياسية تشير إلى أسراب من الأبرياء الحائرين يحتاجون إلى مساعدات دولية ملحة، بينما كلمة "منفيّ" تحمل في طياتها لمسة من العزلة والروحانيـة.
والمنفيون مهاجرون باعتبارهم لا يعيشون في موطنهم الأصليّ، لكن المهاجر هو بالتحديد من يهاجر إلى بلد جديد لأسباب سياسية أو غيرها، أي أن باستطاعته الخيار، وهو ما لا يُتاح للمنفيّ.
في التحصيل الأخير تبقى فكرة الترْك إلى منفى قاسية. لكن الالتجاء إليها عادة ما يكون مدفوعًا بغاية استبدال وضع بآخر، كما يؤكد النعيمـي، وهو سلوك مبرّر.
وقبل سنوات كثيرة من ترْك محمود درويش أرض فلسطين إلى المنفى، كتب أن تجربة العيش في "الواقع الجديد" الذي نشأ بعد 1948- "تجربة اللاجئ في وطنه"- تبعث على خطر القتل النفسي بصفاقة أقسى من تجربة المنفى. ففي المنفى يتوفّر لديك الإحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتتنسَّم رائحة أمل. فضلًا عن هذا، فإنَّ اللاجئ الفلسطيني في فلسطين لم يُترك حُرًّا حتّى بحرمانه، حيث أضيف عنصر جديد هو عنصر التحدّي من جانب السارق.
اقــرأ أيضاً
وبحسب مفرداتـه هو، لمفهوم الهجرة تعريف مستتب، ومقوِّمات، وأسباب وأساليب، فيما أن التَرْك يظلّ نوعًا من الرحيل الإرادي المُخطط له بعناية.
وحين كانت تلّح عليه الأسئلة، درج على إضافـة أن هذا الترْك فيما يتعلّـق به شخصيًا بمثابة انتقال من مكان لم يعد يريحه إلى مكان آخر، وأنه لا ينفُرُ من الأمكنة، وإنما من الفكر الذي يتحَكّم فيها، ولا يستبدل مكانًا بمكان بديل، وإنما وضعًا بوضع مغاير.
بالتوازي مع هذا لا يرفض بالمطلق أن هذا التَرْك يفضي أيضًا إلى منفى حتى لو كان إراديًا أو اختياريًا.
وسنعود إلى دلالة المنفى لاحقًا.
ومع أنه يورد ذلك ضمن تقييمه الخاص لأدب الرحلة في العصر الراهن، فإن هذا المعيار ينطبق على أي كتابـة، بما في ذلك الكتابة النقديـة، كما قرأنا في نظريات كثيرة.
إن علاقة الناقد بالأثر الأدبيّ هي "علاقة معنى بشكل"، وفق ما يقول رولان بارت. فالناقد لا يمكنه أن يدعّـي "ترجمة" الأثر خاصة بوضوح أكبر نظرًا إلى أنّه ليس هناك ما هو أوضح منه. ما يستطيعه هو أن "يولّـد" معنى معينًا، مشتقًا إيّـاه من شكل هو الأثر الأدبيّ.
ربما يكون بارت قد بالغ في دور الناقد، حين كتب عنه قائلًا إنه يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي أنه ينتج تلاحمًا للعلامات. لكن ما ذهب إليه من ضرورة عدم التلهي بـ"ترجمة" الأثر عن الحاجة إلى إقامة المعنى معه يقف في صلب الكتابة حول أي شيء.
وبشأن المنفى، اعتبر إدوارد سعيد أن شجنه دفيـن لا يمكن التغلّب عليه، فهو ينبع من الواقع الأساسي للمنفيّ، ومن الانفصال أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ومكانه الأصليّ، بين الذات وموطنها.
أمّا اللاجئون فإنهم ينتمون إلى عصر الدولة الحديثـة، باعتبارهم مواطنين لدولة ما، يتقرّر أنهم قابلون للاستبعاد فيُرحّلون أو يُجبرون على الرحيل، وهنا يتحولون إلى أغراب في الدولة التي تؤويهم. وكلمة "لاجئ" أصبحت كلمة سياسية تشير إلى أسراب من الأبرياء الحائرين يحتاجون إلى مساعدات دولية ملحة، بينما كلمة "منفيّ" تحمل في طياتها لمسة من العزلة والروحانيـة.
والمنفيون مهاجرون باعتبارهم لا يعيشون في موطنهم الأصليّ، لكن المهاجر هو بالتحديد من يهاجر إلى بلد جديد لأسباب سياسية أو غيرها، أي أن باستطاعته الخيار، وهو ما لا يُتاح للمنفيّ.
في التحصيل الأخير تبقى فكرة الترْك إلى منفى قاسية. لكن الالتجاء إليها عادة ما يكون مدفوعًا بغاية استبدال وضع بآخر، كما يؤكد النعيمـي، وهو سلوك مبرّر.
وقبل سنوات كثيرة من ترْك محمود درويش أرض فلسطين إلى المنفى، كتب أن تجربة العيش في "الواقع الجديد" الذي نشأ بعد 1948- "تجربة اللاجئ في وطنه"- تبعث على خطر القتل النفسي بصفاقة أقسى من تجربة المنفى. ففي المنفى يتوفّر لديك الإحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتتنسَّم رائحة أمل. فضلًا عن هذا، فإنَّ اللاجئ الفلسطيني في فلسطين لم يُترك حُرًّا حتّى بحرمانه، حيث أضيف عنصر جديد هو عنصر التحدّي من جانب السارق.