Print
خيري الذهبي

أمبرتو إيكو المتجذر في الشرق...

15 مايو 2018
آراء

في القرن الخامس عشر، كانت أوروبا التي شاخت دينياً؛ فالكاثوليكية وصلت إلى نهاية التطرف معتمدة على صمت المؤمنين أمام وعظ القومسيرية الدينية البابوية، وخوفهم من بطشها، وبطش الملوك والإقطاعيين الذين كانوا ينصرون البابوية، فتنصرهم البابوية ضد أية محاولة شعبية للتفلت من الكهنوت المتشدد والمعادي لكل تقدم، وكانت البابوية الكاثوليكية قد بلغت من تشددها ضد الأبيقورية الرومانية التي تجلت فضائحيتها في استخدام الرومان الحمامات التي نسميها في الشرق بالتركية، وهي لاتينية، وكان الرومان قد بالغوا كثيرا في الملذات المرتبطة بالحمامات إذ جعلوا الحمامات مكانا للاستمتاع بكل ملذات الحياة من نساء، وغلمان، وطعام، وشراب، وكانوا يعمدون عند الامتلاء بالطعام والشراب الذي قد يمتد إلى أسبوع أو اكثر، فإذا ما تضايق أحدهم من الطعام والشراب عمد إلى المضي إلى البالوعة، فقام بإقياء صناعي يعود بعدها خفيفاً منفتحاً على ملذات الجسد من فم وما يتلوه.

وحين انتصرت الكنيسة المتشددة على روما الإبيقورية حرمت الحمامات، وحرمت حتى الاغتسال، وليس من الغريب أن فرنسا بنت البابوية البكر ليس في قصور ملوكها حمامات، ولا تواليتات فكيف ببيوت العامة منها، وليس من الغريب أن فرنسا عمدت إلى اختراع أنواع العطور تغطي بها على روائح الفرنسيين الناتجة من عدم الاستحمام، أو الاستبراء والاستنجاء، كما حرمت الكنيسة المبالغة في الطعام، وحرمت ممارسة الجنس إلا لإنجاب من دون شهوة معلنة" حتى في الزواج الشرعي"، وكانت الطواعين تختطف السكان سنوياً، وكانت دورات القحط تحيل أوروبا إلى بلاد المشردين الجوالين يبحثون عما يقيمون به أودهم، وكانت الكنيسة لا تملك إلا التبشير بجنة يعيشون فيها في الحياة الأخرى مع الأطهار والملائكة!

وكانت الحروب التي دفعت البابوية المؤمنين إليها في بلاد الشام، والتي سمّاها مؤرخوهم وكهنتهم في عجرفة حروب الصليب بينما سمّاها المسلمون من الضحايا بحروب الفرنجة... ترى، هل عرف المفكرون المسلمون المعاصرون لتلك الحروب أنها حرب الإقطاع الأوروبي على الحركات العامية في الغرب، والمحولة إلى المسلمين الكفار، وفضلوا تصدير مصائبهم إلى الشرق بدلاً من حلها محلياً، وكانت الكنيسة معادية ورافضة تأثيرات القفزة العلمية والفكرية في الأندلس، فقد جعلوا من طرد المسلمين من إسبانيا الهدف الأول، فجيّشوا الجيوش الأوروبية العائدة مخفقة من الشرق لعون الإسبان وما زالوا في حرب جعلوها دينية حين سمّوها بالحروب "الصليبية" في إسبانيا حتى هزموا المسلمين في الأندلس الممزقين في حروبهم الداخلية، وسموها "حروب الاسترداد"، وربما كان المسلم الوحيد الذي كتب عن حروب الفرنجة في الشام "الصليبية" هو الأمير أسامة ابن المنقذ وهو المعاصر لحروب الفرنجة الذي اهتم به الغرب اليوم، ومن ومظاهر اهتمامه بكتابه "الاعتبار"الذي وجدوا نسخة منه تعود إلى القرن الثاني عشر في مكتبة "الاسكوريال" فحققوها ونشروها كشهادة عن الحروب الفرنجية بقلم مسلم معاصر لتلك الحروب، وفي هذا الكتاب يقول أسامة: أما الفرنجة فلا شيء يميزهم إلا القوة والشجاعة، وهما موجودتان لدى الحيوان كالأسد والنمر، أما الإنسان فيتميز بالحكمة ويعني "الفلسفة" والشعر!

من هذه المقولة على بساطتها يتكشف لنا الدافع العميق غير المعلن للحروب الفرنجية في الشرق  وهي البحث عن الحكمة والفلسفة التي كانت قد أخذت تغزو أوروبا عبر نقل التلاميذ الأوروبيين الذين درسوا في المدارس الأندلسية الكتب التي علمتهم الحكمة والمخبرية... إلى الغرب الخاضع لسيطرة الكنيسة والتي كان من أشد أعدائها الفيلسوف الإغريقي "أرسطو" الذي ترجمه، وشرحه، ابن رشد، فاعتبره متشددو المسلمين من الفقهاء المالكيين تماما كما اعتبرته الكاثوليكية... أي من الهراطقة الوثنيين، وهذا المترجم الحكيم الذي يبدو أن ترجماته قد تسللت إلى العقول الأوروبية عبر ترجماته إلى اللاتينية، فصارت الكنيسة واقعة في حرج امتلاك نسخ من كتب أرسطو منثورة في مكتبات أديرتها، وفي الخوف من تسرب أفكاره عن أهمية العقل في تفسير السلوك البشري، وفي الخوف من تأثيراته هذه في العوام. وربما كان من العوامل السرية للحروب الفرنجية محاولة قتل هذا الفكر في موطنه.

وهنا تبدأ رواية أمبيرتو ايكو "اسم الوردة"التي يختار لها هذه الزاوية الحرجة فكرياً، فعقدتها الكبرى كامنة في أن ديراً كاثوليكياً يعتبر من أهم الأديرة لما فيه من رجال دين، وخدم يخدمونهم، وما فيه من مكتبة كبرى تحتوي على آلاف المجلدات، وعشرات الناسخين من أهل الدير ومن الأديرة الأخرى الباحثين عن نقل العلم إلى أديرتهم.

من هذه الكتب النادرة كان كتاب أرسطو "الضحك" وهو المفكر الذي تقف منه الكنيسة، ككل،  موقف المعادي لما يدعو إلى الأرضية بعيداً عمن رغبات الكنيسة، وتحريضها على العبادة الجادة، واعتبار الحياة الدنيا مرحلة صعبة على المؤمن...

ومن الواجب عليه السرعة في مغادرتها قبل التورط في الذنوب الأرضية والخزعبلات الوثنية، ومن هذه الذنوب "الضحك" فهو بداية طريق السقوط في أحضان الشيطان.

في رواية إيكو ثلاثة موتيفات استعارها إيكو من الحضارة الإسلامية وأولها وصول باسكرفيل إلى الدير الذي اكتشفت جثة واحد من رهبانه تحت غرف نوم الرهبان المتقشفة، فيقوم باستدعاء الكاهن الشهير باسكرفيل للبحث عن سبب موت الراهب الشاب وتبدأ الدراما في الرواية والتي لن تتوقف إلا عند كشف سر العصور الوسطى التي كان للكنيسة فيها الدور الأساسي في حياة المجتمعات الغربية.

 الموتيف الأول هو عند وصول باسكرفيل قريباً من الدير ليجد مجموعة من العاملين في الدير وهم قلقون يفتشون عن حصان رئيس الدير الذي اختفى، وقد توقفوا لتحية الكاهن المحقق باسكرفيل، ولكن باسكرفيل يحدثه صادماً: شكرا لك يا سيدي القيّم، فقد توقفت عن البحث عن الحصان الضائع من أجل تحيتنا، ولكنك لن تعثر على الحصان الأعور بسهولة، والذي يظلع إلى اليمين، والذي لن يستطيع الابتعاد بعيداً من الدير، فالمنحدر الذي سيواجهه والذي يقع على هاوية الزبل سيمنعه من متابعة السير، وسيعود! وعندئذ قاطعه القيم: عذراً يا سيدي ولكن متى رأيته؟ ولم تركته يبتعد؟

ويفاجئ باسكرفيل الجميع عندما يقول إنه لم يره يوماً، ولا يعرف طريقة للوصول إليه!

هذا الموتيف سيذكرنا بقوة بالحكاية المنسوبة إلى كاهن قبل الإسلام عند قدوم إخوة ثلاثة يطلبون من الكاهن العدل في ما وضعه أبوهم الراحل من شروط لوراثته، وتكون لدى الكاهن قضية أخرى يبتّ فيها وهي ضياع جمل من القبيلة فيقول الابن الأكبر: ألعله أعور؟ فيقول الكاهن: هذا صحيح، ويقول الأوسط: ألعله أعرج الساق اليسرى؟ فيقول صاحب الجمل وهو يتعلق بهم: إنه هو، ولكن الصغير يقول: لعله أبتر الذيل؟ ويقول الكاهن: أنتم تعرفون مكانه! ولكنهم ينكرون، وحين يسألونهم فكيف عرفتم بصفاته؟ يقول الكبير: لاحظت أن العشب حيث كان يسير مأكول من جهة اليمين ومهمل من جهة اليسار! فعرفت أنه أعور، ويقول الثاني: لاحظت بصمات قدميه وكانت ثقيلة عند اليمنى وتكاد تكون ممحوة عند اليسار، فأدركت أنه أعرج، وقال الثالث: وأنا لاحظت أن برازه مكوم على الأرض كتلة واحدة فعرفت أنه أبتر الذيل، فالجمل يوزع برازه بذيله بضربه للبراز بذيله فيتطاير، وعندئذ يقتنع الشاكي بأن الشبان ليسوا من سرق الجمل، ويبدأ دور الكاهن في الإبانة عن أبناء الزواج الشرعي، وعن الابن المولود لأب مغاير.

هذا الموتيف استخدمه إيكو منذ مفتتح الرواية، للحديث عن ذكاء المحقق في قراءته ما يبدو متشظياً عند وصفه الحصان الهارب وعاهاته التي دلت باسكرفيل عليه .

الموتيف الثاني وهو عقدة الرواية الكبرى فهي منتزعة من رواية العرب الكبرى ألف ليلة وليلة وهي التي تحكي حكاية الطبيب الذي يستطيع إنقاذ الملك من دون دواء يبتلع أو يدهن، بل يطلب منه اللعب بالكرة والصولجان حتى ينهك لأسبوع وهي لعبة الملك المفضلة، ويأخذ الملك يلعب بها حتى يتعرق، ثم يعود إلى القصر، فيستحم إلى أن يزول المرض، ويعجب الملك بالطبيب حتى يقربه ويرفعه فوق الوزراء والحكماء، فيغارون من الطبيب ويدسون للملك أن من يشفي باللعب بالكرة والصولجان حتى التعرق قادر على القتل بالمصافحة، وبالهواء المتنفس وملامسة الجواري الحسان، ويبدأ الملك بالخوف، ولا يزالون في الدس عليه حتى يكرهه، ويأمر بقتله تخلصاً من أذى ممكن، وحين يعرف الطبيب بالأمر بقتله يطلب لقاء السلطان، ويقول له: أنا أعرف ألا فائدة من التوسل، ولكني إكراماً للطب الشافي سأقدم للسلطان كتاباً فيه نصائح وإرشادات العمر، فإن أصبت بمرض ما، فما عليك إلا استشارة الكتاب وهو سيقدم لك الدواء، وأعطى الكتاب للسلطان الذي لم يتراجع عن أمر القتل فقتلوه، وبعد شهور أصيب السلطان بعارض عجز أطباء القصر عن شفائه، فطلب الكتاب، وحاول القراءة فيه ولكن صفحات الكتاب أبت الانفتاح، فاضطر آليا إلى لعق إصبعه وفتح الصفحة الأولى، فإذا بها نصائح عامة وحين يحاول فتح الصفحة التالية تتأبى، فيضطر إلى لعق إصبعه وفتح الصفحة، وهكذا حتى يسقط صريعاً بالسم المدهونة به صفحات الكتاب!!

إيكو استعار هذا الموتيف من ألف ليلة وليلة ليجعل منها العقدة المركزية للمكتبة القاتلة لمن يرغب في قراءة الكتاب الملعون من الكنيسة "الضحك" ترجمة ابن رشد، وهكذا تتوالى جرائم قتل الرهبان الفضوليين على يد كتاب الضحك المحروس بالكاهن الأعمى "ولنلحظ الغمزة التي يصم بها إيكو الكاهن"، ممثل الكنيسة البابوية، وأخيراً يصل الكاهن باسكرفيل فيتابع كل الخيوط حتى يصل إلى المكتبة اللغز الأخطبوطية البناء والكاهن الأعمى حارس المكتبة والذي منع الرهبان من قراءة كتاب الضحك، وحتى يعاقب المتجرئ على قراءته خلسة يسمم صفحاته الملتصقة، ويكون على المغامر بقراءته أن يدفع الثمن من حياته !!!!.    

 ما الذي جعل أومبيرتو إيكو قبل وفاته بزمن من أهم الروائيين العالميين اليوم رغم أنه معروف بأنه عالم سيميلوجيا، بل ربما كان من أهم علماء السيميولوجيا اليوم، وهو لم يقدم سوى هذه الرواية الهامة وهي  "اسم الوردة" وقد تلاها بروايات عادية اتكأت على شهرة "اسم الوردة" ولكنها لم تحرز عناية القراء والنقاد.

اسم الوردة رواية من الصعب أن ترى مثيلا لها في معظم اللغات المنغمسة في كتابة الرواية اليوم .

وأنا شخصيا متحمس لهذه الرواية المتفوقة في كثير من المناحي، إن على مستوى الشكل الذي تجاوزت فيه كثيراً من الروايات الطليعية أو من حيث المضمون الذي تجاوزت فيه كثيراً من الروايات والروائيين!

وربما كانت للبحث بقية!

عمَّان