Print
ريم غنايم

"كَونٌ لا زمن".. أبجديّة التعدّد والانتشار

10 مايو 2020
آراء
ثمّة علاقة جدليّة-غزليّة تربط، مؤالفةً-منافرةً، بين الشعر والفلسفة على مرّ التاريخ والعصور. هذا التجاذب والتنافر ينبعُ أساسًا من طبيعة المادّة الشعريّة المختلفة ميتافيزيقيًا عن المادّة الفلسفيّة التي تميلُ بطبيعتها إلى لغة العقل. هذا التنافر بين العفويّة والمنهجيّة، هو ذاته التي يؤسس للتجاذب في توازي وتحاور النقيضين اللذين يبنيان معًا صورة متكاملة تداور وتنقضُ اليقينيات والحسيّات والمعقولات في نفس الآن. ومن هذا التجاذب-التنافر، تبني الذات نفسها معرفيًا داخل النّسق الشّعريّ.

في القصيد الشعريّ، كَونٌ لا زمن (دار جدل، 2019)، للشّاعر الفلسطينيّ وسام جبران، نحنُ أمام ذاتٍ تبني وتتدرّج وتتساءل وتحاور نفسها مستعيرةً أدوات الكَون، الشعر، الفلسفة، مؤسسةً لوَعيِها، ثمّ تنطلقُ هذه الذات من ملجأ الموجودات والمعرفة، إلى حيز انشطاريّ انتشاريّ مؤجّلة الإجابة عن وجودها وماهيّتها وهويّاتها إلى أفق المستقبل، الذي لم يأتِ بعد.


سؤال الزمن وسيلولة الذات فيه

بين الزمن والوجود علاقة عمقتها الفلسفة والفيزياء، وساندتها الميتافيزيقا والفكر الوجدانيّ، كلّ منهما من منظور وكلّ منهما بتعقيداته وتركيباته التي خلّقت مفاهيم كثيرة تعامَلت معهما في الحقلَين النسبيّ والمُطلق. هنا يقفُ الشّاعر في مواجهة المفهومَين العريضَين ويُموضع الذات المفكّرة في قَلب التوتّر بينهما: أهوَ كَونٌ لا زمن-كينونة حاضرة حركية تتأسّس الذات فيها وتعملُ في مدارها، أم زمن لا كَون له-لا ثبات، لا وجود قطعي واقعيّ- تسيلُ الذات في سيلانه نحو المستقبل وتنتشرُ في الاتجاهات وخطوطها المتعدّدة. لقد أولَت الفلسفة أهميّةً للزمن على "المكان" بصفته الصّورة المرهونة بالحركة والتوالي والديمومة، وهذه "السيلولة" هي لبّ مشروع الشّاعر الشعريّ: الصيرورة becoming (بصفتها منتهى وغاية الذات) التي تخلقها الذات المفكّرة وتتفاعل في قلب "سيرورة" قلِقة متشكّلة لا تستكين ولا تركنُ إلى غاية أخيرة، فتظلّ الصيرورة هدفًا لا تبلغه الذات ومن خلال الطريق إليها تؤكّد اختلافها وتعدّدها، تشكّلها وبوليفونيّتها، وانزياحاتها باتجاه خطوط متنوّعة تعودُ إلى رحم الأشياء لا لتردّدها بقدر ما تغيّرها وتتغيّر من خلالها.

من هذا العالَم العريض والمسكون بتفاصيل البناء والتأليف الدّقيق الذي تحكمه تضاريس نفسيّة وتعبيريّة وجماليّة، وتسيطرُ عليه إيقاعات متنوّعة داخل قالب شعريّ واضح على طول فصوله، يحضرُ الزّمن في هذا القصيد بصفته فاعلًا، حاضرًا وخفيًا وحديًا، ويتدفّق عبر الخطوط والأشكال والبنيات والأصوات المتنوّعة التي يبنيها الشاعر في كلّ قصيدة على نحوٍ مختلف. فبينما نجد الإيقاع الزمنيّ السريع والنفس الخافت والصّوت المونوفونيّ الشجيّ المنسجم مع الألوان المتعددة في الطبقات الثانية والثالثة والرابعة في قصيدة "الصليب وصدرك" حيث يقول الشاعر:

أحتَمي بالتّراب ضائعًا بالغَيم،

صدركِ...

من يرويهِ ببُصاقي المالحِ

وعرقِ الغَيم؟

[...]

من يُحاوِرُ اللصّ،

حليبُ الآلهةِ لا يَروي ترابي.

حليبُ الآلهة

لا

يروي تُرابي.

على صدركِ أغفو وحدي

خالعًا قميصَ الوقتِ،

أناجي الإلهَ الّذي فرَّ من هنا دونَ رجعةٍ (75)

نجد أنفسنا في فصل "رسائل إلى غريب" في قلب عاصفة من الوتيرات "السريعة" و"البطيئة" و"المعتدلة" و"الخافتة" و"الصاخبة"، حيث الرسائل مبنيّة في نسق هندسيّ واضح لا اعتباطيّة تحكمه. الرسالة الأولى مكوّنة من 10 مقاطع، كلّ مقطع مبني من أربعة سطور يبدأ كل مقطع فيها بالفعل أغمض فيما السطر الرابع يبدأ باسم الإشارة "هناك"، الرسالة الثانية مكوّنة من ستة مقاطع، كل مقاطعها تسيطر فيها لا النافية التي تعزّز الإحساس بغربة الصّوت الذي يرتع في هذه القصائد ويتحكّم في طولها وعرضها وثيماتها وهندستها:

لا عاشق يجرف الآن العشيقة

لا مسلك للدماء الحيّة

لا أرض للشرايين أو طريقة (85)


أما الرسالة الثالثة فنسقها الهندسيّ واضح ومتماسك مثل وضوح كتابة السوناتا. فالشاعر يكتب خمسة مقاطع، كل مقطع يبدأ بأداة الاستفهام "ماذا" وينتقل بقانونية ثابتة إلى استخدام أداة الزمن (حينَ) يليها السطر الرابع الذي يفتتحه بفعل مضارع يترنّح بين الثابت المكانيّ والمتحول الزمنيّ (يزيح، يصير، تقيم، يرحل، تلوك) لينتقل الى السّطر الثالث الذي يتحدد بمفردة واحدة على شكل الحال (أجلا، أملا، أزلا) والذي يؤكّد الحضور الزمنيّ السرمديّ، وفي السطر الرابع يستخدم الشاعر الرابط "أو+ فعل مضارع" ما عدا المقطعين الرابع والخامس، ليقفل كلّ مقطع بعلامة السؤال، وهي العلامة التي تبقينا في متاهة الأسئلة المتتالية حول الصور المركّبة التي يرسمها الشاعر بدقّة لا متناهية للفراشة، هذا الكائن الخفيف، المنتشر، المتعدّد في قلب هذه الرسالة، المقيم في سراديب أسئلة الشاعر حول الاختفاء والغياب والأثر والصدى والضياع.
في هذه القوالب تسير الذات الشاعرة (وعلى غرارها الرسالة الرابعة والخامسة، حيث كل رسالة لها هندستها بين الشكل الأفقي والشكل العموديّ، وهندسة ايقاعات الصمت والحركة الزمنيّة المفتوحة على السفر والأبديّة والإقامة خارج القصيدة)، وتتفجّر أصواتٌ وألحان وألوان وأساليب، على نهج التأليف الموسيقيّ الذي تحكمه عناصر أساسيّة لا يمكن الانحراف عنها بلعبة السورياليّة والتلقائيّة. تسيرُ الذّات الشاعرة داخل المتخيل الزمنيّ للغة وحركتها وامتدادها عبر تنوّع الأصوات، وإيقاعات الأفكار المتتالية في قلب النصوص الشعريّة، ويصبحُ مفهوم الزّمن حركةً صوتيّة إيقاعيّة، يصعدُ ويهبط ويتوقّف ويسكت وفق وتيرة الصّخب، الهدوء، الانفعالات، الحوارات، الألوان اللغوية.
على هذا النحو، يشيد الشاعر معماريّة القصائد ويجمع خيوطها المتراكمة في نسيج واحد يحكمه ايقاع الاكتظاظ وجمهرة الأصوات بلا توقّف، الإقامة في المجازات اللغويّة التي تثير دهشةً على مستويات متمايزة، منها دهشة الزمن الذي يُلبسه الشاعر أكثر من رداءٍ في القصائد، الرداء الفعلي والاسميّ والاستفهامي والعبثيّ، كقوله:

زمنٌ قادم

يغمز ويعرج

يمسحُ مخاطَه بكمَ يده (113)

أو المبهم المفتوح على عالم رحب مجهول كقوله:

ما الغد؟

صمتٌ لم يُفصِح عن نفسه بعد (152)

مبنى القصيد: ديموقراطيّة الاكتظاظ
انتقلَ مفهوم تعدد الأصوات (البوليفونيّة) مع باختين من حقل الموسيقى إلى حقل السّرد والرواية، ليؤكّد على نسف المُطلق-الكَوني-الثّابت ويؤسس لسلطة حرّة ومتعدّدة وكرنفاليّة. في حقل الموسيقى هناك الصّوت الواحد (المونوفونيك) في مواجهة تعدديّة الأصوات (البوليفونيك)، وهي مقابلة بين الصّوت الواحد المتآلف مع نفسه، والصّوت التناصيّ الديمقراطيّ المتآلف مع ذاته ومع غيره، المجاور لها والموازي لها في نفس الآن.
في كون لا زمن، ينبني القصيد من فصول شعريّة تعتمدُ نظامًا من المتوازيات المكتظّة: الفصل الأول مقسّم إلى تسع قصائد مبنيّة على نحو حواريّ بين الذات والله، وتبدأ جميعها بجملة "كلّمني الله"، الفصول الثاني والثالث والرابع موسومة بـ"كونٌ لا زمن" ومقسّمة إلى أربعة فصول متوازية.
في الفصل الأول تخاطبُ الذات الإله بعنوان "كلّمني الله" وفي هذا الفصل يشيد الشاعر صورًا مزدحمة في حوار بين الذات والإله في تسعة مقاطع تبدأُ بالعبارة كلمني الله، وفي كلّ مرّة توصفُ حالة الإله على نحو متعدّد بمجموعة من المفردات: سائلاً، حائرًا، مرتئيًا، مستفسرًا، متأملا، ضجرًا، متمرئيًا، صامتًا، وأخيرًا غاضبًا.  وفي هذا التعامل ينتقل الشاعر إلى مستويين جديدين في مفهوم الله: فهو يحوّله من المستوى المونوفونيّ إلى المستوىّ البوليفونيّ. ثمّة نسيج أو هندسة متماسكة وواضحة عاموديّة وأفقيّة في قالب قصائد هذا القِسم، لكنّ هذا الشّكل الثابت "المونوفونيّ" الرّصين والمهندس بعقلانيّة "رياضيّة" يُخفي تضافرًا لعدد من المقولات المضادّة لأنساق دينيّة وفلسفيّة وهوياتيّة، والتي تتآلف مع بعضها مفجّرةً الوحدة الثابتة للشّكل. في القصيدة الأولى تقول الذات:

كلمني الله سائلا

قال: هل تعرفني

قلت: أعرفك.

قال: هل لي أن أتمارى فيكَ لتراني؟

قلتُ: لكنّك، حين تراكَ فيّ، لن تكونكَ ولن أكونني.

قال: وما حاجتي أن أكونَ سوى غيري!

قلتُ: أنا وأنتَ لسنا سوى واحدٍ، هو ثالثنا (ص 20)

للوهلةِ الأولى، نحن أمامَ كينونتان ثابتتان، تصطدمان في عمليّة حواريّة تنزلُ بالمقدّس إلى أبسط صُور النفي والإنكار (لن تكونك ولن أكونني)، وهذا النّفي يصبحُ جزءًا من صيرورتين (الله والذات) في طريقهما إلى التوحّد، حيث يصيرُ هذا الواحد (المونوفونيّ)، غائبًا (هو ثالث)- أي كائن ثالث لا هو الأصل (الله والذات منفصلان) ولا هو المرحلة الوسطى (الله والذات كائنًا واحدًا) وإنّما كيان ثالث غائب متعدد-بوليفونيّ.





من هذه الصّورة، التي تنسحب على بقيّة قصائد هذا الفصل، نلاحظُ هندسة دقيقة في حركة الأصوات واتجاهها من البرّاني (المونوفونيّ) إلى الجوّاني (الديالوجيّ)، ومن الجوّاني مرّة أخرى تجاه الخارج في شكلٍ متحوّل-غائب-منتشر (بوليفونيّ). وبالتّالي فإن فكرة الإله اللاهوتيّ هنا تُزالُ من جذورها وتُضبط حدودها ضمن الخطاب متعدد الأصوات للذات فيصير الله حائرًا، ويسكنُ الجسد في الغيم، ويولدُ الإله في كلّ لحظةٍ قُتل فيها. يتكلّم الله (المتضمن في صوت الذات) متأملا، يسعى نحو أفق جديد، سماء جديدة، ومن هذا التأمّل تولدٌ فوضى خلاقة عمادُها صورٌ مكتظة من لملمة وتفتيت الكينونة (كينونة الذات في بعدها الزمانيّ) والكينونة التي لا تتحقق ولا تصير إلا في "انفلات النجمة".
على هذا المنوال يدور الحوار بينَ الصّوتين-الصّوت الواحد، وننتقل من المستوى الواحد لهندسة النصوص بصريًا إلى بناء معرفة جديدة متعددة متفجّرة في فوضاها الخلاقة. هكذا يكون الاكتظاظُ عبر الكلمات والصّور سبيلا إلى تجاوزِ سلطة الذات، كينونتها، وتصبحُ اللغة راصدًا لحركيّة الذات وصيرورتها بالمفهوم الدولوزيّ، تجاه هويّة بعيدة عن المونوفونية، متفرّعة مفتوحة ومتعددة لاحقًا.
في الفصل الشعريّ الأوّل تنفتح الذات المفكّرة الإبستمولوجية إلى وضعيّة مساءلة الإله-محاورة الإله-قتل الإله-إبادة الإله بصفته صورةً من صور الذات، لا صورةً لاهوتيّة خارجة عن الذات المعرفيّة. وبالتالي فإنّها تخلقُ ذاتا تتجاوز أصلها ونهايتها وتحدد وجهتها نحو المستقبل. وهذا ما يتوازى مع ما جاء في المقدمة التي كتبها د. باسيليوس بواردي للقصيد في شأن الحركيّة، تحديدًا حركية الكَون" التي "لا تقبع في مسارات غيبيّة محدّدة مسبقًا، بل هي انفلاتٌ مستمرّ نحو لا نهاية حيويّة لاستمراريّة السيرورة الكونيّة" (9). وهو ما ينطبقُ كمرتكز فكريّ للقصيد بكامله على المتخيّل الشعريّ لدى الشاعر، في كونه متخيلاً انفلاتيًا على مستوى الوحدات الصغرى للغة والمفردات وعلى مستوى الوحدات الكبرى للقضايا الوجوديّة التي هي جزء من الهمّ المعرفيّ عند الشاعر.

مبنى القصيد: المحتمل، اللايقين والانفجار البوليفونيّ

ثلاثة محاور تشكّل أعمدة بنيان رئيسيّة في عمارة وسام جبران الفنيّة والأدبيّة والفكريّة وتحدّد بوصلة رؤيته، هي: الصّمت واللايقين، والزّمن المتعدّد الذي يأخذ شكل الانتشار في كلّ الجهات بحيث تنصهرُ فيه الموجودات ويتجاوز فيها الزّمن نفسه ليصيرَ شكلا متعددا مختلفًا لا إطار يعرّفه، ولا قالب يؤطّره بالغًا ذروةَ الاختفاء/الغياب.
تتواصلُ حالة الانغماس في اللايقين وفي انفتاح الذات على تنوّعها وعلى خطوطها المجاورة-الموازية في القسم الثاني من القصيد الشعريّ، والمقسّم إلى أربعة فصول بعنوان "كونٌ لا زمن". وعلى منوال البناء الهندسيّ السابق، يواصلُ الشاعر في كتابة اللايقين وذلك من خلال تكرار لازمة الفعل "يمكن" في القسم الأوّل، ولازمة التناصّ في القسم الثاني، ولازمة السؤال في القسم الثالث، ولازمة الموقف (موقف الكون، الزمن، الكبريت، الصمت، هي، الأمر، الموت).
في هذا القسم الموسّع، يتركنا الشاعر أمام المحتمل والممكن، وهو مفهوم فلسفيّ لا يقينيّ عينه على المستقبل منكرًا الحتميّة، فـ "لا وجود لمستقبل ولا وجود لعلاقة بما سيأتي من أحداث من دون تجربة الممكن والمحتمل، وما سيأتي لا يجب أن يُعلن كإمكانيّة أو ضرورة نظرًا للطابع الفجئيّ للحدث"، يقول جاك دريدا. هذه اللاحتمية تُفقد الموجودات سلطتها، تكسر نغمتها الواحدة وتحيلنا إلى ثراء الصوت وتعدديّته والذي يتجلّى بوضوح في البداية والذّات ترسم نفسها داخل احتماليّة الأشياء الأخرى:

يمكن للنخيل أن يقولني،

يمكن للإله أن يستعير مني اللغة والصّدى،

يمكن للوجود أن يعلّقني جرسًا في رقبة الغياب ليستدل بي المدى.

 يمكن للكَون أن يعوجّ أن يفرك أصابعه

أن يضجّ

أن يستبدل صمتَ النجوم بسديمِ الكلام (33).

إلى جانب هذا المحتمل اللايقينيّ المزدحم في ايقاع مفرداته وألوانه أفقيًا، يأخذنا الشّاعر إلى انفجارٍ بوليفونيّ متنوّع آخر، فها هو يحاورُ نصوصًا من أزمنة مختلفة، من أمكنة مختلفة، من أنساق دينيّة مختلفة. فالشاعر لا يكتفي بصوته ولا بذاته ليحدد درجات ألوانها وإيقاعها. على هذه الذات أن تحاور معارفها، أن تقوّض منبعها، أن تنتقل بها من منبعها إلى لا حتميّة مركزيّتها: تناصات مع شعر اليمامة، تناصات وتحويراتٌ لآياتٍ قرآنيّة، اجتزاءاتٌ من سفر التكوين، وشيفراتٌ من أساطير بابل. هذه التناصات والاجتزاءات تخلقُ خطابًا جديدا لها بعيدا عن شيفرات النظام الثقافيّ الذي نبعت منه، خطابًا مقوّضًا، معرفيًا، تفكيكيًا. وهو بهذا يعمّق انتشار الذات في أزمانها، الذات التي ترفض خطّا سرديًا منفردًا لهويّتها ورؤيتها، وهو ما يؤكّده جبران في سؤالنا له حول مفهوم التعددية والانتشار عند الذات:

"هناك عدة مستويات من العلاقات الزمنية التي تولّد معاني الزمن داخل القصيدة. فإلى جانب البُعد الشكلي والإيقاعيّ الموسيقيّ للنصّ الشعري، هناك أزمانٌ تتخفّى داخل النصوص الشعرية. منها ما يرتبط بالتناصّات الحاصلة بين ومع نصوصٍ تعود لأزمنةٍ خارج زمن كتابة القصيدة (النصوص القرآنية والتوراتية وغيرها تمثيلًا لا حصرًا). ومنها ما يتعلق بتعدد السرديات للحدث ذاته الحاصل في زمنٍ بعينه، حيث يصير الزمن ذاتيًّا متعلّقًا بالطريقة التي عايشها المتكلم للحظةٍ زمنيّةٍ بعينها، بينما عايشها آخر على طريقته الخاصّة المُغايرة؛ فبتعدد الذوات تتعدد الأزمنة. ومنها كذلك، الزمن النفسيّ المتعلق بالحالة النفسية للمتكلم ذاته، حيث يتنقل الكلام بين لسان الوعي والإدراك ولسان الحلم أو الهذيان أو المخيال، فتتعدد الإيقاعات الشعوريّة وتتعدد معها الأزمان. الزمن في قصائدي منتشرٌ؛ هو حاضرٌ يمضي الى مُستقبله".
إلى جانب الصّوت، هناك الصّمتُ الذي ينخرُ في جسد العمل صوتًا وكتابةً، موسيقى وشعرًا. لا يتجلّى الصّمت هنا عبر ذكر المفردة، بقَدر ما هو فكرة يُفصحُ عنها الشاعر آليات وتقنيّات عديدة تقول الصّمت وتحوّله إلى حضور طاغٍ في قلب المتخيّل الشعريّ، بل وتكسبه أكثر من معنى. هذا الصّمت هو صوتٌ مستقلّ وخطيرٌ بصفته بلاغة لغويّة وبصريّة أولا، تتهيّج عبرَه سؤالات الفلسفة حول مفهوم الانوجاد/اللاانوجاد داخل/خارج المكان/الزمان، لكنّه لا يأتي على نحوٍ مبتذَل ليفسّر الطبقات الواضحة والسطحيّة لمفهوم الصمت-السكوت، وإنما يأتي في هيئة مجاز بصريّ يخلقُ فجوات في شكل فواصل ونقاط وخطوط تارةً، وتوزيع السّواد (الكلمات) على البياض (الصفحة) تارةً أخرى، واستخدام دقيق لمفردات تأتي في صيغة أفعال أو أسماء تارةً ثالثة تُحدثُ وقعَ الصّمت وتستحضر أثره: الخَوف، الصّدمة، القلق، الأمل، المَوت، التعدّد، الغياب، الجمود، النقصان، وكلّها تؤكّد على تواصلٍ ما مع المتلقّي لحظة نجاحها في اختراقه. من هنا فإنّ الصّمت يشكّل لغة حضورٍ وحوار تستوطن فيها الذات الشاعرة.

في قصيدة "موقف الصّمت" من فصل "كون لا زمن" الرابع، على سبيل المثال، هناكَ حركة قلقة بين الصّمت والصّوت، فالتسلسل الذي نراه في جميع "مواقف" هذا الفصل ابتداء من الكون مرورا بالزمن والكبريت وهي والأمر والموت، هو تسلسل نهري في جميع الافتتاحيّات، حيث يفتتح الشاعر كلّ مقطع بالجملة الفعليّة "أوقفني و"، ويواصل مع حرف العطف ويردفه بالفعل قال أو قرأ، دون مسافة فاصلة بينهما. هذه هي حركة "صَوت" سائلة خفيفة بين الفعل أوقف و"الهو الغائب" و"الياء" باتجاه القول والقراءة، لا شيء يفصل بينها، تشعر بأن هذا السيلان هو لغة ضاجّة بالكلمات التي لا تفصل بينها الفواصل. باستثناء "موقف الصّمت" الذي يفتتحه الشاعر بقوله "أوقفني". وهذه النقطة التي تردف الجملة الفعلية تشبه ضربة سكونيّة فاصلة بين الجملة الأولى وكل ما يليها. ثمّ يواصل الشاعر في هذا المقطع ومع كلّ جملة "أوقفني" يردف الشاعر الجملة بنقطة حاسمة تفصل بوضوح بينها وبين ما سبقها وما تلاها كما لو كانت تقنيّة مقصودة تحاور مفردة الصّمت في عنوان هذا المقطع وتحافظ على هيبتها بعزلها عن "دفيئتها الاجتماعيّة" اللغويّة ويحرمها من سيلانها في بقيّة أصوات المفردات. لكنّه سكون سرعان ما يتلاشى في صوتين يتحاوران (قالت وقلتُ) لينتهيَ الحوار بإجابة عن السؤال "من هو؟" المتحدَّث عنه في الحوار: هو أنت هو كلاكما هو لا أحد (70). هذا الصّمت المفصح عنه عبر تقنيّات خافتة، يتزاحمُ هو نفسه مع أصواتٍ أخرى داخل المقطع ويتصارع معها لينتهي إلى "لا أحد" أو إلى شيء غامض خفيّ حيثُ الصّمت يسكنُ في الآخر الذي هو داخلنا وخارجنا في آن.

هذه الحركة للصّمت قد نراها أيضًا في "موقف الموت". إلاّ أن الشاعر لا يفتتح المقطع على نحو مغاير دون أن يفصل الجملة الفعليّة عما يليها: "أوقفني في الموت فما رأيتُ سوى الحياة..." (71)، وهذا السيلان في المَوت قد يكون هو ذاته سكون أفصحت عنه الذات عبر حوار ثانٍ يعود هنا أيضًا في كلّ الفصل بين صوتين يتحاوران (قالت وقلت) حول صمت الذات المتكلّمة، حيث تؤكّد صمتَ جوفها، وحيث لغتها تتحوّل إلى مجاز هو "لغة الضّوء".
هذه الذات، التي تعبّر عن ذاتها الميكروكوسميّة عبر استحضار أدوات كَونيّة وزمانيّة، تحاورُ الصّمت بصفتِه لغةً عريضة تحفر في لغاتها المتعدّدة وتعين الذّات على مواجهة العالَم ومنافيه المتجسّدة في مفاهيم الحياة والموت والآخر.


الانتشار وفكرة اللحم الأوزوريسي
تشكّل أسطورة أوزوريس في العقيدة المصريّة القديمة واحدة من أهم الأساطير التي تروي فكرة الموت والبعث. عندما وجد ست جثّة أخيه الملك أوزورويس وقطعها إلى أربع عشرة قطعة، لم يكن من زوجته أيزيس إلا أن بحثت عن القطع، جمعتها ودفنتها في المكان الذي عثرت فيه عليها. أصبحَ أوزوريس ملك الموتى بعد أن عاشَ ومات وبُعث. دخل في الغربة مرّتين: يوم وُضع في التابوت وألقيَ في النهر وتاه، ويوم وُجد ومُزقت جثّته، ثمّ عاد من الغربة لتُجمع الأشلاء، ليُبعث ثم يعيش في الموت. تشكّل فكرة اللحم الأوزوريسي قاعدةً مجازية صلبة نؤسس عليها قراءتنا لمفهوم انتشار الذات الشاعرة في هذا القصيد. يؤكّد الشاعر في الصفحات القادمة من القصيد على حضور الغياب والاختفاء، على الغربة والتحوّلات، على تأكيد النّفي بـ"لا" وعبر أسئلة الـ"كيف" والـ"هل". كلّها تحيلنا إلى مَيلان ما أو انحراف وتتمدّد في حيّز آخر، حيّز زمنيّ يرفضُ المكان ليدخل الشاعر بعدها في فلسفة المواقف في القسم الرابع التي يتوّجها بموقف الموت:
"أوقفني في الموت فما رأيت سوى الحياة تسير في موكب يبتلع ذاته كونه منسيا. الحياة والسّير والموكب ثلاثة في واحد لا ينتهي" (71).
هذا المَوت الذي يؤجّله الشاعر في الوصيّة الأخيرة، في المساحة البينيّة الوسطى بين الحياة والبعث، عالقًا في الجنازات المؤجلة:

"من حقّ الشعر الشاعر أن يموت

أن يبقى في الجنازات المؤجلة

بريقا

ورفيقا

ووعد (142)

ها هي الذات الأوزوريسيّة المنتشرة في الزمان منذ البداية، تتوزّع، تعلق، تتأجّل، تصرّ على حقّها في الموت بصَمت، بلا ضوضاء الكرنفاليّة- ذاك الاحتفال البشريّ الذي يُعلن عن الموت ويؤكّده. إنّها ذاتٌ أوزوريسيّة، تخرج في جنازة مؤجّلة، في "تابوت مؤجّل". ثمّ تولَد من جديد: "أولد من جديد، أولد من جديد، ويصبح لي صوتٌ واسمٌ، هذا أكيد، وإلهٌ يسجدُ من أجلي ويسألني، وقبلَ أن أجيب، يكون ما أريد، وماذا أريد من إلهٍ أتعبني؟... أن أولَد كلّ يومٍ، كلّ يومٍ من جديد، هذا هو.. كلّ.. ما أريد، أن أولد، أولدَ من جديد" (148).
هذا الصّوت الذي يحيلُه الشاعر في العنوان إلى صوت آخر (مغناةٌ لصَوتها)، لا يمكننا أن نجزم يقينًا أنّه صوت امرأة فعلا، صوت خارج ذات الشاعر. والأقرب أنّه صوتٌ من أًصوات الشاعر المتعدد، الحرّة، التي تجمع بين الذكوري والأنثويّ والأوزوريسيّ والمسيحيّ والإسلاميّ والتوراتيّ والأسطوريّ والكونيّ والزمنيّ. إنّها الذات التي تولَدُ من جديد، في حيّز المستقبل، البعث بعد الانتشار، لتكون ذاتًا صيرورتها في تحوّل، دائمة الصيرورة، مكانها لا هويّة له، وحياتها داخل معرفتها.

****

الشّعر عند جبرانُ يتكوّن من سلسلة صُور تتحرّك بين الثابت والمتحوّل، بين الواحد والمتعدد، وتغرز قاعدتها الصّلبة في أرضِ الخطاب الدينيّ وتدور في حركات لولبيّة من حوله غايتُها تفسيخ الخطاب وتركيك دلالاته ومحمولاتها الفكريّة. والذات اذ تفعل ذلك، تفسّخ معها اللغة والوجود والموجودات، وتواصلُ طريقها بعد ما أحدثته من دمار في الخطاب، إلى حيثُ لا وجهة حتميّة تحكمها ولا جغرافيا تستوطن فيها.
يتعامل الشّاعر مع الشّعر ونقطة ارتكازه اللغة الشعريّة العريضة ذات المحمولات الفلسفيّة والدينيّة، والتي تتوزّع ما بين النفس السّرديّ والنفس النثريّ والنفس الشعريّ والنفس الدرامي الحواريّ ليكتب من خلالها صيروراته المتعددة التي لا تصل أبدًا، يعنّف الكَون، يفسّخ الصّوت والصّمت، ويبني عالما من التكرار المختلف في كلّ مرّة في ماهيّته عن النظام الثابت للأشياء. ومن خلال مفهوم حركيّة الكَون والوجود، وانزياح الزمن باتجاه المستقبل اللامحدد، تتحدّد طبيعة المعرفة لدى الذات.