Print
عبدالله البياري

في مديح الأشياء الصغيرة.. أشيائنا

10 أبريل 2020
آراء

"لا يتملكنا الخوف من أننا عاجزون عن ذكر كل شيء حين نجابه بلا نهائية الأسماء فحسب، وإنما حين نُجابه بلا نهائية الأشياء أيضًا، فتاريخ الأدب يعجّ بقوائم لأشياء تحاصرنا وتتسلل إلينا، بعضها له روعته البالغة. منها تلك الأشياء التي عثر عليها أستوفلو في القمر (كما تخبرنا أريستو)، فقد عرج إليه كي يستعيد دماغ أورلاندو. غير أن بعضًا آخر من هذه المجموعات مربكٌ، كتلك المذكورة في قائمة الأشياء الخبيثة والضارة، التي استعملتها الساحرات في مسرحية ماكبث. أما بعض القوائم الأخرى فهي بسيطة، لكنها أساسية، مثل بقايا حطام السفينة التي مكنت روبنسون كروزو من البقاء في الجزيرة. وفي أحيان أخرى نجد مجموعات عادية بصورة مذهلة، مثل ذلك الكم الكبير من الأشياء التافهة التي نعثر عليها أدراج طاولة مطبخ ليوبولد بلوم في رواية عوليس لجويس"

                               من كتاب "The Infinity of Lists" - أمبرتو إيكو".

***

مفتاح قديم مكسور
زجاجة نبيذ فارغة
دمية "غراندايزر"
قناع مضاد للغازات من حرب الخليج الثانية
بُزق بلا أوتار
راديو في حافظة جلدية (لا يعمل)
كاميرا ثمانينانية من نوع ياشكا
دمية سيارة مصنوعة من معدن لُحمت بطريقة بسيطة
كوب أبيض كتب عليه "أوفالتين"
ملعقة معدنية صغيرة مسروقة من إحدى رحلات خطوط TWA  الأميركية

يطرح جان جينييه مفهوم "التبئير" كبديل لمصطلحات سردية متعددة في الأدب، منها: المنظور؛ والحقل؛ ووجهة النظر، وغيرها. و"التبئير" معناه أن الوقائع والأحداث، وحتى الشخصيات، لا تقدم لنا نفسها في "ذاتها" وبصورة شخصية، بل من منظور شخصيّة معينة، أو أكثر. لكن لنا أن نتساءل: هل يمكن لنا أن نعتبر أشياءنا الصغيرة بؤرًا سردية مستقلة عنّا، ولها أن تقدم منظورها، أو بالأصح نسختها هي من حكاياتنا وحكاياتها؟
لكن، لكي نفهم أشياءنا الصغيرة، وموقعها منّا، علينا أن نتأمل الفضاء الذي يجمعنا بها، أو باستعارة من الفيلسوف الفرنسي، فرانسوا ليوتار، في كتابه "حالة ما بعد الحداثة" (1979)؛ السرديات الكبرى. وتلك يُقصد بها التفسير السردي الذي يدّعي لنفسه مركزية متجاوزة للتاريخ، افتراضاته تفسيرات للظواهر التي نعايشها، فلا تقبل أي شكل من أشكال المعارف خارجها. كالرأسمالية والماركسية، وغيرها من سرديات كبرى تدّعي قدرة متجاوزة على تفسير الظواهر والوجود الإنساني، والأهم أن تلك السرديات الكبرى لا تلقي بالًا، ولا تهتم، بأشيائنا الصغير تلك!
في مقابل كل ذلك، يطرح ليوتار مفهومًا للسرديات الصغرى، أو السرديات المضادة، بوصفه بديلًا نظريًا ومعرفيًا مقابلًا للسرديات الكبرى؛ وهي خطاباتٌ تتشكل من جماعات ما بعينها، بحسب موقفها من ظاهرة وجودية ما. جدير بالذكر ها هنا أن ليوتار نفسه، وعلى الرغم من كل هذا التنظير عن السرديات الكبرى ودكتاتوريتها، أعلن تأييده لحرب الخليج (1990)، في بيان جماعي نشر في "ليبراسيون" (اليسارية!)، موافقًا على مقولة الرئيس الأميركي، جورج بوش، عن "النظام العالمي".
تردّ إيلا شوحط: "لا بد أن نطرح السؤال التالي في زمن تكررت فيه السرديات الكبرى للغرب مرارًا وتكرارًا، وإلى ما لا نهاية، عندما يتحدث ما بعد حداثي موثوق (جان فرانسوا ليوتار)

عن "نهاية" السرديات الكبرى، وعندما يتحدث فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ": سردية مَن بالضبط، وتاريخ مَن على وجه التحديد ذلك الذي يعلنون نهايته؟ من الواضح أن أوروبا المهيمنة بدأت تستنفد الذخيرة الاستراتيجية من القصص، لكن شعوب العالم الثالث، ومجتمعات الشتات الأولى، والمرأة والمثليين/ المثليّات، بدأوا للتو في سرد قصصهم وتفكيكها".
يبدو، إذن، أن أشياءنا الصغيرة باتت تصارع معنا في هذه المنطقة من العالم هي أيضًا ضد تلك السرديات الكبرى، وتتخذ لنفسها موقعًا، وإن انفصل عنّا، إلا أنه يجعلها بؤرة سردية لنا، و/أو علينا بشكلٍ ما أو بآخر. وهنا نرى أن مقاربة تلك الأشياء الصغيرة، أو لنقل المهملة (كما في بعض المصادر)، من قبل هذا العالم وسردياته الكبرى، وأحيانًا منّا نحن، هي مقاربة من حيث موقعها من التاريخي الذي نمثّله ويمثّلنا، وموقعها من الذاتي لنا، وهو استنطاق للمسافة التأويلية بيننا وبينها وفينا وفيها، وهو كذلك محاولة لكتابة تاريخ مشترك صاعد من أسفل إلى أعلى، لنا ولها.
يصبح التساؤل مشروعًا: ماذا تعني تلك الكاميرا الثمانينانية من نوع ياشكا للتاريخ، وماذا تعني لنا؟ وليس السؤال عن الصوّر التي صُوّرت بواسطتها، وإن كان التساؤل عنها لا ينجو تمامًا من هذا الخلط. إذا كان لنا أن ننظر لتلك الأشياء كلها مستخدمين نظرية جينييه عن البؤرة، سنرى أن مركزيّتنا كبؤرة أساسية في قصصنا الفردية والذاتية، أو حتى سردياتنا، غلبت على بؤر أخرى لها فرادتها، منها بؤر أشيائنا الصغيرة والمهملة. ولعل المثال الأبرز الذي يحضرني الآن هو مفتاح البيت الفلسطيني، بكل ما له من رمزية وثقل حُمّل به نتيجة الوضع التاريخي وصراع السرديات، دون أن يخلّ برمزيّته الفردية والجمعية، لكن هل تتساوى المفاتيح والبيوت، أم أنَّ تساوي المفاتيح والبيوت في المظلمة كافٍ للحكاية الفردية والجمعية؟
الأمر يشبه ما قاله غوتلب فريغه في كتابه "الفكر" (1966)؛ فبعد أن فسّر كيف أن المنطق والرياضيات لا يتهمّان بمضمون الأذهان الفردية، أضاف قائلًا: "ربما يمكننا أن نقدم مهمتهما على أنها بالأحرى دراسة للذهن لا للأذهان"، كذلك حدث الأمر مع مفاتيح منازلنا كفلسطينيين وفلسطينيات، باتت رمزيّتها محبسها عن فرادتها الشخصية الذاتية، وعلاقتها بالحكاية، كل وأي حكاية للفلسطيني/ة.


قلق الحداثة والطاقة الاستعارية للأشياء
لعل مركزية الإنسان الحديث باتت حملًا ثقيلًا عليه أورثه من القلق كثيراً؛ فأن نكون أبناء الحداثة والتحديث، فإننا نجد أنفسنا طيلة الوقت مدعوين إلى المغامرة والقوة والمتعة باسم الهيمنة الحداثية على الزمان والمكان، وحركتنا بينهم (ديفيد هارفي)، إلا أنها دعوة تستبطن في داخلها تذرير كل ما لدينا من معارف وقوى وخبرات وتجارب لصالح سردية كبرى. "بهذا

المعنى، يمكن القول إن الحداثة توحّد البشرية كلها، غير أن تلك الوحدة إشكالية، تتّصف باللاوحدة؛ فهي تقذف بنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد؛ الصراع والتناقض؛ الغموض والألم الشديد، بصورة أبدية. فأن تكون حديثًا يعني أن تكون جزءًا من عالم "كل ما هو صلب فيه يتبدد ويغدو أثيرًا"، كما قال ماركس" (مارشال بيرمان). تورثنا الحداثة في تلك المزاوجة التقابلية بين الهيمنة والقلق، بين المغامرة والذوبان، ما يعمينا عن تواريخ وأحداث صغيرة نعايشها، منها حكاياتنا وقصصنا مع أشيائنا الصغيرة، وقصصها هي معنا.
لعل الحداثة في ذاتها هي نظرة ما إلى تلك الأشياء الصغيرة، بقدر ما هي نظرة إلى الوجود والعالم. وبانهيار الحداثة باتت هي أيضًا مادة، وموضوعًا، وذاتًا، للشك والنقد والتفكيك والتركيب، والانهيار. ولننظر إلى الكاميرا "ياشكا" التي ولدت كالخرائط مع نتاج الحداثة البصرية التي قامت على أساس الهيمنة على الزمان والمكان، باتت عرضة لأدبيات نقدية عديدة فككت مركزية الصورة (سوزان سونتاغ وغي ديبور وغيرهما!)، وبدأت في استعادة حاسة السمع مثلًا في مركزية العلاقة مع الزمان والمكان، تلك العلاقة ذات الشكل الأكثر ديمقراطية من العين (معمارية الموسيقا والنص الصوتي للمدينة نموذجًا)؛ إذ لم تعد حكاية "ياشكا" هي ما صورته، ولا حتى موقعها في حياة صاحبها فحسب، إنما باتت كالعلاقة بينه وبين سياقه من ناحية، وعلاقتها هي بسياقه ككل، نظرًا إلى فوضى الصورة المعاصرة.
وعليه، نشير إلى أنّه "في تلك اللحظة التي ينهار فيها نظامٌ ما، أيًا كانت طبيعته أو نظاميّته، نجد أنه من الصعب لفظه كليةً على حطامه وإرثه السابق؛ فما ينبثق من لحظة الانهيار يحمل من السابق عناصر مختلفة تجري معالجتها بطريقة جديدة في تناول مفاصل الحياة" (إسماعيل ناشف). وأن تلك الأشياء الصغيرة التي ولدت في ظل نظامٍ ما وشهدت انهياره هي أيضًا لم تخرج من الأول تمامًا، ولم تدخل إلى الثاني تمامًا، فكاميرا ياشكا في الثمانينيات كان موضوعًا ومادة ثقافية واجتماعية وفنية مختلفة عما هي الآن، وغدًا.
وإن تعددت النظرة إلى عالمنا الذي لم نصبح أبناؤه إلا منذ أن بدأ كانط في موضعة ملكات الحكم خاصتنا أمامه، ليأتي هيغل ويفصل تناقضات المسار وينحاز إلى بعضها، ومن ثم يتحول العالم إلى مجالٍ ثوري مع ماركس، ثم ينهار العالم وعقله وتحيزاته وأشكال الثورة فيه بين حربين عالميتين، لينهار المعنى مع نقاد الحداثة الجذريين، نيتشه، وأدورنو، ويبدأ الاختلاف مع ليوتار، ودريدا، وفوكو. إلا أن المسافة بين رؤية العالم، كما بشر به هايدغر، وصناعة العوالم مع نيلسون غودمان، كبير. فأشياؤنا الصغيرة ليست إلا امتدادات زمنية شهدت على كل تلك

التحولات والتغيرات والإنهيارات، والمسافة بين الحسن بن الهيثم، وكاميرا ياشكا، وإن طالت، إلا أنها تجميعات لأشياء صغيرة متعاقبة شكلت المعنى الكبير. وهنا يصبح للأشياء الصغيرة حضورها؛ لأن ما نخلط بينه وبين العالم الواقعي ليس أكثر من وصفٍ جزئيٍ له، وإن ما نأخذه على أنه عوالم ممكنة ليس سوى أوصاف حقيقية تمامًا، منطوقة في سرديات أخرى وعبارات أخرى، موزّعة على الهنا والهناك. إننا نفكر في العالم الواقعي، كما لو كان هو أحد العوالم الممكنة، "علينا أن نقلب تصورنا للعالم، لأن كل العوالم الممكنة هي جزء من العالم الواقعي" (غودمان).
أتساءل: ما العالم الممكن الذي قد يكون لراديو في حافظة جلدية لم يعد يعمل؟ فهل لأنه أذاع تفاصيل حرب الخليج لعائلة مغتربة في السعودية، بات بالنسبة لهم/ ن مركز الكون؟ ليكون الواقع واقعًا معقولًا في شكله الرمزي فقط، والذي يساهم - كما يقول كاسيرر- في بناء عالم مشترك؟ ما المعقول المشترك في الحرب من خلال راديو؟
إذن، هي تلك القدرة/ الطاقة الاستعارية للأشياء الصغيرة، وقدرتها على التمدد زمنيًا، لكن هل هذا هو الشرط لتلج عالمنا من باب لا ينفصل تمامًا عنّا؟ بالعودة إلى فلسطين، لنا أن نتأمل من أشيائنا جميعًا: السكين الإبرة. السكين كائن وحيد أعزل، على الرغم من قوة سلاحه، يغوي برشاقته وإطلالته التي لا تعرف تحيزًا، إلا أنه لا يحمل معنى في ذاته (على العكس من "الحَجَر"، القادم من الأرض ويؤم وجهه إليه دائمًا، فهي قبلته الثابتة، حتى في العمارة والعمران)، وإن تحلى بنظام دقيق حادٍ يثير الإعجاب. السكين، كما هي الإبرة التي يقول عنها شاعر داغستان رسول حمزاتوف: "الإبرة الواحدة تخيط ثوب العرس والكفن"، فثنائية الحياة والموت تجمعهما الإبرة، كما البياض، فليس للإبرة دور صياغة في الحالتين؛ الموت والحياة، ولكنها تضع اللمسة الأخيرة على التنفيذ، وتعطيه شكلًا، فلا أيديولوجيا لها. كذلك السكين، لا تعريف له إلا هو، وبالتالي فهو أداة/ سلاح/ كائن يعلو على تعريف القانون والعقل الحداثيين، دون أن يخرج عن الحداثة بمعناها المباشر. يمنحه حامله المعنى. وبالتالي، فحامله هو من يصوغ الحياة والموت، وليس السكين في ذاته. وهنا ينكسر أيضًا استحواذ الإسرائيلي على حق منح الحياة والموت (النيكروبوليتكس)، ويصبح للفلسطيني الحق في كتابة نفسه في مقابل بنية الإسرائيلي الحداثية (!!) بطاقة استعارية تأتي من السكين، ومقارنتها مع الإبرة، ليتحول الإسرائيلي إلى مُحاصر بحداثته، فما لا يمكن تعريفه لا يمكنك السيطرة عليه وتملّكه، وتلك شرطية حداثية، أيضًا.
بقدر ما توحي أشياؤنا الصغيرة ببساطة خداعة، وأنها نصوص ضيقة، إلا أن الأمر ليس بهذا لاختزال؛ فأشياؤنا نصوص مركبة تستلزم منّا آخرنا وتعدداتنا لنبحر فيها. ولنتأمل نماذج أخرى: أحذيتنا، ولنبدأ بالبعيدة منها، من لوحة "زوج من الأحذية (1886) لفان غوغ.

لوحة زوج أحذية للفنان فان كوخ 

في كتابه "الحقيقة في فن الرسم" (1978) يتناول جاك دريدا اللوحة، من حيث كون الحذاء هو الغريب المقصيّ المسكوت عنه لدى فان غوغ، ليصبح الصمت حينها طرس كتابي غير منطوق وغير مصرّح به، في ثنائية المركز والطرف، أو الحضور والغياب. بينما يقول جيل دولوز إنه أمام هكذا مواقف علينا أن نتعامل مع التاريخ والثقافة الإنسانية بمنطق البدو الرحل، فنكتبها مرتحلين غير باقين، يخبرنا دريدا أن الكتابة كتابة الصمت ومواقعه خارج عن لوغوس الحداثة الغربية الأساسي وثنائيّاته.
ولعل اختيارنا للوحة غوغ بما فيها من مضامين، كان الهدف منها التأكيد على الحاجة للنظر،

حيث نقف من هذا العالم، وإعطاء الفرصة لأحذيتنا (أشياؤنا الصغيرة) باعتبارها بؤرًا سردية تمر منها كل قوى التجاذب والتنافر التي نخضع لها، و/ أو نقاومها. في المقابل، ثمة حذاء آخر يخبرنا كثيراً عن تجاذبات الذات والآخر وسردياتهما؛ وهو حذاء الشهيد باسل الأعرج الذي بقي شاهدًا على خوف الحداثة الإسرائيلية من مثقف مشتبك. فما حكاية هذا الحذاء، وماذا رأى طوال مسيرة الهروب والاختفاء التي عاشها شهيدنا؟ ولكن الأهم في رأينا، ما مصيره الآن؟ أوليس بكل ما حدث له بعد استشهاد الباسل، هو جزء من الحكاية؟ حكاية من؟
هل سرديات أشيائنا الصغيرة هي سردياتنا معها؟ أوليس المفتاح والسكين والحذاء هي سرديات لعلاقاتنا بها؟ بل حتى سردياتنا الجمعية معها؟ ما حكاية تلك الأشياء، إذن، في معزل عنّا؟ هل طاقاتها الاستعارية منوطة فقط بنا كأجساد نصيّة تتحرك ضمن نصوص سردية، أو سرديات متعاضدة و/ أو متقابلة، أم إن لها مساحاتها الخاصة؟ أو في صياغة من كتاب "أشياء وأمكنة" للكاتب العراقي أسعد الأسدي: "هل على الأشياء أن تكشف عن فكرة منتظرة؟".
لَمَ أُخرست الأشياء الصغيرة في لوحة "نساء في مقهى" (1960) للرسام العراقي الراحل حافظ الدروبي، وهل لها أن تكشف لنا عن تأويل آخر لموقعها من اللوحة ومنّا غير ذلك التأويل الجندري، أم إن قيمة فكرة الأشياء تكمن في أننا "ننظرها"، فقط؟

 لوحة "نساء في مقهى" (1960) للرسام العراقي الراحل حافظ الدروبي 

موت المؤلف في مقابل مركزية العين
في الفنون البصرية
إذا افترضنا غياب الإجابة على السؤال – المستعار - السابق، هل يعني ذلك أن الأشياء التي لا تكشف عن أفكار ننتظرها (أو لا ننتظرها، بالمنطق الدرويشي) هي أشياء لا تحمل أفكارًا في ذواتها؟ لعل هذا هو السؤال المركزي في مقاربتنا للأشياء.
في لوحة "أليغوريا النار" (1607 – 1608)، (والأليغوريا - لسخرية القدر - هي الاستعارة)، للفنان جان بروغل الأكبر، تَحضر الأشياء التي لا تخبرنا بما ننتظره من أفكار، لأن تلك الأشياء، بكل ما يمكننا أن نقسمه منها في قوائم لا معنى لها، حيث أننا لا نستطيع حتى أن نمنحها خيالها المحض، ما لم يكن خيالنا نحن، ولذا أصبحت هي "أليغوريا" النار، بكل ما تعنيه النار من عدمية تعيش على التهام ما هو خارج عنها، وداخلها خواء/ عدم، ما إن خلت إلى نفسها فنيت. هل في خلو الأشياء إلى نفسها فناؤها؟!

  لوحة "أليغوريا النار" (1607 – 1608) للفنان جان بروغل الأكبر 

لكن ثمة مفارقة بين الفن البصري والسردي، فبينما طرحت مقولة "موت المؤلف" لصاحبها الناقد والمحلل النفسي، رولان بارت، في العام 1968، في الفنون السردية، أزمات عدة، كانت مركزية العين الرائية في الفنون البصرية مقابلًا موضوعيًا لموت المؤلف/ الكاتب. تلك النظرية التي تقول إن الأعمال السردية ما إن تُكتب، حتى تقطع علاقتها بكاتبها/ مؤلفها في ما يشبه الموت، فتأخذ مسارها وتحولاتها كما تريد و/ أو يُراد لها. تلك الأزمات نبعت في البداية من تخوّف السرديات الكبرى على إجاباتها النابعة من مركزية وموثوقية مؤلفيها (السردية الدينية

ترفض مثلًا اعتبار هذا العالم نصٌ مات مؤلفه!)، وهنا نتفهم صعوبة أن تكتب الأشياء الصغيرة سردياتها بمعزلٍ عن كاتبها و/ أو مؤلفها، وصاحبها.
في روايته الفذة، "أرواح هندسية" (1987)، قدم لنا الروائي "الكردي الطائر"، سليم بركات، معركة سردية خطابية، يقف فيها الإنسان والشيء على قدم المساواة السردية – تقريبًا - فتصبح البؤر السردية هاهنا متمايزة، وتكاد تكون متقابلة. كثافات سردية وفكرية ورمزية تدفع إلى التفكّر في الاختلافات والتشابهات بيننا وبين أشيائنا. من شخصيات الرواية: كراس على الشاطئ، وتلفاز مطفأ، وعمارة لا اسم لها، وصالة سينما، ومولّدات كهربائية، والأهم، خمسة لا مرئيون ينصبون للرواية فخها الخيالي! أمام تلك الأشياء/ الشخصيات، وما تقوله لنا، تظهر لعبة أخرى تتمكن من خلالها تلك الأشياء أن تتحرر من سطوة الآدمي عليها؛ التناصّ، ذلك التناصّ الذي دفع بتلك الرواية إلى جانب رواية الإيطالي، إيتالو كالفينو، لأن تكونا من الروايات الأساسية في مدارس العمارة والفنون، لأنه مساحة التناص مفتوحة على مصراعيها، لنصبح جميعًا كتاباً محتملين لتلك الرواية، وأشياؤنا ومدننا هي التي ترد فيها.
موت الكاتب والتناصّ هاهنا لا يختلفان كثيرًا من حيث النتيجة عن "اليوتوبيا غير المتجانسة"، بتعبير الفيلسوف الفرنسي فوكو، التي يتساكن فيها عدد كبير من العوالم والأشياء المتشظّية الممكنة في عالم غير ممكن، متجاورة، كفضاءات غير إلزامية، وإن تقاطعت وتماهت وتصارعت، مفروضٌ بعضها على بعض (تشبه هذه السردية مدننا وأشياءنا معًا): كاميرا وملعقة وكأس وحذاء، و.. و.. و..!
لكن الأمر مختلف في الفنون البصرية، التي تعتمد في الأساس على العين ومركزيتها كحاسة ثقافوية كغيرها من الحواس، إلا أنها، على النقيض من أغلب الحواس الأخرى، ديكتاتورية. فإمكان مساءلة الأشياء وحوارها، في يونوبيا غير متجانسة/ ديسطوبيا بصرية متجانسة، نسميها الفنون البصرية، تقوم على قتل الكاتب، وخلق مساحة تناص تنتج مكانًا لا يتسع لكثير في ما تبقى من مساحة، بعد أن تسلب العين المركزية معناه، والضحية الأولى لهذا الاستلاب هو الأشياء الصغيرة في عمومها؛ فبقدر حضورها في البصر، لا تحضر بذاتها المستقلة في الرؤية (ريجيس دوبريه). فالعين منتج تاريخي، كما يخبرنا بورديو، أي أننا حين ننظر إلى العمل الفني التشكيلي، نحن نراه بكثافة التاريخي فينا، لا ببساطة الشيء/ الأشياء فيه. والأمثلة لا حصر لها. فالنظرة في العين لاحقة على الإبصار فيها، فالرؤية ليست الوظيفة الأولى فيها، والرؤية هي مساحة الأشياء لتتبدى في العقل والمعنى؛ العين تحتفي "بتجربة النظرة"، وبما يمكن أن تضيفه إلى المرئي، لا العكس. نذكر هنا أن هايدغر رأى في لوحة غوغ حذاء غوغ نفسه، وبالتالي لم يستطع أن يمنح الحذاء/ الشيء مساحة للفكاك من مركزية الإنسان وفلكه، واستدعاء هايدغر لأثره.

الفيروس والكائنات الفضائية
في رواية "حرب العوالم" (1898)، للروائي هـ. ج. ويلز، فيروس بسيط وبدائي يقتل الكائنات الفضائية، ويخلص البشرية منها، فتفنى هي وأشياؤها. ليعود فيروس آخر هذه الأيام، ليحاصرنا ويهدد سردياتنا التي كنا مطمئنين لها لقرون خلت، فنحس اغترابنا عن هذه الأرض وهذه الحياة. تنهار دول وحكومات، ومنظومات اقتصادية، ونظريات، ونستجير ببيوتنا، أجسادنا الثانية، لحماية أجسادنا الأولى، فنعيد اكتشافها واكتشافنا، بكل أشيائنا وأشيائها العالقة وفيها وفينا. هل يدفعنا هذا الفيروس، واغترابنا الفضائي عن كوكبنا، إلى أن نتأمل تلك الأشياء داخل بيوتنا/ أجسادنا، لنرى من الحكاية جانبًا لم يحكَ بعد؟ ويعود للتاريخ/ تاريخنا صوتٌ آخر لم يفقده بعد؟

الحداثة توحّد البشرية كلها، غير أن تلك الوحدة إشكالية، تتّصف باللاوحدة؛ فهي تقذف بنا جميعًا في دوامة من التحلل والتجدد؛ الصراع والتناقض؛ الغموض والألم الشديد، بصورة أبدي