Print
هيفاء بيطار

الانتحار قهراً في سورية

9 يناير 2020
آراء
بعد غياب ستة أشهر كنت خلالها في باريس، من حزيران/يونيو حتى كانون الأول/ديسمبر 2019، عدت إلى اللاذقية التي تخصني وأحس أهلها أسرتي الكبيرة، وأريد أن أكون شاهدة عصر لما يعيشه شعبي السوري، وألتقي دوماً أصدقاء ومعارف سوريين يحكون لي قصصهم وآلامهم وآمالهم، أريد أن أكون صوتهم وهم يطلبون مني ذلك. روعني التدهور الفظيع في مستوى الحياة في اللاذقية وفي سورية (بشكل عام)، الغلاء الفاحش حيث تضاعفت أسعار معظم المواد، وفُقد الكثير منها، انهارت الليرة السورية ووصل سعر الدولار تقريباً إلى 800 ليرة سورية، وأصبح التجار يُسعرون البضائع بحسب الدولار، ووصل سعر كيلو اللحم الذي يؤكل إلى 8000 ليرة سورية. والكل يعرف أن متوسط دخل المواطن السوري الموظف عند الدولة هو على الأكثر 50 دولاراً فقط. وزيادة الرواتب الهزيلة لم تحل أي أزمة معيشية إذ ظل الراتب هو راتب احتقار وليس راتبا يكفي أن يعيش المواطن السوري حياة كريمة. وكانت الزيادة 20 ألف ليرة سورية يُحسم منها ضرائب حوالي 7000 ليرة سورية، أي أن هذه الزيادة خُلبية وتافهة ولا تحل أزمة الجوع والفقر المتفاقمة في سورية، في الوقت الذي كنت أتفرج بذهول على طاقة الشعب السوري في تحمل فقر مدقع وانهيار الليرة، وعلى داء الخرس الذي أصاب معظم الشعب السوري إذ لم نسمع احتجاجات جدية في الشارع، بل مجرد كتابات على الفيسبوك لتنفيس القهر والإحساس بالظلم من الأوضاع المتردية في سورية، وكنت أقارن بين الحراك الشعبي في لبنان وأنصت بذهول لأقوال معظم المتظاهرين اللبنانيين بأن راتب 600 دولار أو 700 دولار لا يؤمنان عيشاً كريماً للأسرة اللبنانية، ومعظم المراسلين الصحافيين وفي مختلف الفضائيات اللبنانية كانوا يتلقون الأجوبة نفسها من العديد من المواطنين اللبنانيين بأن الراتب هزيل والغلاء فاحش ولا يكفي لتلبية الحاجات المعيشية. وأشعر بالذل وأنا أقارن بين صراخ واحتجاج المواطن اللبناني على راتب 700 دولار في الشهر وبين صمت المواطن السوري على راتب 50 دولاراً في الشهر.


داء الخرس الذي أصاب الشعب السوري هو حالة مُروعة من اليأس ومن الخوف أيضاً، فبعد أن شهد هذا الشعب موت مئات الآلاف من السوريين وتهديم مدن وقرى وتهجير سكانها، وبعد أن نزح ثلث الشعب السوري، بعد تسع سنوات من العنف المفرط والمآسي المُروعة في كل أسرة سورية، لم يعد السوري يملك شجاعة الاحتجاج، خاصة وأن كل الإعلام الرسمي وحلفاء النظام يحكون عن الانتصار العظيم على الإرهاب وعلى داعش، الانتصار في سورية من نوع: نجحت العملية لكن المريض مات. فأي انتصار هذا ومعظم الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، وثمة فئة قليلة من أثرياء الحرب تقيم حفلات باذخة تكلف ملايين الليرات السورية، والكل يعرف الفاسدين، حتى أن أغنية (بيلا تشاو) أعادوا إنتاجها لتصبح بيلا تشاو سورية وهي تحكي عن الفاسدين الكبار مثل رامي مخلوف وسامر فوز وغيرهما، وأظن أن هذه الأغنية تمت فبركتها في التلفزيون السوري لإيهام الناس أن الحكومة تحارب الفاسدين، بينما السيد فوز مثلاً يملك أكبر شركة إنتاج سينمائي إضافة لأملاك كثيرة، ولم نعرف كيف حُوسب هؤلاء الفاسدون الذين ظلوا لعقود ينهبون المال العام، لم يتجرأ الشعب السوري على الصراخ في الساحات بإعادة الأموال المنهوبة، ولا برفع راتب الاحتقار 50 دولاراً في الشهر!! العنف المفرط الذي شهده الشعب السوري طوال تسع سنوات وخاصة الاعتقالات الكثيرة للمحتجين والصارخين بأنهم لم يعودوا يتحملون ذل العيش وانعدام الحرية، واختفاء هؤلاء في المعتقلات إن لم تتم تصفيتهم جسدياً، كل ذلك جعل الشعب السوري ينكفئ على نفسه كحلزون في قوقعة، ويعود لشعار اعتاد ترديده منذ خمسة عقود: الحيط الحيط ويا رب السترة. الشعب السوري الأبي مُرغت كرامته وعزة نفسه في وحل الظلم والعنف المفرط فصمت، أصابه داء الخرس، تساوى عنده الموت والحياة، ولم يعد الفقراء المعدمون في سورية مضطرين للانتحار وإحراق أنفسهم أو شنقها كما حصل للعديد من الفقراء اليائسين في لبنان، لأن الفقير المعدم في سورية مُنتحر سلفاً، روحه ماتت، آماله بعيش كريم سُحقت، خوفه على أولاده من الاعتقال إذا تجرأوا وتظاهروا يريدون رفع الرواتب وإعادة المال المنهوب سيكون مصيرهم الاعتقال، لذا حصلت حالة موت نفسي ووجداني للمواطن السوري، فصارت طاقته على  التحمل بلا حدود. ولا أنسى عبارة قالتها لي أم سورية فقدت اثنين من شبانها في الحرب القذرة، وصار اسمها أم الشهيدين وزغردت ذاهلة على الفضائية السورية بأنها فخورة بأنها أم الشهيدين!!! وبأنها أهدت الوطن شابين بعمر الورود ربتهما لتزغرد في عرسهما فإذا بها تزغرد على شاشة الفضائية السورية سعيدة وفخورة باستشهادهما!! بينما وجهها يعكس هول الذهول من الألم الي تعاني منه، وجهها أيقونة ألم متجسدة. قالت لي حين التقيتها بعد إصرار مني لأسألها سؤالاً واحداً فقط: كيف تحملت موت اثنين من أولادها وهم بعمر الصبا والفرح؟ قالت لي: تجاوزت عتبة الألم وصرت أعيش في مكان آخر. وأظن أن هذا المكان الآخر هو الذهول، وهو المكان الذي يعيش فيه معظم السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر والذين لا يتجاوز راتبهم 50 دولاراً في الشهر. هؤلاء أيضاً يزغردون أنهم ما زالوا على قيد الحياة، حياة لا تُشبه الحياة في شيء، مجرد أكل رغيف خبز وانتظار معونات غذائية من الجمعيات الخيرية، والاعتزاز بأنهم لم يُعتقلوا!!!

الانتحار الأكبر هو الانتحار المعنوي، أن يفقد الإنسان شهية الحياة، أن يقول معظم السوريين بلهجة يتفطر لها القلب: عايشين من قلة الموت. وهي العبارة الوحيدة التي يجرؤون على التصريح بها بلا خوف. هي هامش الحرية الوحيد الذي يعيشونه. وهم يعرفون أنهم مخذولون تماماً وبأن معظم المعارضة لا تمثلهم ولم تقدم لهم شيئاً. حتى رجال الدين لا يذكرون معاناة الشعب السوري في خطبهم ومواعظهم سواء في الجامع أو الكنيسة، وكم أحسست بالذهول والألم حين استمعت لفخامة البطريرك السوري يوحنا يازجي يطرز موعظة كنسية في الدفاع عن اللبنانيين ويطالب السلطات والجهات الرسمية في لبنان بالاستجابة لمطالب الشعب اللبناني!!! وفخامة البطريرك اليازجي سوري ويعيش في سورية لكنه لم يعظ أبداً ويحكي عن معاناة الشعب السوري، ولم يُطالب أية جهة رسمية بزيادة الرواتب وتحسين المعيشة للشعب السوري.
لا داعي لأن نجد محاولات انتحار في سورية لأن الذعر ترسخ في النفوس. ولأن الخوف أخرسهم. والعدو الحقيقي للحياة ليس الموت الجسدي فمصير كل كائن حي الموت. عدو الحياة الحقيقي هو الخوف. والسوري على ما يبدو يسكن الخوف أو الموت.