Print
أسعد عرابي

ثنائيات فنية- أدبية.. جدل الأداء البصري والمضامين البلاغية

14 مايو 2020
آراء
اللقاء الأول بين الفنون القولية والبصرية
تجتمع الثقافة البصرية مع القولية في الذاكرة التراثية ابتداءً من وصول «ورق الكاغد» الصيني عام 750م ثم التقدم الكبير في العصر العباسي في صناعة المخطوطات والورق، مثل ترقين الصفحات وإخراجها الفني خاصة بخروج الحليات من صفحة النسخ إلى الهوامش، ثم التطور الأكبر في تصاويرها ابتداءً من منمنمات «محمود ابن سعيد الواسطي» (مقامات الحريري) ثم ابن جنيد ومحمدي ما بين نهاية القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر، وانتهاءً بالمصور الأكبر (في تبريز وهيرات) بهزاد أكمل الدين وتلامذته النقشبندية، مثل شيخ زاده، هم الذين أنعشوا هذه الصناعة في المكتبات البلاطية للعصر المغولي (خاصة مثل حيدر دوغلات الذي كان مصورًا للمنمنمات وصاحب الكتاب اليتيم في أسرار تقنيتها)، ابتداء من «الطرح» (الرسوم التمهيدية) وانتهاءً بتوزيع الألوان (من هرس الأحجار الكريمة)؛ ناهيك عن توازي تأثير صناعة الأيقونات السريانية المحلية في العصر الأموي (مثالها فسيفساء الجامع الأموي نفسه).
صدر عن هذه المخطوطات تطور أقلام وطرز الخط (من النسخي إلى الكوفي المربع مرورًا بالثلث) ومن أمثلة عباقرته: ابن مقلة والمستعصمي وابن البواب وعثمان. تجتمع في صناعة هذا التراث الحروفية النصية والمقامات اللونية المتصلة بالمقامات الموسيقية. نعثر اليوم على أنسال هذا «التوليف» من أمثال الملحن رياض السنباطي محاولًا توحيد بحور الشعر (القصيد) مع المقامات الموسيقية السبعة. ولو تأملنا الأداء البصري في هذا الركام الثمين لوجدناه لا ينفصل عن مضامينه البلاغية، سواء الشعرية منها أم سواها، واليوم من جديد نعثر على أمثال الشاعر قاسم حداد الذي يعتبر الأداء البصري لا ينفصل إبداعيًا عن شيطان الشعر، هو ما يفسر توحده مع الفنانين المحليين في المنامة.


 دمشق الحرائق لزكريا تامر 
















إذا ابتدأنا من أول ناقد أدبي وأكبر أدباء العرب الجاحظ، فإنه يعرف الشعر قائلًا: «إنما الشعر صناعة ونسج من التصوير»، ثم يختزله المتنبي بقوله: «الفن الإلماح»، أي أن فن صناعة الشعر يعتمد على الإلماح أكثر من التصريح. وتصل صبوة الفن البصري في عصر التنوير (النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر) إلى ذروتها.
غلب على تلامذة الشيخ محمد عبده ما يعرف تجديديًا بالتفسير الأدبي للقرآن الأول (أو مصحف بعض الآيات المكية)، وهي التي تعتبر أن الإعجاز البلاغي قائم على مفتاح «التصوير الفني» ومدى علاقته باللوحة والمشهد المسرحي أي بالعناصر البصرية المبدعة. ومن أمثلته الخولي والعقاد وخلف الله ورشيد وعبد الرزاق وسواهم. بل إن الصديق المرحوم د. نصر حامد أبو زيد يرى أن ما صدر عن النص القدسي من فنون بصرية (حليات وطرز وخطوط ورقش)، وفنون سمعية (تجويد وترتيل وإنشاد وذكر) يزاحم إعجازه المجازي أو البلاغي، ويزاحم الاثنان بعده اللاهوتي.

  أدونيس وضياء العزاوي ـ عشتار  


















حداثة اللقاح بين الشعر والتشكيل
مع حداثة تواصل اللوحة والشعر (قصيدة النثر) تحضر خصوبة الإبداعات التوليفية لضياء العزاوي خاصة البورتفوليو (الكتب الفنية الأحادية أو المحدودة النسخ)، ولا يكاد رائد من الشعراء يفلت من التأويل التشكيلي أو الطباعي الأصيل لهذا الفنان الشمولي، ما بين محمود درويش وعيسى مخلوف وأدونيس وعشرات آخرين، وتقودنا برزخية هذا الفنان، والملاحظات السابقة، إلى أن الأداء الفني للنص الشعري لا يقل أهمية إبداعية عن بنيته، واليوم من جديد نعثر على أمثال عديدة للشاعر قاسم حداد الذي يضع مختبراته الأدائية الحرفية في موقع التنافس مع مضامينه الشعرية، فهو شاعر وخطاط ومصمم كرافيكي وملوّن رهيف، ما يفسّر صبوته في التوحد مع العديد من فناني المنامة سواء بتقديمهم بنص إبداعي أو بالتوازي مع فنهم. ويحضرني مثال أسبق منه يمثل اكتشاف القاص زكريا تامر لفنانة بالغة الأهمية هي شلبية إبراهيم (زوجة الفنان نذير نبعة)، وقد أحببت ذات مرة أن أحلل خصائصها الأسلوبية بمناسبة أحد معارضها فلم أجد أبلغ من المقدمة الأولى التي كتبها زكريا تامر قبل انحياز أدبه القصصي الكامل لها، كرس للوحاتها قصصًا مدهشة ناهيك عن تعاونه الرهيف مع نذير نبعة، ومحي الدين اللباد (نماذجه المطبوعة بقياس ثمانية سنتمترات وتدعى «البيت» من أشهر الأعمال الكرافيكية الأدبية في المشرق العربي).

 دمشق الحرائق لأسعد عرابي 



















تجمعني مع زكريا ذاكرة إبداعية حميمة، واكتشفت ذات مرة أن أحد قصور حي الصالحية الذي أحرق بطريقة مشبوهة (صورته قبل وبعد هذه الحادثة عشرات المرات، ومثّل مركز لوحة التخرج الرئيسية من كلية الفنون المحفوظة حاليًا في المتحف) كان ملهمًا بنفس الوقت لشهادة زكريا تامر في مجموعته القصصية «دمشق الحرائق». ثم أصبحت كل مرة أعرض فيها هذه المجموعة أستعير عنوان كتابه. تعاونت معه أكثر من مرة أبرزها تتمثل في كتاب مشترك إثر هزيمة حزيران 1967م بعنوان «الشمس العربية» كتبه زكريا وصورت رسومه المتسلسلة (نال الكتاب في أحد معارض بودابست الجائزة الكبرى لقصص الأطفال المصورة)، واستمر تعاوني معه عندما أصبح رئيسًا لتحرير مجلة الحياة الأدبية ثم مجلة الناقد في لندن، ولم ينقطع تواصلي معه وزيارته بعد أن استقر به الاغتراب في ظاهر لندن. كان لي تجربة نظيرة مع توأم زكريا، الشاعر محمد الماغوط، رغم معرفتي المتواضعة به، واشترط على شوقي عبد الأمير قبوله تخصيص عدد كتاب في جريدة (اليونسكو) لشعره بأن أنجز رسومه خلال إقامتي في باريس، وهكذا كان فرصة لا تعوض بالنسبة لي لإعادة تأمل تراث «سياف الأشجار العالية» ولم أكن راضيًا عن النتيجة لأن العدد كان سيء الطباعة والإخراج، لكن أسعدتني مع ذلك شراكته خاصة قبل عام من وفاته.


 أسادور وعيسى مخلوف 



















تحالف إبداعي بين الأدب والفن
لعلّ أبرز هذه التقاطعات المخصبة تعاوني مع الشاعر بلند الحيدري في أبرز مجلة عربية وهي فنون عربية- لندن. أبدع العزاوي في تصميم إخراجها وتفاصيلها الكرافيكية، وأبدع الحيدري في تبويبها، وغلبة بصرياتها وتصاويرها الرحبة على مادتها الكتابية. عُرف الحيدري بحداثته الشعرية (كرابع رموز الحداثة الشعرية بعد السياب ونازك الملائكة والبياتي) لكنه أشدهم توليفًا مع الفنون التشكيلية، وعرف كناقد فني أول، وشاعر اختباري يعتمد عناصر الحساسية الفنية من ألوان إلى إيقاعات إلى اختزالات توازي الشعر المعاصر في أوروبا.

دُعي الحيدري إلى «موسم أصيلة» المغربي مرة أولى، فأضفى على ندواته واحتفاءاته وتصاويره الجدارية نفحة عطرية جديدة، ممارسًا اجتياح جاذبيته المغناطيسية الشعرية ومواصفاته الشخصية الشمولية. فتحول بالنسبة للمضيفين المغاربة (وعلى رأسهم الفنان محمد المليحي) جزءًا عضويًا لا يمكن الاستغناء عن قوة حضوره كل عام كجزء من تقاليد المهرجان، ليس فقط بصفته شاعرًا نخبويًا رائدًا وإنما وهو الأهم باعتباره شيخ النقاد الفنيين العرب. ثم وفجأة يخطف الموت بلند في ذروة تألقه الرهيف عام 1996م (هو من مواليد 1926، العراق) ويغور بذلك العالم في حداد مديد في أصيلة. ويكرس الموسم التالي لإحياء ذكراه. وليس مصادفة أن تكلف «مؤسسة المحيط» المغربية، المسؤولة عن مهرجان أصيلة، الشاعر والناقد الفني اللبناني والباحث الأكاديمي متعدد اللغات عيسى مخلوف وذلك للإشراف على كتاب حدثي يخلد ذكرى رفيقه بلند، وعرف الاثنان برهانهما الشعري على التوليف مع ميدان التشكيل. كان ناقدًا نخبويًا انتقائيًا مثله، وضع للكتاب عنوانًا ذا مغزى: «اغتراب الورد» (منشورات المحيط 1997م)، وكلفني بدراسة تحليلية عمودية تسبر مواطن التشكيل والصناعة الفنية في قصيدته النثرية، أما بقية المشاركين في ندوة التأبين وكتاب الاحتفاء فكان أغلبهم من زملاء الشعر خاصة العراقي مثل سعدي يوسف وسواه.
كانت فرصة لي لمراجعة لحمة التلاحم البرزخي المشرعة المنافذ بين الفنون البصرية التي اختص بنقدها، والتوقيع المثير والحميم في استعاراته اللونية وتعددية ملامسه، ثم ربط البناء الشعري بأصول العمارة العربية كما كان يربط الملحن السنباطي بحور الشعر بالمقامات في تلحينه للقصيد.

  شلبية إبراهيم وأطفال زكريا تامر 


















يستحق عيسى مخلوف أن يختم الرحلة: غواية التشكيل في الشعر هي التي بدأها الجاحظ وانتهت بإيتيل عدنان. ثم بدأها العبقري فكتور هوجو بممارسته للميدانين وتبعه جبران خليل جبران وسواهما. تعرفت على حساسية مخلوف «الشعرية- الفنية» خلال سنوات عملي معه في مجلة مواقف باريس (كان يشغل مسؤولية أمين التحرير إلى جانب رئيس التحرير أدونيس). ويعود إلى عيسى فضل تخصيص ملف ضخم (يصل أحيانًا إلى خمسين صفحة مع صور ملونة مكلفة برحابته) وكانت مساهمتي في هذا الملف تمثل دراسة جمالية مستفيضة نسبيًا عن الفنان المختار. أما النص النقدي لعيسى فكان يملك حساسية فياضة خاصة عرف بها، وكان غالبًا هو الذي يختار الفنان من هؤلاء من قائمة انتقائية (وليس إقصائية كما كنانتهم) على مثال ضياء العزاوي، آدم حنين، شفيق عبود، صليبا الدويهي، أسادور وغيرهم.
لا ينفصل الأسلوب الكتابي لدى مخلوف سواء الشعري منه أم النقدي (الذي يؤاخي بين الشمولية البلاغية في التعبير أو النخبوية في اللغة النقدية) عن تعدديته الثقافية واللغوية والأهم ترامي مساحات حساسيته المعرفية الشمولية التي ترفع الجدران بين الثقافات وأنواع الإبداعات دون أدنى تهجين. وتتداخل في دعمه الانتقائي اللامحدود لبعض الفنانين المحترفين علاقته الإنسانية الملتزمة وتوحده مع عالمهم الداخلي وحساسيتهم الموهوبة. قدم معارضي في أكثر من مرة. وكان آخرها بنص فرنسي ينهل من مداده الشعري وعناقه النقدي للخصائص التشكيلية وذلك في معرض بالغ العناية أقيم في حي الفنانين في السانت جرمان (غاليري موزان 2019م)، وهنا لا بد من التذكير بتعددية لغاته الأكاديمية الفرنسية والإسبانية (ميدان اختصاصه) ناهيك عن عربيته الاستثنائية.

 نذير نبعة يصور عوالم زكريا تامر 


















يمثل عيسى مخلوف الشاعر المفكر والناقد والمترجم والباحث (دكتوراه في الأنثروبولوجيا من السوربون) شمولية المثقف المعاصر الذي يقتحم آفاق أنواع المعرفة والإبداع محيلًا إلى التأملات الفلسفية. ويقول في أكثر من مناسبة «إن الأدب الذي يتخلى عن السؤال الفلسفي لا يعول عليه، كذلك الحال بالنسبة إلى الفنون عامة».

تحضرني خصوبة تراثه الكتابي ونشاطه الثقافي المتراوح بين المعرفة الكتابية والحساسية الفنية على غرار ديوانه الشهير «عزلة الذهب» 1992م، هو الذي استقى منه «هيامات» المختارة لينقلها إلى الفرنسية ترافقها ست مبدعات محفورة لصنوه الروحي الفنان أسادور ثم يكتب بالإسبانية «الأحلام المشرقية، بورخيس ألف ليلة وليلة» ثم يترجم عن الإسبانية «قصص من أميركا اللاتينية» وهذا غيض من فيض.
إن جل مشاريعه الكبرى كانت فنية، ابتداءً من كتاب «اغتراب الورد» المذكور آنفًا، إلى كتاب الإشراف على المعرض الاستعادي لجبران خليل جبران بالفرنسية «جبران الفنان والرؤيوي»، معهد العالم العربي 1998م، ودراسة معمقة عن الفنان صليبا الدويهي بصفة أن الاثنين من عباقرة منطقته إهدن. وارتبط انحيازه الفني لأسادور ضمن ثنائية متعددة الخصوبة والثبات: عيسى مخلوف – أسادور، مثل ضياء العزاوي – أدونيس، أو زكريا تامر- نذير نبعة، أو أسعد عرابي – محمد الماغوط، أو إدوار الخراط- عدلي رزق الله، والعديد من الثنائيات المخصبة التي غابت من الذاكرة.