Print
عماد فؤاد

والشِّعر إذا أبكى.. شهادة مهاب نصر

22 مارس 2020
آراء
نافذة نصف شهرية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ - في زماننا هذا - يُبكي أحداً؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلاً بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟

في كلّ حلقة سنلتقي ضيفاً ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الشاعر والصحافي المصري مهاب نصر:

*****

مهاب نصر: الكتف التي تضع عليها رأسك آخر الليل
لا أتذكّر أنّني بكيت أثناء قراءة كتاب. حدث هذا، ويحدث كثيراً، لمشاهدة فيلم، حتى لو كان المشهد لا يتعلّق بي مباشرة. أبكي واقفاً، بينما كانت زوجتي تطيّب خاطري "طيب اقعد حتى". مع الصّور والمرئيات يمكن أن يمرّ ببالك استبصار سريع، ساذج، لكنه عميق جداً وراء الصور، في مساحة ما لا لون لها، حيث يُساء الفهم وتمتد الأيادي في يأس للتأكيد على شيء فتخطئ مكانها دائماً.
هناك كتب كنت أدعها جانباً عند فقرة وأدور في غرفتي، أو أخرج وأتمشّى ساعة لا أريد فيها أن ألتقي أحداً أعرفه. أما الشِّعر فلا. إلا مرّة واحدة أعقبت حلماً.
لا أتذكّر أي ملمح من ملامح ذلك الحلم. لكن ما حدث هو أنّني أفقت وصورة (الشاعر) أسامة الدناصوري أمامي، كأنه بطريقة غامضة يتصل بفكرة ما في الحلم الذي انمحت معالمه تماماً. أي فكرة؟ لا أعرف. شجن غلّاب استولى عليّ. كل ما حدث بعدها كلّما تذكرته وجدته موصولاً ومرتّباً وغير منطقي في الوقت نفسه. كنت أبكي، ولم يكن أسامة قد فارقنا بعد. كان ما زال في عهدته بضع سنوات. قمت إلى مكتبتي واستخرجت مجموعة من أشعار صلاح جاهين، وتوقّفت عند صفحة "كلام إلى يوسف حلمي":

انت تمللي معانا، وحوالينا، وبينّنا

موت مين ده يا بو حجاج اللي يخبّيك منّا؟

 
عند هذين السطرين انفجرت في بكاء مرّ، بكاء بلا غاية، بلا أسف على شيء، أو ربما بأسف على كل شيء. كنت أقرأ القصيدة "له"، له هو بالتحديد وفي غيابه.
كان أسامة قد قرأ لي هذه القصيدة قبل ذلك بسنوات، ساهرين معاً في شقّة فيصل. كانت علامات الشرود تغزوه بين لحظة وأخرى، وأحياناً كان يظلّ ساهماً ناظراً إلى لا شيء، فأشعر بثقل وجودي، وبحرج شديد. يوماً ما بعدما وضع سيجارته في المطفأة ونهض، قال لي "ح اقرالك دي يا سيدي".. قرأ قصيدتين: قلم ورصاص، وقصيدة يوسف حلمي.
هل كنت أبكي إذاً لأرد له جميلاً؟ أكان هذا كافياً؟
لم أستطع النوم. في الصباح خرجت. قررت أن أذهب إلى محل "تريانون"، وبجوار زجاجة البيرة كتبت ما يشبه مطلع أغنية، جاءني اعتقاد بطريقة ما أنها في مكانها الطبيعي، أنها نداء أيضاً. هذا لا معنى له على الإطلاق:

ليل بطوله

وانت واخد قلبي، يا قلبك! وقلبك مش باطوله

ليل بطوله

في كلام عايز أقوله

مش باقوله

حاجة مش بأديا

....

اسمح لي أن أتكلّم عن قصيدة جاهين، قصيدته كفنٍّ وحياة. أستخدم كلمتي فن وحياة بشكل خاطئ وكأنهما أمران وأنا أريد أن أقول إنهما الشيء نفسه، رغم أن هذا التعبير نفسه ابتذل كثيراً. ليست كلمات جاهين رفضاً للموت، ولا تحدياً، ولا مرثية، بل نبل خالص، إحساس مسؤول تجاه صديق.

ومن هو الصديق؟ إنه المحاور الحي، الكتف التي تضع عليها رأسك آخر الليل وتحكي، إنه ببساطة "الحي". هكذا يمارس جاهين في قصيدته حياته الطبيعية، لم يغلق على نفسه باب حجرة، لم يقل إنني لم أتذوق السعادة منذ رحيله، إنه يحمل صديقه معه، كما تسند أعرج، إن العرج يصبح صفة لك، تسير وتحكي. هذه مهمّتك، أن تنقل الحياة إلى الطرف الغائب، الذي منحك بدوره هذه الحياة ذات مرّة. نعم لقد مات (وكلمة الموت معترف بها في القصيدة) لكن على هذا الموت ألا يتكرّر أبداً. هذه مسألة شرف لا أكثر ولا أقل.
جاهين لا يتصرف كمريض الوهم: يخاطب شخصاً غير موجود، بل يفكّر ما الذي تعنيه كلمة "موجود". هكذا في نهاية القصيدة يكتب الخاتمة الغريبة:

والشارع فيه جامع

والجامع مبنى بقاله ميّات م الأعوام

انما شبابيكه كلام وبيبانه كلام

وعرايس افريزه كلام، وحيطانه

والمعمارجي اللى بناه واقف قدامي، وبيكلمني

بيمد لى ايده، بياخد كبريت مني،

بيولع، وبيضرب لي سلام

يا سلام!

 انظر إلى هذا الانتقال المرح. ولكن قبل ذلك يحيل جاهين العالم إلى كلام.. هل يموت الكلام؟ نحن مضطرون إلى تجاوز الموت لأننا أصلاً جعلناه كلاماً. هكذا نحيا خارجه وداخله. لا حدود تفصلنا عنه. الموتى أحياء لأنهم كلمات. ستظلّ الكلمات تطنّ في آذاننا، لا كلمات الأصدقاء فحسب، بل كلمات ما صنعته اليد وتركته وراءها. الكلمات بشر أيضاً، وأشخاص حقيقيون. لا فرق. الاستعارة الأساسية التي يبني عليها جاهين قصيدته هي ما يعدّ جنوناً في أيّ حال طبيعية: الحديث إلى الموتى. يتعامل جاهين مع الموت باعتباره كلمة تحمل سوء فهم أصيل، يتلاعب بها بمرح. يا إلهي.. انظر كيف يكون الصدق، كيف لا يفقدك الموت المرح ولا حسّ الدعابة، وكم يبدو ذلك كله موجعا إلى أبعد حد؟

كانت هذه المرّة الوحيدة التي بكيت فيها لقراءة قصيدة أو بسببها. عادة لا يحدث هذا، الشِّعر كما هو درس جاهين، يبقيك على مسافة، هي مسافة المسؤولية، حيث لا يجب أن تتظاهر بالموت لتحمي نفسك منه مثل الثّعالب، الشِّعر يجعل إحدى قدميك في مكان والأخرى ليست لك وإن كانت معك، لا يمكنك أن تكون مخلصاً تماماً لشعور واحد، هذا ما أفهمه من "الالتزام"، ومن شعر "الحياة". ربّما بكيت تلك المرّة لأنني أدركت ذلك كلّه دفعة واحدة، وكان ذلك موجعاً. مثلما لا أنسى أبداً ضحكة أسامة المقتضبة التّهكمية التي كانت تأتي بلا سبب، فتلتفت حولك.. هل يقصدني؟ وفجأة ترى الضحكة مثل قوسين واسعين يلتهمان العالم كلّه. ثم ينهض من مكانه ليقرأ لك قصيدة بابتسامة ما أصفاها.

 

*****



كلام إلى يوسف حلمي

صلاح جاهين

 

الاستاذ يوسف حلمي..!

أهلا عمي..

لا مش في البيت، أنا باتكلم م الشارع

حلوة، على رأيك، ما هو بيتنا الشارع

كنت في سهرة وراجع

قلت أتكلم، وأهو من حظي لقيتك

مع ان تصور؟

وانا بانقل أرقام تليفون من نوتة لنوتة

جيت عندك، قام شيء ملعون قال: لأ، ما خلاص

ومشيت سطرين

والتالت قلت: لا يمكن يوسف حلمي خلاص

ورجعت كتبت الاسم، ماخلصنيش

شوف الإخلاص..

كانت سهرة جميلة..

ايوه الشله اياها.. تسلم وتعيش

كانت وحياة النبي عايزاك

غنينا يا سيدي حاجات سيد درويش

معلهش.. ما هو انت برضه كنت هناك

انت تمللي معانا، وحوالينا، وبيننا

موت مين ده يا بو حجاج اللي يخبّيك منا؟!

يعني كان خبى الشيخ سيد؟.. ما هو زي الجن،

ولا لحظه بيهمد ولا بيون

في المسرح، في المصنع، في الغيط، في المدرسة، في السجن

ده وتر مشدود يا ابا

لمسوه من كام ألف سنة ولساه بينزن

وكلام بيرن

رنه طويلة طويلة، بتضحك وتئن

من قلب ربابة النيل على قلبه على قلبك على قلبي

على قلب الشمس الشموسة اللي الليله قعدت جنبي

أيوه كان فينا الليله جماعه جداد

انضمت فوجة جديدة، بنات وولاد

طبعا زي المعتاد

صاحيين.. صاحيين.. صاحيين.. صاحيين

قلنا يا سيدي فضلة خيرك "ما تفوقوا يا مصريين"

و"الحلوة دي قامت" و"السياس"

قلنا "بلادي بلادي"

تعرف؟.. حسيت احساس

ان الشخص البلطجي ده اللي اسمه الموت

عاجز قدام الناس

قلنا "يا هادي يا هادي"

البنت قالتلي: عرفت منين الغنوة دي؟

قدمتك ليها.. وسبتك واقف وياها

سبتك واقف بتكلمها

وتعلمها، وترعاها

ما هو كله كلام

أنا باتكلم م الشارع

والشارع فيه جامع

والجامع مبنى بقاله ميّات م الأعوام

انما شبابيكه كلام وبيبانه كلام

وعرايس افريزه كلام، وحيطانه

والمعمارجي اللي بناه واقف قدامي، وبيكلمني

بيمد لى ايده، بياخد كبريت مني،

بيولع، وبيضرب لي سلام

يا سلام..

موت مين ده يا يوسف حلمي اللي يحوشك عني؟

تصبح على خير.

 

#قصيدة "كلام إلى يوسف حلمي" لصلاح جاهين إلقاء الفنان العالمي عمر الشريف: