إلى جانب نتاج أمجد ناصر الباقي في الشعر والرواية، ستظل ذكراه مقرونة بصحيفة "العربي الجديد"، وبموقع "ضفة ثالثة" الصادر عن الصحيفة، والذي تولّى إدارة تحريره إلى ما قبل رحيله، وشاء القدر أن يتزامن هذا الرحيل مع دخول الموقع عامه الرابع منذ انطلاقته في بدايات تشرين الأول/أكتوبر 2016.
إبان انطلاقة "ضفة ثالثة" اختار أمجد ناصر أن يلفت إلى أن العنوان نفسه طموح، وقد يكون مبالغاً فيه أن يبتكر الذين لا يرغبون في أن يظلوا سجناء الاستقطابات الضيقة، المؤدلجة بشدة، ضفتهم الخاصة بهم. وأكد أن هذا الكلام يبدو شعرياً ولكنه قابل للواقع، وقابل للتطبيق. وبصرف النظر عن هذه الدعاوى الكبيرة، هناك رغبة ملموسة لدى عدد كبير من المثقفين العرب في أن يكون لهم منبر، أو أن يكون هناك منبر يتابعون من خلاله ما يجري داخل المشهد الثقافي العربي، والعالمي إلى حد ما.
وقارب أمجد علاقة الموقع الثقافي الجديد بالسياسة، قائلاً: "للموقع سياسة ثقافية وليست له سياسة سياسية؛ بمعنى أنه يخضع للمعايير المهنية في تعامله مع المواد التي يشتغل عليها وينشرها. لكن عندما أقول إن لا سياسة سياسية له، فهذا لا يعني انقطاعه عن قضايا التحرر والحريات في العالم العربي، ولا عن العدالة والمواطنة التامة غير المرتبطة بشرط. هذه، في فهمي، في صلب عمل أي منبر ثقافي عربي ينتمي إلى محيطه ويتفاعل مع قضايا هذا المحيط. منذ زمن طويل كنا نحّمل الثقافة والمثقفين مسؤولية "قيادة" الشعوب والأمم. هذه مسؤولية أكبر بكثير من أن تنهض بها فئة محددة مهما أوتيت من أدوات السحر. أنا لا أقول بهذا القول اليوم، ولكني أرى للمثقف دوراً أساسياً في محيطه، ولا أنظر إليه باعتباره شخصاً متخصصاً في حقول ضيقة ومنعزلة عن الحياة العامة".
*****
فيما يخص نتاج أمجد ناصر الأدبيّ، سأكرّر الإشارة، ضمن هذه الإطلالة السريعة، إلى اعترافه، في 2010، وهو العام الذي شهد إصداره ثلاثة كتب هي: روايته الأولى "حيث لا تسقط الأمطار"، و"فرصة ثانية" (شعري سردي)، و"الخروج من ليوا" (أدب رحلات)، بأنه يجد نفسه في حالة انعدام وزن كتابي، وأرجع سبب ذلك إلى يقينه بأن المبدع يقيم في الكتابة، وأنه ما دمنا نتحرك في الأمكنة فإن الثابت في هذا الترحال هو الكلمة، مُستعيداً قول الشاعر الألماني هولدرين إن القصيدة هي بيت الشاعر، لكنه زاد أنّ الكتابة، عموماً، هي بيت الكاتب، هي أرضه ومكانه، وليس صدفة، على ما يبدو، أن يسمّى الشطر في الشعر العربي بيتاً، وهذا إدراك عربي سابق على قول الشاعر الألماني السالف حيال العلاقة الأنطولوجية بين الشاعر أو الكاتب والكتابة نفسها.
وفي حوار أدلى به في ذلك العام للصديق محمود منير صرّح بما يلي: لا أعرف بالضبط على أي أرض أقف. بصدق أقول لك، مستعيراً النفريّ، إنني في موقف الحيرة. من قبل كانت الأمور أسهل. لم يكن يطول تساؤلي عن ماهية الشعر والنثر. كان لكل واحد خزانته، كما يقولون. هناك خانات جاهزة صنعها غيرنا وكان سهلاً علينا أن نضع ما نكتب في تلك الخانات. لا أعرف فعلاً إن كان أبناء جيلي يتقلبون في الحيرة حيال سؤال الكتابة اليوم مثلما أنا عليه.
وعندما أصدر أمجد روايته الأولى، اجتهد كثيراً لإثارة سجال بشأن العلاقة بين الشعر والرواية مؤكداً أن الشاعر حين يكتب الرواية لا يهرب من الشعر الذي في وسعه أن يتخلل أنواعاً كتابية عدة من بينها الكتابة السردية الروائية أو القصصية، وأنه هو نفسه حين كتب الرواية كان يرغب في توسيع حدود إطار التعبير إذ يمكن، برأيه، تخيّل العالم من دون رواية ولكن من الصعب تخيّله من دون شعر، فالشعر أصل التلفظ الأدبي وفي البدء كان الشعر والرواية حصلت لاحقاً، وإن كان شكل الشعر تغيّر وتغيّرت صورته وإجراءاته اللغوية والكتابية منذ وجدت قصيدة النثر. ومقولة "الشعر أصل" ليست عربيّة الهوى فقط. فويليام فوكنر، الذي اعترف في الحوارات الفكرية والفلسفية التي أجرتها معه مجلة "باريس ريفيو" عام 1956، بأنه شاعر فاشل، أضاف أنه ربما كل الكتّاب يبدأون بالشعر وحين يلحظون فشلهم في الشعر يتحوّلون إلى القصة القصيرة التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الشعر، وإذا ما فشلوا أيضاً في القصة يتحولون عندها ناحية مشروع كتابة الرواية.
ولدى العودة إلى ما كتبه أمجد في فترة صدور روايته تلك، نقرأ على لسانه كذلك أن الرواية كنوع أدبيّ وسعت حدودها وأصبحت أكبر من كونها وعاءً حكائياً فقط ومالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق إلى الحكاية، وأنه في فعل الكتابة يمكن توقع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمل في مصائر الإنسان في زمن استفحال القوة والمال والتكنولوجيا والحروب. ولعلّ الأهم من ذلك أنه لم يعتبر كتابته للرواية هرباً من الشعر أو إعلان هزيمة للشعر خصوصاً وأنه من الذين كتبوا باكراً أدب الأمكنة أو ما يسمى "أدب الرحلة" الذي يضم خصائص نثرية وسردية وشخوصاً ليست بعيدة تماماً عما هي عليه في الرواية. ورجّح أمجد أن الشاعر يسحب معه لغته إلى الرواية أو أي شكل كتابيّ يتصدّى له؛ فليست هناك لغتان للكاتب واحدة للشعر وأخرى للنثر، وهذا يعني أن لغة الشاعر في الرواية مشدودة ومكثفة أكثر، إذ إن الاقتضاب سمة الشعر عموماً فهو يعمل على ضغط العالم في حيّز لغوي وتعبيري محدود. وهذا يفيد الرواية التي تعاني عند كثير من الروائيين العرب من الترهل والثرثرة اللغوية إن لم يكن من الركاكة. ويشدّد أيضاً على أن الشاعر يُقدّم للرواية تصوّراً مختلفاً للعالم، وهو تصوّر قادم من البُعد الحُلمي للشعر. ولكن هذا لا يعني مماهاة الشعر بالرواية وإن ظل عالم الرواية أوسع وأكثر مرونة من عالم القصيدة.
بهذه المقولات وغيرها كثير وضعنا أمجد أمام ماهية الكتابة، باعتبارها أولاً وقبل أي شيء منهجاً تركيبياً له خصوصية في إدراك الحياة والواقع. وعندما أؤكد على الكتابة فعن وعي كامل بأنها جميع ما يكتبه الأديب.
وقد لا تكون حالة أمجد ناصر استثنائية، ولا سيما بين أبناء جيله ومن سبق هذا الجيل من الأدباء الفلسطينيين والعرب الذي انخرطوا في معمعان الثورة الفلسطينية وحاولوا أن يترجموا هذا الانخراط إلى ثورة في الكتابة وأساليبها. أما إذا كانت كذلك، في قراءات مغايرة، فهي الاستثناء الذي يكشف لنا عُمق قاعدة الكتابة في شروط مشابهة، وأيضاً عمق ضرورتها في الآن نفسه.