اللامضمون الجديد
الجوهر كما يبدو هو الذي يصنع شكله المجاور والمناسب في مثل هذه العملية المركّبة. وهو مضمون الكتابة المتعارف عليه تاريخيًا، لكنه اختلف هذه المرة وابتعد عن الخطاب الحكائي في عقدته التي انشغلت بها أجيال روائية غير قليلة، ليكون اللامضمون هو الجوهر في الكتابة، وعليه نجد في سرد ما بعد الحداثة وآفاقها معرفيات شاملة خرجت من أطوار الحكي والإنشاء والأساطير الجاهزة ومحاكاتها رمزيًا، فأحيت معها الكثير من الأجناس الأدبية، بوصفها حواضنَ دافعة لديمومة السرد وتشكلاته الفنية، كالفنون الأدبية كلها، والأجناس المعرفية ذات الصيغ التاريخية والجغرافية والطبية والعلمية والمذكرات الشخصية وكتب الشخصيات العامة من سياسيين وفنانين وسواها من التآليف المختلفة، فهذه كلها دخلت في السرديات الروائية بطريقة تفاعلية، تديم السرد وتقوّي منه في كتابة ما بعد الحداثة وما بعد المعرفة الشاملة؛ وتجعل منه متحفًا كبيرًا للعلوم والمعارف، ليكون النص السردي ممتلئًا بالحكمة والمعرفة والأثر الناجز، حتى يساهم من موقعه في إغناء النص بالجديد من الأفكار ولو لم تكن أدبية بهذا المعنى المباشر.
المعرفة قديمة وجديدة في الوقت ذاته. والحداثة فاعلية ثقافية متتالية لا تتوقف عندما يتداخل القديم بالجديد؛ فالسرد المعرفي له تاريخ مؤرشف في الأدبيات العالمية وهو ليس جديدًا تمامًا. والعودة الى التاريخ كُتبت في روايات وملاحم شعرية كثيرة. |
ستبدو فكرة ما بعد السرد أو اللامضمون أحد أهم مهيمنات الكتابة الجديدة في الرواية، عكس الشعر الذي كان منشغلًا بالأسطوريات والملاحم القديمة كثيَم عالمية أغرقته بالتكرار الذي انهمك في نظمه شعراء عالميون وعرب، حتى بات متشابهًا في انتمائه للمهيمنات الأسطورية والملاحم والأقنعة التاريخية، لكنه تخلى عنه لاحقًا، متيحًا المجال للسرد أن يغترف منه ويستوعب جمالياته الفنية الى حد ما. وهذا ما سنجده في الرواية المعرفية، ولكن بحدود معينة من دون الخوض في تفصيلات كثيرة معروفة. فالرواية المعرفية بشموليتها الجديدة هي إنتاج كم معرفي كبير تراكم عبر الزمن الطويل، حتى استعاده السرد تحت طبقات من الوعي في خطاب الرواية المعاصر.
في هذا السياق يبدو أنّ سؤالًا مثل: هل المعرفة جديدة في عالم السرد؟ يتفاعل مع معطيات الكتابة الجيلية المتعاقبة على مر الوقت. ويتضامن مع "تفاعل اللغات وانفتاح الثقافات على بعضها.." برأي ميخائيل باختين. وهذا أمر ليس جديدًا في تتبع آثار الثقافات الإنسانية مع بعضها، كلما كانت الظروف مهيأة لمثل هذا التفاعل التاريخي الذي لا ينقطع. وبالتالي فإن مثل هذا التلاقي الحتمي يفرز معطيات فنية كثيرة، يُستنهض فيها السرد على وجه الخصوص لمقدرته على التفاعل الأوسع واقعًا وخيالًا ولغةً، منذ سيرفانتس وربما أقدم من ذلك التاريخ، منذ أواخر القرن السابع عشر حتى هذا القرن الذي يُعرف بالقرن الرقمي، وما أفرزته معطيات الاتصالات الجديدة من رؤى جديدة في الثورة الإلكترونية الثالثة، كما يسميها الأميريكي توفلر، بعد الثورتين الزراعية والصناعية.
المعرفة قديمة وجديدة في الوقت ذاته. والحداثة فاعلية ثقافية متتالية لا تتوقف عندما يتداخل القديم بالجديد؛ فالسرد المعرفي له تاريخ مؤرشف في الأدبيات العالمية وهو ليس جديدًا تمامًا. والعودة الى التاريخ كُتبت في روايات وملاحم شعرية كثيرة. لكن ليس هذا هو المقصود بالمعرفة التي يحتضنها السرد. فالسرد هو خزين معرفي في أساسياته. ولولا تلك المعرفة لما استحوذ على نسب كبيرة من القراءة، لكن في حدود مدركات عصره وزمنه. غير أنّ المقصود هو هذا الفيض المضاف اليه من علوم وتقنيات مجتهدِة بحمولاتها الجديدة التي تعالقت بالمتغير السياسي والاجتماعي والتاريخي بشكل عام، من دون أن تقدم معرفة جافة تناوب على كتابتها الكثيرون. والمعرفة الجافة هي ما درجت عليه الأدبيات السردية في كل مراحلها الكتابية.
سيرى البعض أنّ مثل هذه المعرفية بتعالقاتها الكثيرة مع الأجناس الأخرى لا تمثل غير (حشو) علمي وأدبي وأنها لا تضيء النص بل تلقي عليه ظلالًا من العتمة وتُثقل من انسيابيته، وأن هذه المصدرية / المعرفية هي ناتج عرضي من نواتج العصر المعبّأ بالمعلومات المخزونة المتاحة للجميع. لكننا نرى أن مثل هذا (الحشو) المفترض يتيح الخيال للسرد المعرفي أن يشتغل ويتمدد، بأثر فني فاعل حينما يتماهى كثيرًا أو قليلًا مع الواقع وملحقاته المتغيرة. لذا من حقنا أن نعدّ الرواية أيضًا مصدرًا من مصادر المعرفة والتوجيه والإحالة في تعالقاتها مع الأجناس الأدبية والعلمية الأخرى، ليكون السرد بعمومياته متحفًا معرفيًا شاملًا يستقطب كل الموضوعات من غير جنسه، كونها معيارًا فنيًا وجماليًا بخبراتها الجديدة وخطابها الجمالي وسلطتها بأن تتجاوز عصرها لتذهب أبعد من ذلك.