Print
نبيل سليمان

مواصلة النقاش حول النقد والفلسفة: وصال أم فصال؟

2 يونيو 2017
آراء

 

استئنافاً لما كتب حاتم الصكر في هذا المقام تحت عنوان (الناقد الأدبي والناقد المتفلسف) في 18/5/2017، تذكرت الشعار الذي رفعه أحمد أمين (1881-1954) في مقدمة كتابه (قصة الفلسفة اليونانية). والشعار هو (تأديب الفلسفة وفلسفة الأدب)، غير أني أضفت إليه كلمة النقد، ليكون الحديث عن فلسفة الأدب ونقده. وقد علل أحمد أمين رفعه الشعار بنفور الأدباء من قراءة الفلسفة، لما يجدونه من جفافها، وبشكوى الأدب من فقر الأفكار، جراء ضعف صلته بالفلسفة. ترى ألا يزال ذلك النفور كتلك الشكوى، قائمين؟

ماذا قال الرواد؟

 من النقاد الذين كتبوا عما بين الفلسفة والنقد، أذكر شكري عياد (1921-1999) في كتابه (بين الفلسفة والنقد 1990). وما لا أنسى من ذلك الكتاب تشبيه صاحبه للفلسفة بواحدة من جنيات الحكايات الشعبية المصرية التي تلقاها على شاطئ النيل في ليلة مقمرة، جالسة ورجلاها في الماء، وشعرها منسدل على جسمها العاري، تناديك بصوت حنون. وقد أعادني حاتم الصكر إلى الكتاب لأجد شكري عياد عاشقاً متسكعاً في ديار الفلسفة: "أقبل ذا الجدار وذا الجدارا"، يكابد هذا الذي يسميه الغرام العذري الذي لا يتحقق، لذلك يأسى على أنه لم يطع غوايات الصبا، ويستسلم لفتنة الجنية: "أيام أن كان لها فيّ أرب، وأراني مع ذلك أطمع في وصالها بعد أن شخت".

من بعد يتحدث شكري عياد عن (الجنية العجوز الشمطاء، مصاصة الدماء) كما تجلت في ما كتب أمين الخولي (1895-1966) عن أثر الفلسفة في البلاغة العربية. وكانت غاية الخولي إبراز تيار بلاغي في تاريخ البلاغة يقوم على (الذوق) وليس على (المنطق)، مما جعل معارضيه يُخْرجون هذا التيار من أرض البلاغة، ويصنفونه كتيار في النقد الأدبي. وكان الخولي قد رسم للبلاغة التقليدية تلك الصورة الدميمة الشوهاء، متذرعاً بأثر الفلسفة فيها، وبأنها "نضجت حتى احترقت". وقد تحدث حاتم الصكر عن سيادة المنطق الأرسطي في القرن الرابع الهجري على النقد البلاغي، فتحول النقد الأدبي إلى أقيسة منطقية.

مجلة الآداب:

وواقع الأمر أن العلاقة بين الفلسفة والأدب والنقد كانت وستبقى إشكالية. ففي أمس غير بعيد تحدث نجيب محفوظ عن طه حسين كناقد اتبع فلسفة ديكارت وطريقته في الشك المنهجي. وجاء حديث محفوظ القادم من دراسة الفلسفة إلى الرواية، في عدد ممتاز من مجلة الآداب اللبنانية المحتجبة، يعود إلى آذار – مارس 1962، وفيه ندوة أدارها فاروق شوشة، وضمت مع نجيب محفوظ (1911-2006) لويس عوض (1915-1990) الذي ميّز بين ما سماه الأدب النقدي والأدب الخالق، أي بين النقد والأدب. ومضى عوض إلى أنه يجوز للناقد (صاحب الأدب النقدي) أن يصطنع موقف الفيلسوف. وقد جاء في تقديم ذلك العدد من (الآداب) أن النبض الفلسفي في الأدب هو ما يوفر له التفرد والبقاء، وأن أدبنا يشكو من فقر فلسفي، وأن الأدب الذي يفتقر إلى أنظمة فلسفية متماسكة، أو بذور فلسفية متناثرة، أو حتى نظرات تفلسف الحياة، مدعو إلى الزوال. ولكن ماذا لو أبدلنا كلمة الأدب في هذا التقديم بكلمة النقد؟

من القلة القليلة التي تميزت مساهمتها في الوصل والفصل بين النقد الأدبي والفلسفة، أذكر بخاصة أنطون مقدسي (1914-2005) الذي دأب على أن تبدأ نقوده بمهاد فلسفي ثري بالأفكار والمفاهيم، كما في مقدماته للأعمال الكاملة لصدقي إسماعيل، وفي أبحاثه، ومنها بحثه (قضايا الأدب وضرورة إنتاجه) من عام 1978 وقبل ذلك بسنة بحث (العقل في الأدب). وقد لاحظ مقدسي نفسه أن أبحاثه تسبب إرباكاً للقارئ بانتقالها المفاجئ من الفلسفة إلى الأدب. وفي دراسته المطولة لشعر المقاومة الفلسطيني أنموذج مميز لتوظيف الفلسفة في النقد الأدبي التطبيقي. أما البحوث ذات السمة النظرية فيبدو لها اليوم من فضل الريادة قدر كبير، ومن ذلك توظيفه لأطروحة الكتابة كما قدمها رولان بارت وجاك دريدا وجماعة تيل كيل، وذلك في بحثه (مدخل لدراسة الأدب والتكنولوجيا) المقدم إلى مؤتمر الأدباء العرب التاسع. وقبل أربعين سنة أيضاً تقرى مقدسي مشكلة الكتاب من الجاحظ إلى دريدا. وينبغي ألا يفوتنا هنا ذكر عبد الكريم اليافي (1919-2008) الذي تتلمذ على كتابه (دراسات فنية في الأدب العربي – 1963)، حيث أسّس نقده على قواعد علم الجمال كما قدمها لالو بخاصة، وأسس قوله في طبائع الخيال على غاستون باشلار، وأفاد بألمعية من تخصصه الفلسفي في دراسته لفكرة الزمان في الشعر العربي.

في كتابي (مساهمة في نقد النقد الأدبي – 1981) فصلت القول في ريادة أنطون مقدسي. ومن قبل، في كتابي (النقد الأدبي في سورية – 1980) فصّلت القول في ريادة جميل صليبا (1902-1976) القادم من الفلسفة إلى النقد. ويبدو تأثير الفلسفة جلياً في مساهمته المبكرة في نقد النقد، وذلك في كتابه (اتجاهات النقد الحديث في سورية – 1969) حيث يشتبك القول النقدي بالحدس والفكر والخير والجمال... من القول الفلسفي.

نقد أدبي أم نقد ثقافي؟

ليس التفلسف مناسباً لمتون تنبني على المخيلة والعواطف، كما يكتب حاتم الصكر. لكن نقود شكري عياد ولويس عوض وأنطون مقدسي وجميل صليبا، من ذلك الرعيل الرائد والمؤسس، تجعل ذلك التفلسف ممكناً، شرط ألّا يغطس النقد الأدبي في الفلسفة فيخسر الأدب والفلسفة، كما يقول، بحق، حاتم الصكر الذي يشدد على أدبية النقد، أولاً، ربما، لأنه شاعر، ودحضاً لتهميش النقد الأدبي عبر الدعوة لاختيار الظاهرة الثقافية المتصلة بالأدب ميداناً للكتابة النقدية، ودحضاً أيضاً لتشييع النقد الأدبي لصالح مقاربات اجتماعية سياسية تتخفى خلف عنوان زئبقي عريض هو: النقد الثقافي. وفي سجال الصكر مع هذا النقد يرى أن نقاده العرب استنسخوه من تشومسكي وتودوروف وإدوارد سعيد وسواهم من الفاعليات السياسية لنقاد ولسانيين اجتذبهم الخطاب السياسي أو الاجتماعي، فحل محل النقد الأدبي خطاب متفلسف وليس فلسفياً، لأنه لا يخدم المهمة الأدبية للنقد، ولا يندرج ضمن الفاعلية العقلية للفلسفة. والنقد الثقافي، بالتالي، سيقود إلى العمل خارج الحقل النصي والادبي عامة، وسيترك النصوص بلا مراجعة أو نقد. ويتركّز نقد حاتم الصكر صاحب المساهمات المرموقة في نقد النقد، على دعوة عبدالله الغذامي إلى موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محله، متذرعاً بأن ما يتراءى جمالياً وحداثياً في مقياس النقد الأدبي، هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي. وقد جلجلت دعوة الغذامي وتبشيريته، بخاصة، في كتابه (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية) وفي الكتاب السجالي المشترك له مع عبد النبي اصطيف (نقد ثقافي أم نقد أدبي) حيث يأخذ اصطيف بالنقد الأدبي.

من بين كثير ما قيل في النقد الثقافي أشير بخاصة إلى كتاب آرثر أيزابرجر  (النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة) والذي صدر منذ عشرين عاماً، وبحث في ما بين كل من الماركسية، والسيموطيقا، ونظرية التحليل النفسي، والنظرية الاجتماعية، وبين النقد الثقافي. وشدد على أن هذا النقد نشاط، وليس مجالاً معرفياً قائماً بذاته، وهو، بدعوى نقاده، نقد يساعد في كشف الطاقات والأنظمة الثقافية والإشكاليات الأيديولوجية وأساليب الهيمنة، في النصوص (الراقية) والشعبية.

وقد كانت لهذا النقد، وليس لدعوة الغذامي إلى موت النقد الأدبي، غوايته العربية، فأخذ به نقاد وناقدات، ومن الناقدات أذكر شيرين أبو النجا وشهلا العجيلي ونادية هناوي... والمهم هنا هو اغتناء النقد الأدبي بقدر أو آخر، وبشطر أو آخر، من النقد الثقافي، كما هو الأمر دوماً في تاريخ النقد وتطوره ومناهجه ونظرياته ومعاركه وسجلاته.. فلا مناص للنقد الأدبي من أن يتفاعل مع الفلسفة أو مختلف العلوم الإنسانية، فينسلخ جلده ويتجدد كجلد الحية، دون أن يفقد أدبيته، ولا تقع في اليباس. والقول إذن بزمن الرواية ليس تهريباً لأدبية النقد، كما أن تشغيل الجندر في النقد الأدبي ليس بالضرورة تهريباً لأدبيته.

نقد أدبي أم نقد لساني؟

وهذا مثال ناصع لتخصيب النقد الأدبي. عنوانه (النقد اللساني)، وهو العنوان الذي حمله كتاب (روجر فاولر) وترجمته بألمعية عفاف البطاينة. فالنقد بحسبان فاولر سيرورة ديناميكية، والنقد اللساني تخصص تاريخي، أي ينبغي أن يعتبر النصوص منتجات لزمن كتابة ما، وزمن قراءة ما، وليست تحفة مؤبدة، كما أن دلالة النص تتغير بتغير الظروف. وفي مقدمتها تؤكد المترجمة ما تتسم به النظريات والمناهج النقدية من تنوع وتباين أسسها المعرفية. والمهم هنا هو التوكيد على تداخل النقد الأدبي مع حقول معرفية عديدة، كالفلسفة وعلم الجمال واللسانيات وعلم الاجتماع ونظريات الاتصال. أما في ما يخص النقد اللساني، فالحديث ليس عن حلوله محل النقد الأدبي، بل عن توظيف مناهج اللسانيات، بفروعها ومصطلحاتها ومفاهيمها المتباينة المتنوعة، في حقل النقد الأدبي. وكتاب فاولر لا يأخذ بالتحليل اللساني المحض، بل بالمنهج التحليلي المستنبط من اللسانيات، مما يتيح موضعة الخطابات الأدبية في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والأيديولوجية.

وأختم بإشارتين، أولاهما تضرب مثلاً ناصعاً آخر لتخصيب النقد الأدبي يتعنون بالسيمياء، وحسبي أن أشير إلى سعيد بنـﮕراد. أما الإشارة الثانية فهي إلى ما ختم به جميل صليبا قبل قرابة أربعة عقود كتابه (اتجاهات النقد الحديث في سورية) وهو ختام يتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل: "النقد محتاج في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى إلى من ينقد مناهجه، ويكشف عن منهج جديد، يرفع الخلاف بين المناهج القديمة بصحيح النظر العقلي".