Print
جمال شحيّد

الفصحى الموشّاة بالعاميّة

25 يوليه 2017
آراء
كثيرة هي الدراسات التي تناولت ما سمّاه البعض بـ"الازدواج اللغوي"، وما أفضّلُ تسميته بـ"التكامل اللغوي"، لأن العامية أو العاميّات العربية ظاهرة من ظواهر التطور اللغوي. وهو قديم العهد عندنا، عكس ما يظن بعضهم أنه يعود إلى فترة الاحتلال العثماني التي تراجعت فيها اللغة الفصحى. لقد أورد الجاحظ في "كتاب الحيوان" القصة التالية: تعززت أواصر الصداقة بين بغدادي وبدوي، فكانا يتزاوران. وعندما زار البغدادي صديقه البدوي في البادية سأله هذا الأخير "إيش علومك؟" وهذا من القرن التاسع.


ومجامعنا اللغوية التسعة تعتبر أن العامية ظاهرة انحلال وانحراف يجب تجاوزها بأقصى سرعة، وإلا لصلّينا على لغتنا الشريفة صلاة الغائب. ويذهب بعضهم إلى القول بأنه ينبغي علينا أن نتكلّم مع البقّال والفرّان والعتّال اللغة الفصحى. ذات مرة أخذت تاكسي في دمشق، وعجبت من السائق الذي بدأ يكلّمني بالفصحى، فسألته عن السبب، فقال إنه خريج أدب عربي من الجامعة وأنه يعتبر أن المستوى اللغوي الوحيد عندنا هو الفصحى. نقطة على السطر. فقلت له إن هذه الظاهرة اللغوية العامية موجودة في معظم اللغات. ففي الفرنسية هناك اللغة الشعبية argot بتشعباتها: إذ هناك "أرغو" لطلاب المدارس وللجنود وللممرضين والممرضات ولاعبي كرة القدم وصيادي السمك والعاهرات ومربّي الأبقار... وأضفت أن اللغة اليونانية تعرف اليوم ثلاثة مستويات: "اللغة القديمة" [لغة هوميروس والمسرحيين وأفلاطون وأرسطو والبيزنطيين]، و"اللغة النقية" [الكثاريڨوسا، أي لغة الأدب والصحافة عند اليونانيين الآن؛ وفيها تبسيط كبير للغة الإغريقية القديمة]، و"اللغة الشعبية" [لغة الشارع، التي تختلف لهجاتها ومفرداتها حسب الفئات الشعبية التي تنطق بها، وحسب المناطق والجزر. فكما أن البدو عندما يلفظون القاف گاف، والمصريين بعامة يلفظون الجيم gue، فإن الكريتيين يلفظون الكاپا K بـ tche...] فأردف سائق التاكسي قائلاً بحدة: عندنا لغة واحدة هي لغة السلف الصالح، فلا يحق لنا أن نستبدلها بلغة دونية هجينة منحطة وضيعة رقيعة، حتى وإن تكلّمها ملايين العرب.

كل لغة تتطور على طريقتها وحسب احتياجاتها. لقد لاحظ الألسنيّون أن العربية الكلاسيكية لم تستخدم كثيراً الفعل الرباعي فَعْلَلَ إلا في مجال الأصوات بخاصة: هسهس، ثغثغ، خشخش... ودخلت إلى العربية المعاصرة عشرات الكلمات المشتقة من هذا الرباعي، فنقول مثلاً سرنم، أسرل، شرقن، غربن، مدرح (أنطون سعادة)، علمن، فَرْنَسَ، هَلْيَنَ، أَمْرَكَ، لَبْنَنَ، شرذم، دوزن... وما علينا إلا النظر في العلوم الحديثة المكتوبة بالعربية كي نلاحظ أن آلاف المفردات المستحدثة انهالت على العربية وصارت جزءاً لا يتجزأ منها. ونهل عدد من الكتّاب من معين العامية مفردات كثيرة: مشوار، خبيص، خضرجي، تخبيط.

وعديدون هم الكتّاب الذين برّروا استخدام العامية وحدها أو متداخلة مع الفصحى كتوفيق الحكيم وسعيد عقل والياس خوري وهدى بركات وسنان أنطون... وفي عام 1949 أصدر الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج أطروحته للدكتوراه بعنوان "فلسفة اللغة"، وفيها وفّق بين المعيش والقول، ورأى أن لا فصل بين المعنى والوجدان واللغة، كما أن تعايش الفصحى والعامية لا يشكّل خطراً على اللغة، لا بل يكون أمراً طبيعياً تستلزمه الطبقية الاجتماعية. أما الكاتب الذي صال وجال كثيراً في هذه المسألة فهو توفيق الحكيم، ربما ليقول إن مدرسته مختلفة عن مدرسة نجيب محفوظ الذي كان يكتب بالفصحى وحدها، ما عدا بعض الكلمات والعبارات المحلية أو عناوين الأغاني. في نهاية مسرحية "الورطة" (1966) كتب نصاً عنوانه "لغة المسرحية" يقول فيه: "الفارق بين العامية والفصحى يضيق يوماً بعد يوم... وقد أفسحت الفصحى صدرها لبعض الشائع في النطق والحوار دون أن تطرده من حظيرتها طرداً... وحسبنا أن نلاحظ المتكلمين في الندوات والمجالس العادية لنعجب لضآلة الفارق بين العربية وما سمي بالعامية" (المؤلفات الكاملة، المجلد الثالث، ص 831، مكتبة لبنان).


ويذكر الحكيم أن من الحكمة بمكان هو "إزالة الوهم بوجود لغتين منفصلتين تقوم بينهما هوة سحيقة". وينصح الحكيم كل كاتب سيناريو أن يضع بجواره قاموس "الوسيط" – ولكن ذلك لا يكلّفه أكثر من جنيهين – ليكتشف أن كثيراً من الكلمات المصنفة في ذهنه عامية، هي فصحى لا شائبة عليها. ولعبت المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام المكتوبة والمنطوقة دوراً في التقريب بين العامية والفصحى؛ وهذا ما يسميه الحكيم بتفصيح العامية، كي تكون "العامية الفصحى" هي لغة التخاطب الموحدة، وخاصة في المسرح الذي اهتم به الحكيم أيما اهتمام (ص 832).



وقد تحمل كلمة "عامية" دلالة تحقيرية أو انتقاصية تحيل إلى الزقاقية والتفاهة والغلاظة والغباء، في حين أن هذه العامية لها جماليتها ونكهاتها وتحليقاتها التي إنْ تُرجمت إلى الفصحى، لأضاعت رونقها وطزاجتها. أمامي "موسوعة العامية السورية" لياسين عبد الرحيم، وكانت وزارة الثقافة السورية – على تشبثها بالفصحى لأنها تعتبر أن سورية هي قلب العروبة النابض – قد أصدرت هذه الموسوعة، بأجزائها الأربعة، عام 2003، ثم أعادت طبعها عام 2013، لإقبال القراء عليها. أثناء تصفحي الموسوعة، استرعى انتباهي عدد من المفردات اللافتة مثل: زكرت [شهم وشجاع]، قبضاي وجدع بلفظ الجيم المصرية [المعنى نفسه]، طحبش [حطّم بعنف]، وطحش [هجم]، طلطميس [خامل العقل]، سرّي مرّي [جيئة وذهاباً]، سرسري [لص وسافل]، غندور [غلام متأنق، صارت تعني المثلي جنسياً]، فاروطي [ذو يد فاروطية: أي إذا ضرب قتل]، فالصو [فاشل]، قادومية [طريق مختصرة]، جزدان... والموسوعة استندت إلى عدد كبير من المصادر، قديمها وحديثها: ومن بينها "قاموس العوام" لحليم دموس، "غرائب اللهجة اللبنانية السورية" لرفائيل نخلة اليسوعي، و"معجم الألفاظ العامية" لأنيس فريحة، و"حكمة المعاجم" لدوزي، "الدليل إلى مرادف العامي والدخيل" لرشيد عطية، "قاموس المصطلحات والتعابير الشعبية" لأحمد أبو سعد.

    

والأدباء الذي عشّقوا العامية في الفصحى، معظمهم مولعون بالسخرية، ومنهم مارون عبود وصدقي إسماعيل وحسيب كيالي وخطيب بدلة وسلام الراسي وإميل حبيبي... ففي نص "أم لطوف" من مجموعة "وجوه وحكايات" القصصية، يقول مارون عبود عن بنت الضيعة: "بلغت جميلة الأربعين وحرنت هناك. تكرّ الأعوام وهي واقفة لا تتزحزح، فكلما سألتها عن عمرها انكسرت عينها وأجابت. حوالي الأربعين... كانت تمشي الغندرة كأنها بنت خمسة عشر. فاتت السنين وظلت نفسها خضراء. كانت تقول دائماً: لا تأثير للعمر، الدنيا أنفس". فلما تزوج ابنها لطوف دون استشارة أمه: "حمي صاحبنا، فجاء أمه بالبنت التي اختارها، فرحبت به بالنعل سفقاً على وجهه وقفاه. ودخل الأب بينهما فزجرته بالعبارة المعدّة له: سد بوزك، اقعد بعيداً. أصرت أم لطوف على إرجاع العروس ولكن ابنها قال لها: تزوجنا يا أمي، لا تتعبي، ما ربطه الله لا يفكّه إنسان. فصرخت به: ليتك تتجنز بجاه الرب، صرت من الفلاسفة يا جحش!". يلاحظ هنا أن العامية تنزل سلسة في نص فصيح، وتضفي ألقاً عليه، دون تصنّع أو تفذلك. وفي نص "معّاز الضيعة" من المجموعة نفسها؛ يصف المعّاز قطيعه قائلاً: "لكل واحدة اسم، وفي عنزاتي المطيعة والعاصية والهادئة والورشة. عندي عنزة شقراء تتلصص مثل البشر، تغافلني وتغزو. السكاء آدمية جداً، بنت حلال لا تتعبني أبداً. وقال بصوت مسموع: الله يرضى عليها! ولكن الملحاء شيطانة، بنت حرام، لها حركات تشيّب الرأس، إذا غفلت عيني عنها تهجم وتنتش، الله يقصف عمرها، هي وحدها سوّدت وجهي عند الضيعة".


هذا خطيب بدلة في قصة "دلال عقارات" من مجموعته "امرأة تكسر الظهر" التي تبدأ بـ"حرامي مانك، ايدك في جيبي ليش؟". ويشيد الدلال بكل الطوابق التي يريد بيعها وينتقد التي لا يحبها الزبون. يقول عن صاحب الدار الحاج درويش الهز: "إذا كنت تبحث عن نموذج للرجل المضبوط النظامي تجده فيه. يعرف الله، ويتقيه حق تقاته، ليس كأولئك المتعهدين الطالعين على الدنيا من جديد، لا يعرفون الله إلا بالإشارة، إذا وقع تحت أيديهم واحد رنجبال [طيب وزكرتي] شرواك نتروه بيعة، لا تقوم له بعدها قائمة". ويضيف: "يا أبو محمد، أنا رأيت لك أن السكنى في الطابق الرابع لا تضاهى في متعتها. لماذا؟ لأنه لا يوجد فوقك بلا معنى أحد، تُدَرْبك أنت على الجيران بقدر ما تشاء، ولا أحد يستطيع أن يدربك عليك، تستطيع أن تمشي أنت وزوجتك ليلاً نهاراً عاريين، أقصد بالسيقان دون أن يراكما أحد، في حين تستطيع أنت أن ترصد أدنى حركة من حركات الجيران في الطوابق الأدنى تحتك... في الليل تشغل الأفلام، أفلام (سقس) شخصي". وهنا أيضاً تتداخل الفصحى مع العامية بكل أريحية واتساق، لتعبّر عن واقع شعبي خالص، دون أي تشدّق أو تقعّر.


للعامية، كما قلت، نكهتها. وعندما يستخدمها أهل القلم بحذق نراها تتعايش مع أختها الفصحى بمودة ووئام وتكامل. متى ستسمح الجامعات العربية بان تُكتب عن العامية أطروحات ماجستير ودكتوراه؟