Print
عماد فؤاد

والشِّعر إذا أبكى.. شهادة علاء خالد

13 مايو 2020
آراء

نافذة أسبوعية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا - يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الشاعر والروائي المصري علاء خالد:

 

*****

علاء خالد: المُهم أن يكون هناك مصدر حيّ للبكاء

قبل أن أجيب عن التساؤل، أريد أن أسأل: لماذا ارتبط الشِّعر بالبكاء؟ لا أعرف هل الشِّعر في عصر آخر كان يُبكي؟ ولماذا البكاء يعتبر درجة متقدّمة من درجات الصّدق في التّلقي، تحقّق إحدى غايات الشِّعر لكلّ من المُرْسل والمستقبِل معًا؟ هل لفكرة البكاء على الأطلال، مثلًا، التي اشتهر بها الشِّعر العربي، "قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ" لامرؤ القيس؛ هي التي صنعت هذا الارتباط. البكاء في هذا البيت كان من جهة الشَّاعر فقط، هو الذي فرض حضور الدموع في قصيدته كتابة، وليس القارئ الذي لا نعرف ماذا حدث له عند قراءة هذه القصيدة؟ ولكن أعتقد أيضًا أن الشّاعر هنا يأخذ مكان القارئ، ويبكي بدلًا عنه، أمام الفقد. أعتقد أن ما يُبكي حقيقة هو تمثّل الموت. ربما ما يربط الشِّعر بالبكاء هو ارتباطه بالموت أو الرثاء.

***

لا توجد قصيدة أبكتني، حتى الآن، على ما أتذكّر، وفي مساحة ما قرأت من القصائد. ولكن المفارقة أن العديد من الأصدقاء أبلغوني شفاهة وكتابة أنهم بكوا عند قراءتهم لديواني "تصبحين على خير"، وهو ديوان في صورة قصيدة رثاء طويلة للأم التي فقدتها، حكوا لي عن انفجارهم بالبكاء، بمفردهم، أو وسط الناس، عند القراءة. ربّما لأنّ هناك صورة ما لخّصت الموت، أدخلت الموت في حالة تمثّل شخصي على ما أعتقد، وأيضًا باعتبار "الأم" أحد الأطلال المعنوية في حياتنا حتى قبل أن نولد. كنت أتقبّل هذه الآراء برضا كون البكاء أمام القصائد يمثّل شهادة ما لجودتها.

***                                

أبكي، عند سماع الصوت الحقيقي لمن يتكلّم، وليس فقط قراءته. القراءة فعل مكتوم الصوت، وهو بالطبع صوت الآخر الغائب. أبكي أيضًا عند حضور الصّورة، فالصّوت والصّورة ينشّطان حاسة البكاء، يدفعان الدّموع، كونهما أكثر تمثيلًا ماديًا لوجودنا، فربّما نحن لا نبكي إلّا لو رأينا أنفسنا داخل هذا الآخر، عبر الصّوت والصّورة. فالبكاء يجمّل جزءًا ميكانيكيًا داخله. ليس هذا فقط، ولكن لو رأينا "الآخر" هو "نحن"، عبر الصّوت والصّورة. المهم أن يكون هناك مصدر حي للبكاء.

***

أحيانًا تغيب الصورة من المشهد، فيبقى الصّوت، وهو ما يحدث معي عند سماع الموسيقى، أشعر أحيانًا بتصاعد نفسي للذكريات والمشاعر المبهمة، كأنّ هذه الموسيقى تحتفظ لنا بذروات نفسية كامنة، بها بعض الذكريات الماضية أو المستقبلية التي تكونها الذاكرة في الحال، أسرع من لحظة استقبالنا لها. كل هذه الذكريات، ليست بالضرورة مرتبطة بلحظة حزن ما تدفع الدموع، ولكن لحظة تلبُّس بحقيقة، أو مشهد، لحظة إحاطة سريعة بتيّار زمن عابر، به الكثير من المعرفة المجمّدة عن أنفسنا، كوننا فانين.

***

هناك شيء مثل الموسيقى التصويرية التي تضع شريط الصورة في حالة تحفّز وتأويل. حضور الصوت على المشهد/النص، يصعد البكاء أو يلتقط مكان التمثّل الحقيقي له، وتصبح عندها خاضعًا لتيّار الذكرى في مكانها العميق والمؤثّر، كأنّنا نشاهد فيلمًا، وهو الحقيقة، أن الدموع جزء من فيلم يمر أمام خيالنا، نتفرّج عليه بحياد. الآخر هنا هو الصوت، و"الأنا" هنا هي المشهد، التاريخ الشخصي المتجسّد داخل الصورة، حتى ولو عبرت عبر الخيال.

***

أبكي أحيانًا عندما أقرأ عن أحد يرثي رثاء بريئًا، أباه، أو أمّه، أو صديقه، أو حبيبته، ويعدّد صفاته، أو يبرئه من أي ذنب، أو يغالي وهو يرفعه درجات عن البشر، أو يتعاطف بحدب مع موته. ليس بالضرورة أن يكون شعرًا، ولكن حزنًا له براءة الشِّعر ونقصانه. الموت هو الذي يستدعي البكاء، حتى لو لم أعرف هذا الشخص، يمكن أن تدمع عيناي. الدموع لها صلة بالموت، أو الفراق، أو لحظة الزوال، ربما هي العلامة، أو الأثر المادي، داخل الفراغ الذي يخلفه الموت داخلنا وخارجنا.

***

الشِّعر الذي يسبّب البكاء، يحتاج لوصف، سرد، تفاصيل، تعاشيق صور، حتى تغني عن الصّوت والصّورة داخل النّص، ويسهل معهما التمثّل. التمثّل عبر الشِّعر له شروطه الخاصّة جدًا ليتحقّق، وربّما يتحقّق أكثر برصيد سابق للقارئ في موهبة البكاء، مدى عاطفية القارئ جزء أساسي هنا.

أما زمن السّرد، غير الشِّعري، فيدخلنا في تاريخ أوسع لحياتنا، وبالتالي لتمثّلنا للآخر وهو هنا "الكاتب". بينما الزّمن الشِّعري يدخلنا في زمن واحد رأسي، والذي يتعدّى الشّاعر نفسه، إما ننجح في عبوره، أو لا ننجح، فعمق الزمن الشِّعري يصفّيه حتمًا من السّياق، من أدوات وتفاصيل المشهد التي ينبني عليها التمثّل، لذا يخطف اللب ولكنه لا يُبكي. لأنّ الحزن أو الرثاء هنا أصبحا لازمنيّين، أي غير قابلين للتمثّل إلا لو أصبحت أيضًا "قارئا لازمنيًّا"، وعندها تنتفي اجتماعية البكاء من الواقعة، ربما يحدث التسامي للمشاعر وتصعيد لها ولكن بدون بكاء. ربما يولد "الشّجن"، وليس البكاء، الذي هو لحظة تفاعل اجتماعي بين أحزاننا وأحزان النص، لحظة تمثّل اجتماعي وليس وجوديًا فقط، فالبكاء أداة اجتماعية للتعبير.

***

أعتقد هناك جزءًا غير متحكّم به في تفسير ظاهرة البكاء، أقصد الجزء الميكانيكي منها، الذي لا يرتبط بمثير واضح كالفقد أو الحزن اللذين يدخلانا في تمثّل مباشر مع النّص. ربما هناك أصل للبكاء لا زلت أجهله في نفسي. أحيانًا أبكي أمام مشاهد، في رأيي الشخصي، في غاية السذاجة والسطحية، في فيلم كوميدي مثلًا، عندها يتحرك هذا العضو المختصّ بالبكاء وينفعل مع هذا الموقف، بالرغم من سذاجته! ويفضحني بأنّه يبيع نفسه ومعياريته لهذه السطحية والتفاهة! غالبية هذه المشاهد تكون لحظات فيها ردّ اعتبار لأحد أبطال الفيلم، أو عودة الحبيبة، أو جسر فجوة بين طبقة وأخرى، فالبكاء هنا، كمفهوم ميكانيكي، التزم بروحي الشخصية، كـ"قارئ"، وكشف عن ميوعة ما يقف وراء شخصيتي، ويربط هذا المشهد الساذج مع الموت أو الزوال أو الحسرة. كشف عضو البكاء عن هشاشة وجودنا والوجوه المتعددة والمتناقضة للبكاء.