Print
يحيى بن الوليد

إنّما الأمم السرد...

10 سبتمبر 2019
آراء
الظاهر أن فكرة السردية ليست متعلقة بشعب، أو مجموعة قومية دون أخرى. لذلك ليس غريبا أن نقرأ عن "إنّما الأمم السرد" التي كان في أساس إشاعتها الكتاب الجماعي "الأمّة والسرد" (Nation and Narration) (1990) الذي خصّه الناقد الهندي الشهير هومي بابا (H. Bhabha) بمقدّمة تحليلية. وأهمّ ما يلفت، في الفكرة، أنّها تأخذ بمفهوم "المتخيّل الاجتماعي"، ودون أن تفوتنا الإشارة، هنا، إلى كتاب بنديكت أندرسون (B. Anderson) "الجماعات المتخيّلة" (Imagined Communities) (1983) المتداول على نطاق واسع في دراسات ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي بعامة. ويتمحور الكتاب حول "المجموعات المتخيـَّلة"، وحول "المجتمع المتخيَّـل" الذي لا يتمّ تخيّله دفعة واحدة؛ وذلك كلّه عبر نصوص لا تكفّ عن خلق عوالمها الداخلية عبر أشكال من "التمثيل".
ومن ثمّ ففكرة الأمة لا تنهض، بالضرورة، على مرتكز الانكسار والانشطار في حال الشعوب. وكما في قولة تنسب للرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، فـ"أميركا فكرة وليست جغرافيا". وحتى بالنسبة لإسرائيل، وبكل ما يصدر عنها من أشكال إبادة لمحو "فكرة فلسطين" من التاريخ وعلى أرض الواقع، هناك من يتحدّث بداخلها عن "فكرة إسرائيل". والمؤكّد أن الفلسطيني له نظرة خاصة لهذه الفكرة شأن المؤرّخين الجدد بإسرائيل، وفي مقدّمهم إيلان بابيه صاحب كتاب "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة". فكرة قوامها "خرافات" سادت لعقود بخاصة بعد أن أفادت إسرائيل من السياق التاريخي الأوروبي الذي كان عاملاً أساسياً في تحول الصهيونية إلى "جغرافيا".
غير أنه في حال العرب، وحال تاريخهم المغلوب، لا بد من أن يتمّ التشديد، أكثر، على سردية أو فكرة فلسطين. وكان بإمكان الفكرة الأخيرة أن تتضح أكثر، بل أن تكبر أيضا، في ضوء منجز "المؤرّخين الجدد" سالفي الذكر. وهؤلاء لا تنطبق عليهم قولة محمود درويش الثاقبة: "إسرائيل تسرق منّا كل الأدوار: فمنهم القاتل ومنهم الضحية". فهؤلاء هم أكاديميّون بدا لهم، من موقع الحفر والتحليل والدرس المعمّق، إعادة النظر في سردية إسرائيل الكبرى أو "اختلاق إسرائيل القديمة" حتى نحيل على عنوان كتاب كيث وايتلام (K. W. Whitelam). وكان الكتاب قد أثار ضجّة كبرى، بخاصة وأن إدوارد سعيد قال كلمة مقتضبة في حقه (وهي مثبتة على ظهر غلاف الترجمة العربية). والغاية من فكرة هؤلاء المؤرّخين هي التأكيد على تضافر السرد والتاريخ من ناحية السردية والسردية المضادة كما في حال فكرة فلسطين. ومن ثمّ تقارب إدوارد سعيد مع هؤلاء، وكذلك محمود درويش الذي احتضنهم في مجلة "الكرمل" في دلالة على التقارب نفسه.
وكما أسلفنا كان بإمكان فكرة فلسطين أن تكبر مع هؤلاء، بالنظر لروايتهم المضادة للرواية الإسرائيلية حول أمور شتّى في مقدّمها خروج الفلسطينيين طوعا من أراضيهم، غير أن
الانكسار الداخلي أو الانقسام السياسي الفلسطيني اللاحق كان له تأثيره على ظاهرة هؤلاء. ويوضّح الناقد الفلسطيني فيصل دراج في قراءته في الحالة الفلسطينية الفكرة قائلا: "وممّا لا شك فيه أيضا أن الانقسام السياسي الفلسطيني لاحقا، قد كبح هذه الظاهرة وضيّق حدودها، لأن "المراجعة الإسرائيلية الذاتية" لا تنفصل، ولن تنفصل، عن فاعلية الكفاح الفلسطيني وآثاره الملموسة على المجتمع الإسرائيلي" ("الهوية، الثقافة، السياسة"، ص34).
إن دور التاريخ، من موقع السرد، أساسي على مستوى صياغة سرديات الأمم. وفي هذا الصدد يمكننا أن نحيل على كتاب الدارس الهندي سونيل خيلناني (Sunil Khilnani) المعنون بـ"فكرة الهند". ولعل أهمّ ما في الكتاب هو فهم صاحبه للهوية، من منظور مرتكز الدولة وسياق الثقافة الموسّع، ممّا ارتقى بالهند إلى مصاف "الفكرة": "الفكرة التي وفرت دعائم فكرية وعملية للهند الحديثة، وأتاحت لها هويتها المتميزة وأبقتها في نصف القرن الماضي، خلافا لكثير من الدول الحديثة، الدولة الديمقراطية والمتسامحة والمنفتحة فكريا" (الترجمة العربية، صص13 ــ 14).
أمّا في حال الفلسطينيين، تعيينا أو حصرا، فلا وجود لدولة بالمعنى الذي يفضي إلى الحديث عن الهوية، بل ليس لديهم حتى "سلطة سياسية، بالمعنى التقليدي، يحتجون عليها، لأنهم يحتجون أولا على مصادرة أرضهم ووطنهم وحقوقهم الإنسانية البسيطة التي تتمتع بها كل الشعوب" كما يقول فيصل دراج في كتابه السابق (ص11). والأفظع، هنا، محو جغرافيا فلسطين القديمة أو التاريخية؛ ممّا جعل من فلسطين "قضية". ومن ثمّ منشأ القضية أو المسألة الفلسطينية. وأمّا الرجوع إلى فترة ما قبل النكبة، وبالتالي إحداث تغيير في مجرى التاريخ، فهو ما يتطلب معجزة أو بطولة ملحمية.
أجل هناك من يرى أن "الفكرة محدودة"، وهناك من يرافع عن انهيار الأفكار، بل هناك من مضى إلى التشديد على انهيار ركيزة التعلّق بالأفكار في حدّ ذاته. غير أن ذلك لا يحول دون التشديد على دور الفكر، ولا سيما من منظور ما نعته إدوارد سعيد بـ"المهنة الفكرية" التي رأى فيها "حفاظا على حالة من اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسيّر المرء معها" ("صور المثقف"، ص37). و"لم يحدث في تاريخ البشرية أن كانت مسؤوليات الفكر بهذا الثقل الذي صارت إليه اليوم" كما يقول
الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي إدغار موران (E. Morin) في كتابه "هل نسير نحو الهاوية" (ص61). وثمة "الإبادة الفكرية" التي يتعرض لها الفلسطيني في الكثير من السرديات الغربية كما يقرّ بذلك كريستوفر بولاس (C. Bollas) في تقديم كتاب إدوارد سعيد "فرويد وغير الأوروبيين" (ص15).
وعلى صعيد التاريخ ذاته، أو الكتابة التاريخية تعيينا، فإنه لم يتح للفلسطينيين، قبل احتلال وطنهم، أن يكتبوا "تاريخهم الوطني" أو "تاريخهم الذاتي" بتعبير دراج. ثم إن أكثر من نصف الفلسطينيّين يعيشون في الشتات، فنحن بصدد شعب آخر في الشتات؛ ممّا كان له تأثيره على هويتهم التي هي مناط كتابة تاريخهم. هذا بالإضافة إلى افتقار الشعب الفلسطيني تقريبا لأرشيف يليق بحجم تاريخهم. وهذا في مقابل شبكة من النصوص في أرشيف إسرائيل الذي أسهم فيه أيضا العلماء والإداريّون الأوروبّيون في القرن التاسع عشر لتبرير مشروعهم الكولونيالي كما يتصوّر إيف كلفارون (Yves Clavaron) في كتابه "إدوارد سعيد ــ الانتفاضة الثقافية" (ص154).
وبالجملة؛ تتميّز إسرائيل بكرهها للتاريخ في حدّ ذاته أو فكرة التاريخ، لذلك كان اشمئزازها من دراسة تاريخ الشعوب غير الإسرائيلية. ومن ثمّ الوجه الآخر لمعركة الفلسطينيين مع إسرائيل. ويلخص إيف كلفارون، في حال إدوارد سعيد، الفكرة قائلا: "في مقابل أركيولوجيا "الأمر الواقع" يقاوم الفلسطينيون عن طريق ممارسة سلوك تقويضي يعتمد على تعدد الأصوات وسرد التاريخ والحكايات الملموسة على أرض الواقع التي يتصارع عليها الطرفان (إسرائيل وفلسطين). لكن، في كلتا الحالتين، الأجندة القومية تميل إلى التشابه بما أن النزاع الإقليمي يقود إلى البحث عن الشرعية في الأنشطة المرنة مثل إعادة بناء الماضي واختراع التراث والتقاليد" (صص153 ــ 154).
فـ"فكرة التاريخ" مهمّة ومتنازع فيها في الوقت ذاته كما يقول الناقد الهندي شاكرابارتي ديبيش (Dipesh Chakrabarty) في كتابه "مواطن الحداثة ــ مقالات في صحوة دراسات التابع" (ص25). وأهمية كل من إدوارد سعيد ومحمود درويش، في سرديتيهما، من "لحظة الفكر" العامة التي يرتبط بها المؤرّخون في كل حقبة بحسب مارك بلوخ (M. Bloch) في كتابه "دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرّخ" (ص63).  كما أن أهميتهما من كسرهما لمألوف السردية التاريخية المثقلة بالطابع الوطني السوسيولوجي أو التقليدي، إضافة إلى عدم الإيغال في التاريخ ذاته في نطاق ما يعرف بالإفراط في التاريخ، وتراوحهما بين "التاريخ العبء" و"التاريخ الحافز"... في مجابهة سياق فلسطين القائم مثلما الانطلاق منه، ومن منظور يبحث لسردية فلسطين عن موقع في النزعة الإنسانية الكونية وفي التاريخ العالمي للقرن العشرين ككل؛ بل عدّها أخطر مأساة القرن. وذلك كلّه بكثير من التفرّد والتميّز على مستوى "سلاح الخطاب"، ودونما سقوط في أيّ صنف من صنوف "الالتزام الراديكالي بالفكرة الراديكاليّة" أو "لغم الفكرة ــ الوثن".