Print
ديمة الشكر

"كنوز" داميان هيرست وعدّة الشيطان

21 نوفمبر 2017
آراء

متصيّدًا النفس البشرية من زاوية إعجابها "السرّي" بالرذائل أو بتعبير أدق بعدّة الشيطان الشهيرة والآسرة (على الدوام، إذ يوسوس)، ومختارًا من الذهب بريقه، ومن البرونز فخامته الصلبة، ومن الرخام قوة حضوره، ومن مواد أخرى أقوى ما فيها، مع وضع لمسته الخاصة في المبالغة والتضخيم والإبهار، "ينجح" الفنان البريطاني الأغنى في العالم داميان هيرست، في إثارة الجدل، كعادة لا تقبل الاستثناء. ولعل طرح الأسئلة عن المعرض، كنشاط "ثقافي" يرافق المعرض، يلقي الضوء أكثر على عالم اليوم الذي يقول هيرست "للمفارقة" إنه ينقده.

 

المكان في المكان، كالسحر في السحر، إذ إن معرض هيرست موجود حاليًا في فينيسا الخلابة، وتحديدًا هو موزّع على قصرين فينيسيين : قصر غراسي، و"بونتا ديللا دوغانا"، الذي كان في أصله مقرًا للجمارك البحرية الفينيسية في القرن السابع عشر. للقصرين المنيفين مالك واحد: فرانسوا هنري بينو، مالك "كريستي" دار المزادات الشهيرة، فضلًا عن حفنة من أكبر دور الماركات العالمية. وهو أيضًا أحد أشهر جمّاعي الفن، وصديق للفنان داميان هيرست.


 

الأمور ها هنا، بأرقامها ودلالاتها ومعانيها، وكلها لا ترضى بأقل من "اسم التفضيل": الأوسع، الأضخم، الأغلى، إلى آخر السلسلة. خاصّة أن هذا معرض هيرست الأول، بعد غياب لسنوات، لا عن سوق الفن – فهذه في نشاطها العجيب الغريب - بل عن "الإنتاج". إذ إن كلمة إنتاج تحديدًا حال كانت تخص داميان هيرست، تحتاج مزدوجين صغيرين، فالفنان الأغنى والأشهر، يطرح الفكرة بيد أن غيره (جيش صغير من الحرفيين) ينفذها.

 

عنوان المعرض الأخير "كنوز من حطام اللامعقول"، و"اللامعقول" (أو أبيستوس) اسم سفينة هائلة، غرقت في المحيط شرق إفريقيا، في تلك البقعة الملاحية الشهيرة: المحيط الهندي. ومالكها أيضًا جمّاع تحف فنية، مثل بينو وهيرست نفسه الذي طبّقت الآفاق شهرة قصره، قصر تودينغتون في مقاطعة غلوستشير، المخصص لعرض مجموعة هيرست الشخصية من التحف والأعمال الفنية.

بيد أنّ صاحب السفينة الهائلة، ليس "سيدًا"، مثل زميليه في جمع التحف والأعمال الفنية، بل عبد اسمه "سيف أموتان الثاني"، الذي عاش في منتصف القرن الأول للميلاد، أي تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية. ووفقًا للرواية المكتوبة في كتيب المعرض، فإن العبيد في ذاك الزمان، توفرت لديهم إمكانيات الإثراء والصعود الاجتماعي. كذا فقد راكم العبد، حين حاز حريته، ثروة هائلة أتاحت له إنشاء مجموعة من التحف الفنية من أنحاء الأرض الأربعة. مائة كنز أسطوري، منها المزيف والمسروق والمنهوب، والموصى عليه خصيصًا، وضعت كلها على السفينة، تمهيدًا للإبحار صوب معبد يبنيه "العبد المحرر" سيف أموتان الثاني. بيد أن سفينة "اللامعقول"، غرقت في مياه المحيط، ومعها تلك الكنوز والروائع.


انتظر الأمر قرابة ألفي عام، وتحديدًا عام 2008، حيث عُثر على الحطام والكنوز، هنا دخل الفنان الأغنى هيرست إلى المشهد، وقيل إنه تكفّل بدفع ما يلزم للمختصين المنقبين في الماء عن الكنوز، كي يُخرجوها، ويقتنيها هو ويضعها في قصرين هائلين في مدينة ساحرة، طافية على الماء؛ فينيسيا.


من الماء إلى الماء إذن، وكما تنوء فينيسيا بالرطوبة التي تنخرها وتأكلها، وتترك على مبانيها الخلابة، آثاراً لا تتبخر ولا تجفّ، كذا كانت الكنوز: كلّها تقريبًا مزنّرة بالمرجان والأعشاب البحرية، ونباتات صخر- مائية. قيل إن الفنان هيرست، وفقًا لفيلمين مرافقين للمعرض، أراد أن يترك الكنوز بمرجانها وأعشابها وأغصانها، وأنه سيعرضها فحسب.

 

ما الكنوز القادمة من أنحاء الأرض الأربعة؟ الكنوز الغرقى- الطافية من أقوى الحضارات: اليونانية، الرومانية، المصرية، البوذية، وغيرها "العجيب الغريب". شيء بين الواقع والخيال، لا معقول، ولا يصدق: نصف تمثال من اللابيس اللازوردي لتوت عنخ آمون، رأس ميدوزا من جاد أو المالاكيت، تمثال برونزي هائل، بالكاد يتسع له إيوان القصر ذي الطوابق الأربعة، مشاهد هاربة من أساطير إغريقية تارة من ذهب، وتارة أخرى من مادة زرقاء مبهرة، عملات ذهبية مرتبة ومصفوفة كما في المتاحف، تمثال بوذي، إلى آخر السلسلة. ثم، ثم ماذا؟ ثم الغريب العجيب: تمثال لميكي ماوس وعليه مرجان من كل الألوان، نصف تمثال أنثوي، لامرأة تشبه عارضة الأزياء الشهيرة كيت موس، أو إحدى شخصيات فيلم آفاتار، تمثال أنثوي، له وضعية "أبو الهول" ورأسه ينوس بين الفراعنة والمغنية ريهانا، فضلًا عن تماثيل ذهبية ضخمة لشخصيات شهيرة من أفلام الفضاء.

ربما سيكون من العبث، تحليل المعرض، والنظر في دلالاته، وإدمان الاشمئزاز من معانيه، خاصة تتفيهه لكل شيء تقريبًا. فالأمور لا تتم هنا كما تتم عادة، حيث يحلل العمل الفني معزولًا عن سياقه، بمعنى أنه جرت العادة علميًا أن يحلل نقّاد الفن لوحة ما ولتكن الموناليزا، بقطع النظر عن الزمان والمكان، أي عن متحف اللوفر وزمن كتابة النقد. الأمر معكوس هنا تمامًا، إذ إن السياق: المكان في المكان، والزمان: زمن العولمة الطريف، فضلًا عن فكرة جمّاع الفن (هيرست وبينو وسيف أموتان الثاني)، وتلك النقود الوفيرة التي تشفّ منها، وتلك التماثيل الهائلة التي يصعب تصور إلا قصور ومتاحف على قياسها، كلّها معًا تؤلّف ما سيلزم "ناقد الفن"، أن يأخذه في الحسبان كي يحلل ظاهرة داميان هيرست، الذي يقول إنه بعمله هذا ينقد عالمنا. يحار المرء من تلك السينيكية، خاصّة حين يطالعه تمثال نصفي للفنان مغطى بالمرجان، فترن في البال كلمات في كتيب المعرض عن غطرسة عبد مخترع في قصة بليدة، وعن جشعه وطمعه، وعشقه للتملك والاستئثار والاستحواذ على فنّ من كل نوع، أصيل ومزيف ومنهوب ومسروق وموصى عليه خصيصًا (بغية التميز واحتكار أسماء التفضيل). فن على حافة غريبة: يقتات من التزييف الظاهر بشكل مقصود، يرنّ ذهب عالمه المزعج، ويتفه الفن كقيمة إنسانية، شيء من "اللامعقول"، يؤكد ربما إعجاب الناس "السري" بالرذائل؛ عدة الشيطان في كل العصور.