Print
حسام أبو حامد

الزواج المختلط.. بين العقيدة وحرية الاختيار

29 نوفمبر 2020
آراء
بعد ضغوط مارستها منظمات نسائية وحقوقية، وبدعم من مؤسسة الرئاسة، وبعد جدل استمر أشهرًا، قررت تونس في 14 أيلول/ سبتمبر 2017 إلغاء جميع القوانين المانعة لزواج المرأة التونسية المسلمة من غير مسلم، والتي باتت تتعارض مع الفصل السادس من الدستور التونسي، الذي يقرّ بحرية المعتقد والضمير، ويحمّل الدولة مسؤولية حمايتها. في بلد يعد الأكثر علمانية في المنطقة العربية والإسلامية، والأكثر ارتباطا بالفضاء الأوروبي، وقد أزهر ربيعه العربي ديمقراطية فريدة من نوعها في المنطقة الإسلامية، فإن الاستمرار في اعتماد قوانين مانعة لزواج المسلمات بغير المسلمين بات أمرا غير مقبول لدى الأجيال التونسية الجديدة، رغم أن القرار لا يزال محل جدل لدى بعض المرجعيات الدينية في البلاد، فضلا عن صدور مواقف مضادة لهذه الخطوة من مراجع دينية في الخارج، وفي مقدمتها مؤسسة الأزهر.

هناك شكوك في أن الوقت قد حان لنقل هذه التجربة التونسية إلى غيرها من مجتمعات مسلمة لم تتقدم بما يكفي في طريق العلمنة. وبكل حال، وفي عصر العولمة، يريد الناس من مختلف الأديان التوافق والتعايش، فهم يسقطون في الحب ويريدون العيش معًا، ومع الطبيعة التعددية للمجتمعات الحديثة فإن قضايا الزواج بين الأديان باتت شائعة. المجتمعات العلمانية لديها وجهة نظر مختلفة للزواج عن تلك التي سادت قبل الحداثة، مما يؤدي إلى نهج أكثر تسامحا في التعامل مع الزيجات بين الأديان، ولكن مع بقاء الدين أحد المكونات الاجتماعية، وعنصرا من عناصر الهوية، تزداد الأمور تعقيدا بشكل متزايد، حيث لا يزال الزواج المختلط، سيما بين زوجين من دينين مختلفين، أمرا محرّما أو مستهجنا في أفضل الأحوال، وفي عالم يزداد ترابطا بشكل متزايد، وتزداد فيه حالات الزواج المختلط ، يحتاج رجال الدين من جميع الأديان والطوائف إلى ابتكار طرق جديدة للتعامل مع هذا الواقع والتسليم به، رغبة في الحفاظ على مواقعهم، مما يقتضي استغناءهم عن المفاهيم التقليدية لصالح مفاهيم جديدة يتم تطويرها، في ضوء حقوق المرأة، والمساواة بين الجنسين، والانفتاح على الآخر. ففي هذا الوضع الراهن المفاهيمي والثقافي المعولم، لم يعد ممكنا الاستمرار في تصنيف الناس حسب عقيدتهم أو خلفياتهم الدينية أو الثقافية فقط.


نقاش متجدد

 سيرينا مملوك وأنطوني قاعور 
















في العام الماضي أثار زواج رجل الأعمال المسيحي أنطوني قاعور وعارضة الأزياء المسلمة سيرينا مملوك ضجّة كبيرة في لبنان، لا سيما بعد أن أشعل مقطع فيديو لزواجهما (وصف بالأسطوري) مواقع التواصل الاجتماعي، مسلطا الضوء مجددا على ظاهرة الزواج المختلط. وبينما تلقّفه البعض بوصفه بيانا سياسيا وثقافيا حول القيم الإنسانية والاحترام المتبادل، أثار المشهد قلق آخرين رأوا في تلك الخطوة، وأمثالها، تهديدا للتوازن الطائفي اللبناني، وخرقا للمقدس الديني. يتألف المجتمع اللبناني من حوالي 18 طائفة دينية تعترف بها السلطات اللبنانية رسميا وتتم إدارة القوانين المتعلقة بالزواج والطلاق والتبني ورعاية الأطفال والميراث من خلال محاكم دينية مختلفة تديرها كل طائفة. ذلك يزيد من التعقيدات الاجتماعية والدينية والقانونية في حالة الزواج المختلط، ويضطر العديد من الراغبين بالزواج المختلط في لبنان إلى عقد قران مدني، في قبرص أو في اليونان.

الإسلاميون الموصوفون بالإصلاحيين باتوا يدركون أن المذاهب القانونية للشريعة في شكلها الأصلي، والتي تعود إلى القرن السابع الميلادي، تتعارض ببساطة مع حقائق الحياة في القرن الحادي والعشرين، ويأخذون التساؤلات السابقة بعين الاعتبار في واقع متغير، فيقترحون الوصول إلى مرونة في تفسير آيات القرآن لتتناسب مع واقع المسلمين



في عموم البلدان ذات الغالبية المسلمة يُحظر زواج المسلمة بغير المسلم، وتنصّ معظم قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية على بطلان هذا الزواج. ومع أن التشريع المصري لا ينص صراحة على حظر زواج المسلمة بغير المسلم، فإن القضاء ملزم بالرجوع إلى أحكام المذهب الحنفي المقنّنة في كتاب "قدري باشا" الذي تحظر بنوده هذا النوع من الزواج المختلط، والأخطر أن المنظومة التشريعية والقضائية في أغلب البلدان الإسلامية تمنح أي مواطن الحق بتحريك القضاء في إطار ما يُسمّى "دعوى الحسبة" من أجل الحكم ببطلان وتفريق المعاشرة المحظورة بمقتضى تفسيرات الشريعة الإسلامية السائدة، باعتبار ذلك مخالفًا للنظام العام.
وقبل أيام طالبت آمنة نصير، أستاذة الفلسفة والعقيدة في جامعة الأزهر، بإعادة فتح النقاش حول زواج المسلمة بغير المسلم، لعدم وجود نص قرآني صريح يحرم زواج المسلمة من غير المسلم، مما أثار ردود فعل غاضبة في أوساط المسلمين والمسيحيين. رفضت المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر ما ذهبت إليه نصير، وشددت على أن هذا الزواج "لا يجوز شرعًا"، وازداد السجال على منصات التواصل الاجتماعي أيضًا، بعدما أعرب بعض المسيحيين عن رفضهم لزواج المسيحي بغير المسيحية، حيث أصدرت حركة "شباب كريستيان للأقباط الأرثوذكس" بيانًا مفاده "من تزوجت من غير مسيحي أو من تزوج من غير مسيحية فهو زان ويحرم كنسيًا. هذا هو قانون كنيستنا القبطية الأرثوذكسية ودستورنا ومرجعنا الوحيد هو الكتاب المقدس".



الزواج شكلا ثقافيا متغيرا

مسلمات اليوم يعشن في وقت مختلف ومكان مختلف، حيث باتت المرأة في كثير من الأحيان مساوية للرجل، وإن المرأة لديها حقوق قانونية قد تشمل تضمين
عقد الزواج حين تتزوج من دين آخر شرطا يقضي
بأن لا يتم تحويلها قسرًا إلى دين آخر




الزواج ليس ماهية فوق التاريخ لتحقيق حكمة إلهية كما تصورته الديانات المختلفة، بل هو شكل ثقافي، ووليد صيرورة تاريخية وتطور تاريخي طويل. ففي المرحلة الوحشية ساد مجتمعات الصيد المشاعية نمط الزواج الجماعي، ومع استمرار العشيرة في منع الزواج بين الأقارب، ضاقت الدائرة، وبات الزواج الجماعي مستحيلا عمليا ليحل محله على التخوم بين المرحلتين الوحشية والبربرية الزواج الثنائي؛ حيث يتشارك زوجان تجمع بينهما علاقات زواج غير متينة، لمدة قد تطول أو تقصر، كان فيه للرجل زوجة رئيسية من بين عدد زوجات كثيرات، وكان بالنسبة لها الزوج الرئيسي في عداد أزواج كثيرين. كانت العائلة الثنائية، على درجة كبيرة من الضعف وعدم الاستقرار بحيث أنها لا تجعل من الضروري أو حتى من المرغوب فيه قيام اقتصاد بيتي خاص، ولا تقضي على الاقتصاد البيتي المشاعي الموروث من المرحلة السابقة والذي عنى سيادة النساء في البيت، كما أن الاعتراف بالأم وحدها، نظرًا لاستحالة معرفة الوالد بدقة، منح رفيع الاحترام للنساء الأمهات. لقد قضت التغييرات الاقتصادية على شكل الزواج الثنائي لصالح أحادية الزواج المتينة في مرحلة الحضارة، حيث احتاج المجتمع إلى شكل وهيكل منظّم، بعد أن أصبحت الثروات ملكية خاصة للعائلات، وتراكمت بسرعة كبيرة، مع الاستقرار في اقتصاد زراعي، مما سدد ضربة قاضية للمجتمع الأمومي، ليتم التحوّل إلى زواج أحادي كرّس تبعية مطلقة، تمت مباركته من قبل النظام الأبوي.



ما قبل اختراع الحب

قد لا يكون رومانسيا أن نعلم أنه في الحضارات الأولى لم تكن للزواج علاقة بالدوافع العاطفية أو الدينية كما هو شائع الآن، فبعد أن كانت الرغبة الجنسية الدافع الأقوى، أصبح غرض الزواج الاستقرار الاقتصادي والحفاظ على الملكية أو المصلحة العامة والأهداف الاجتماعية، كما في المدينة اليونانية (حالتا إسبارطة وأثينا). وفي حالات أخرى، هدف إلى تحقيق أهداف سياسية وديبلوماسية، فكان الزواج تحالفا وتمديدا للمصالح بين العائلات المختلفة، أو داخل العائلة الواحدة، حيث استخدمت الطبقة العليا الزواج لتنظيم تحالفات عسكرية ودمج الثروات. كانت الحروب تنتهي عندما يتزوج رجل من أحد الطرفين امرأة من الطرف الآخر.

قبل أيام طالبت آمنة نصير، أستاذة الفلسفة والعقيدة في جامعة الأزهر، بإعادة فتح
النقاش حول زواج المسلمة بغير المسلم، لعدم وجود نص قرآني صريح يحرم
زواج المسلمة من غير المسلم، مما أثار ردود فعل
غاضبة في أوساط المسلمين والمسيحيين



كان الحب ضد عادات المجتمع في الهند القديمة، وكلمة "حب" باللغة الصينية القديمة تعني علاقة مرفوضة اجتماعيًّا، والأطفال الذين كانوا يولدون خارج مؤسسة الزواج كانوا يسمون "أطفال الحب". في اللغة السومرية كانت الكلمة فعلا مركّبا، يعني حرفيا "قياس الأرض"، أي "وضع علامة على الأرض". فلم يأت أبدا مرادفا للزواج ومعرّفا له.
بالنسبة للسومريين وللبابليين وحتى للآشوريين، كان الزواج ترتيب عمل يهدف إلى ضمان وإدامة مجتمع منظم. وعلى الرغم من وجود عنصر عاطفي لا مفرّ منه في مؤسسة الزواج، فإنَّ نواياها الأساسية في نظر الدولة لم تكن الرفقة ولكن الإنجاب؛ وليس السعادة الشخصية في الوقت الحاضر، ولكن الاستمرارية المجتمعية للمستقبل. ورسّخت شريعة حمورابي العائلة الأبوية، ونقلت السيطرة على المرأة من يد الأب إلى يد الملك.



الزواج تمكينا للدين

  جيوتو دي بوندوني 

















ليست قضية قصر الزواج بين الأتباع المؤمنين محصورة بالإسلام، بل بالأديان عموما، التي تنظر إلى الجنس بوصفه وسيلة للإنجاب من أجل تمتين الجماعة المؤمنة، والحفاظ على تماسكها وهويتها محصنة ضدّ الآخر. لذلك، أي جنس ليس هدفه الإنجاب (الاستمناء، الإجهاض، المثلية، وسائل منع الحمل...) هو من المحرمات التي تهدد الأسرة؛ الكنيسة الصغيرة وفق المسيحية؛ ونواة "الأمة" إسلاميا، والتي وظيفتها الأساسية تلقين الإيمان لأفرادها وإعدادهم ليكونوا مؤمنين. الزوجان في الأديان هما أدوات، ليسا في فئة الذوات الحرة الفاعلة، ولا قيمة للعواطف والمشاعر الإنسانية، ويصل إهدار تلك القيمة إلى درجة قيام بعض "المؤمنين" بقتل أبنائهم حين يكسرون قواعد الزواج المقدسة.
لقد وقع الزواج تحت مظلة العقيدة، وتشكّل وفقًا لأوامرها ووصاياها، وفي اليهودية يُحرّم على الرجل أن يتزوج من أجل المتعة فقط دون الرغبة في الإنجاب: «وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ"» (سفر التكوين 1: 28). والزوجان في المسيحية يتقدسان ويرثان الملكوت: وأولادهما وبناتهما معا يصلّون جميعًا. ويتحول الإنجاب الى مسألة روحية تزداد من خلالها قائمة القديسين والقديسات في السماء، ويسعد هؤلاء جميعًا بفاديهم ومخلصهم، بشركة حية، خالدة وسعيدة، في أورشليم السماوية. وشعار الزوج المسيحي: «... وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يشوع، 24: 15)، وهدفه النهائي أن يقف أمام الله قائلًا: «هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ» (عبرانيين، 13:2) وفي الإسلام: «وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (النور: 32)، والهدف زيادة عدد المسلمين «تزوجوا فإِنَّي مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ، ولَا تكونوا كرهبانِيَّةِ النصارى» (صحيح الجامع/ 2941).
قبل المجمع الفاتيكاني الثاني منعت الكنيسة الكاثوليكية الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، وبين الكاثوليك والمسيحيين المنتمين إلى كنيسة أو جماعة غير كاثوليكية. مع المجمع الفاتيكاني الثاني، أباحت الكنيسة الكاثوليكية الزواج بين الكاثوليك والمسيحيين المنتمين إلى كنيسة أو جماعة غير كاثوليكية بإذن السلطة الكنسية المختصة. مع الزواج المدني في الدولة الحديثة، وفي حالة الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، إذا أراد الطرفان عقد الزواج حسب الطقوس المسيحية، تخيّر بعض الكنائس الطرف غير المسيحي الذي يريد أو تريد الزواج من الطرف المسيحي، بين أن تصبح أو يصبح مسيحيًا أو البقاء على ديانتها أو ديانته، وفي هذه الحال لا يُطلب من الطرف غير المسيحي سوى التعهد بتربية الأولاد تربية مسيحية، من دون إجبار الطرف غير المسيحي على المعمودية.
يعتبر الزواج واجبًا دينيًا على المسلمين وتسمح التقاليد الإسلامية المحافظة للرجال المسلمين بالزواج من نساء ينتمين إلى مجتمعات يُنظر إليها تقليديًا على أنها "أهل الكتاب"، لكنها تمنعهم من الزواج بغيرهن، ولا يُسمح للمرأة المسلمة بالزواج من رجل غير مسلم: «وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (البقرة: 221). يتناسب ذلك مع الاعتقاد بأن المسلمين أفضل من غير المسلمين، وبأن الرجال المسلمين هم أوصياء على النساء المسلمات. ويذهب ابن عاشور، في تفسيره للآية، على أنها تُحرّم بشكل مطلق زواج الرجال أو النساء من المشركين، بينما لا تنص صراحة على تحريم الزواج من الأشخاص المنتمين إلى الديانات السماوية الأخرى. وأضاف أن مفهوم المشرك لم يتم تعريفه بوضوح، على الرغم من اتفاقه مع علماء آخرين في منح الإذن للرجال المسلمين بالزواج من مسيحيات ويهوديات. كما يقرّ بعدم وجود نص ديني يسمح أو يحظر زواج المسلمات من رجال مسيحيين أو يهود، إلا أن العلماء حسب قوله وافقوا على تحريم هذا الزواج لعدة أسباب تتعلق بالقياس والإجماع.

قضية قصر الزواج بين الأتباع المؤمنين ليست محصورة بالإسلام، بل بالأديان عموما، التي تنظر إلى الجنس بوصفه وسيلة للإنجاب من أجل تمتين الجماعة
المؤمنة، والحفاظ على تماسكها وهويتها محصنة ضدّ الآخر



يتأكد، مع ابن عاشور، أن تحريم زواج المسلمة من مسيحي أو يهودي لا يستند إلى أي نص قرآني أو قول للنبي، بل على اتفاق بين العلماء من جميع العصور. وذلك يعني أن وجود نص يحرم الزواج من المشركين والمشركات، وفي غياب نص يفوض المرأة بالزواج من أهل الكتاب، فإن الاتفاق بين علماء فقهاء الدين الإسلامي قائم على نظرة الإسلام للرجل بوصفه ربّا للأسرة، وفي حال زواج المرأة من غير المسلم فإنها ستتعرض للاضطهاد في دينها وقد تُجبر على تركه، كما أن أبناءها سوف يتّبعون دين أبيهم. لكن في العالم الحديث، يطرح ذلك بعض الأسئلة: ماذا لو كانت المرأة قد حازت على المساواة مع الرجل؟ وماذا لو وافق زوجها (حتى بموجب عقد إسلامي) على عدم فرض دينه عليها أو تقييد شعائرها الدينية؟ بالإضافة إلى ذلك، هل يُفسَّر عدم وجود ما يسمح للمرأة بالزواج من أهل الكتاب على أنه تحريم كامل؟ الإسلاميون الموصوفون بالإصلاحيين باتوا يدركون أن المذاهب القانونية للشريعة في شكلها الأصلي، والتي تعود إلى القرن السابع الميلادي، تتعارض ببساطة مع حقائق الحياة في القرن الحادي والعشرين، ويأخذون التساؤلات السابقة بعين الاعتبار في واقع متغير، فيقترحون للوصول إلى مرونة في تفسير آيات القرآن لتتناسب مع واقع المسلمين المتغيّر بأن يفهم التعليم القرآني في مستويين: الأمر المحدد، المتعلق بمكان وزمان محددين، والقيمة الذي يهدف الأمر القرآني لتحقيقها. لذا يدعو بعض الإسلاميين المعاصرين (لم تكن نصير بكل حال أولهم) إلى تفسير جديد لقواعد الزواج بين الأديان، استنادًا إلى الحجة القائلة بأن بعض القواعد القرآنية تتناول الموقف المحدد الذي نزلت فيه، فالتفسير التقليدي لقواعد الزواج في القرآن الذي يُحرّم زواج النساء من خارج دينهم يستند إلى الافتراض التاريخي بأن المرأة يجب أن تقبل دين زوجها. لكن مسلمات اليوم يعشن في وقت مختلف ومكان مختلف، حيث باتت المرأة في كثير من الأحيان مساوية للرجل، وإن المرأة لديها حقوق قانونية قد تشمل تضمين عقد الزواج حين تتزوج من دين آخر شرطا يقضي بأن لا يتم تحويلها قسرًا إلى دين آخر. عند نزول الوحي لم تكن الظروف الثقافية تسمح بذلك، ولو أنزل الله القرآن إلى يومنا هذا لكان من شبه المؤكد الافتراض أن الاستثناء الذي يسمح بالزواج بين المسلمين وأهل الكتاب سيمنح لكلا الجنسين. يجادل هؤلاء أن التحريم كان يبدو منطقيا في الوقت الذي كان فيه المشركون فاحشي الثراء يخوضون حربًا بلا رحمة ضد المسلمين المؤمنين، كان الهدف هو تجنّب زواج المسلمين من المشركين الذين بذلوا قصارى جهدهم للوقوف ضد دين كان يدافع عن المستضعفين. لذا يحث القرآن الرجال والنساء المسلمين على الزواج من مؤمنين لديهم مثل هذا الوعي الديني ويتقاسمون حسّا مشتركا بالعدالة. لكن اليوم، علينا العودة إلى المعنى والأهداف والمقاصد الكلية من الآية القرآنية، من خلال مناقشة عقلانية لا عاطفية للوصول إلى المعنى الحقيقي والعميق لبعض المفاهيم في مجتمعاتنا المعولمة والمتعددة الثقافات، لتأكيد القيمة الأساسية والتوجه الروحي الأولي الذي يكمن وراء هذه الآية، الذي يدعو إلى الصدق واللياقة والاحترام المتبادل.


خاتمة

بالنسبة للسومريين وللبابليين وحتى للآشوريين، كان الزواج ترتيب عمل يهدف إلى
ضمان وإدامة مجتمع منظم. وعلى الرغم من وجود عنصر عاطفي لا مفرّ
منه في مؤسسة الزواج، فإنَّ نواياها الأساسية في نظر الدولة
لم تكن الرفقة ولكن الإنجاب؛ وليس السعادة
الشخصية في الوقت الحاضر، ولكن
الاستمرارية المجتمعية للمستقبل.




من حق المسلمات اللاتي يرغبن بحكمة وتعقّل في الحفاظ على الميراث الروحي لأسرهن المسلمة، أن يحافظن على تقليد الزواج الإسلامي، لكن ينبغي لهن أيضا التغلب على الممارسات الاجتماعية المنافقة التي يتبين أنها أحيانًا غير عادلة، من ذلك أن يقبلن أن يضطر رجل للنطق بالشهادتين عن غير قناعة في سبيل إتمام عقد الزواج. الزواج عقد بين طرفين ليس له علاقة بالدين، إذ إنه اتفاق يوقّعه الزوجان للعيش المشترك، خاضع فقط لإرادة الطرفين في كيفية تنظيمه. الأصل في الزواج التفاهم والانسجام والحب وليس التشابه في المعتقد الديني.
وإنه لمن المجزي أن نحب شخصًا مختلفًا عنا في العرق أو الثقافة أو الهوية أو الدين أو غير ذلك. فمع عقلية منفتحة، يمكننا توسيع وجهات نظر بعضنا البعض، والنظر إلى العالم من زوايا مختلفة لنكتشف سبلا جديدة ومثيرة للتواصل. أما الحجّة التي تبدو مركزية في معارضة الزواج المختلط، ألا وهي مشكلة ديانة الأطفال، فإنها لن تشكّل مشكلة إن وضعت في سياق حرية الإنسان في اختيار عقيدته الدينية، فما يجري في كافة الأديان من محاولة ترويض الأطفال على إتباع ديانة الأهل واصطحابهم إلى الكنيسة والمعبد والمسجد... يعتبر بمثابة قهر لإرادة الطفل، وبمنزلة غسيل دماغ مبكر له، وضد مبدأ حرية الاختيار؛ الشرط الأول والأساسي المطلوب لصحة الاعتقاد وسلامة الدين.
الاختلافات العرقية والثقافية في الزواج المختلط لن تؤدي بالضرورة إلى فشله، مهما كانت عرضة لسوء الفهم بسبب الاختلافات الثقافية أو الدينية التي قد تؤدي في أي لحظة إلى عدم استقرار الزواج، ولا تزيد فرص فشلها عن احتمالات فشل أي نوع آخر من الزواج الذي يحتاج دائما إلى الحفاظ على مصلحة مشتركة على المستويين الفكري والروحي، يعزّزها بشكل أساسي الاحترام المتبادل.


إحالات مفيدة:

1-   ميادة كيالي، المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين (بيروت: المركز الثقافي العربي/ مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2015)

2-   محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984)، مجلد1-2

3-   فريدريك أنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة (بيروت: دار الفارابي، 1996)

4-   Elaine fantham and others, woman in the classic world (new York: oxford university press, 1994)

5-   Stephanie Coontz, Marriage, a History: From Obedience to Intimacy, or How Love Conquered Marriage (2005)