Print
دارين حوماني

عصام العبدالله.. عندما يسكت الشِّعر المحكي

17 مايو 2020
آراء
يبدأ كلّ شيء عند عصام العبدالله من جملته الأولى "نقّط قلم الله حبر"، وهي إحدى الجمل الأولى في ديوانه الأول "قهوة مرّة"، وهو شاعر الأمكنة المتعدّدة فينا، وكاتب حكايانا الدفينة التي لم نخرج منها، شاعر المرأة والجنوب، وبيروت التي تواطأت فيها السياسة مع الدين فأحدثا انتحارًا جماعيًا لشعب قد لا تنقذه إلا القصائد والموسيقى والفنون.. لا يهمّه أن يمشي كشاعر أو يضحك كشاعر، يهمّه أن يُقال إن الشعر جزء من شخصيّته. هذا هو عصام العبدالله (1941-2017) من بلدة الخيام الجنوبية المحاذية للشريط الحدودي مع فلسطين والتي أخذها معه وحيث سيكمن قلبه دومًا، تمسّك بلبنان وكره طائفيته ورفض مغادرته، ارتبط اسمه بشارع الحمرا وبمقاهيه.
"هو إله الشعر"- قال عنه الشاعر سعيد عقل بعد أن منحه جائزة "سعيد عقل" الشعرية، كما كرّمته وزارة الثقافة اللبنانية وأنتجت فيلمًا وثائقيًا عنه في عام 1999. تولى عصام العبدالله إدارة تحرير عدد من المجلات اللبنانية، وكتب فيها وأعدّ العديد من البرامج في عدد من الإذاعات، كما قدّم برنامجًا إذاعيًا حواريًا في الإذاعة اللبنانية.
جمع أولاده الثلاثة سلاف وحازم وورد دواوينه الشعرية مع قصائد غير منشورة في مجلد "الأعمال الكاملة" العام الفائت، وصدر عن دار النهضة العربية، مرفقًا بـ CD يضمّ القصائد جميعها مسجّلة بصوته مع موسيقى للفنان زياد الرحباني. كما صدر معه كتاب "بغيبتك جنّ الحكي"، وفيه مجموعة من أهم أشعاره ومقالاته وحواراته، وكذلك شهادات في حق الشاعر.




عمارة الشاعر.. زبدة القول
ثلاث مجموعات شعرية هي عمارة عصام عبد الله حرص أن تكون حجارتها مرئية لنا محمّلة بالكامل بوجوهنا تمنعنا من البكاء فتضحكنا حينًا ثم تخبرنا الحقيقة فتحزننا حينًا آخر.. شاعر يتمشّى في حقل من السخرية الوجودية، يخاف الصمت، صوته حاضر في مفكّراتنا اليومية، واضح تمامًا، فلا يلعب لعبة الغموض ولا يدخل في الرموز المبهمة، كان يريد فقط أن يستخرج شكله ولونه وقامته ويحكيهم كما هم عليه مضيفًا إليهم الإيقاع الموسيقي.
بدأ شبابه شاعرًا كلاسيكيًا رافقته القصيدة العامودية في الجنازات وفي التكريمات الحزبية لكنه تخلّى عنها كما تخلّى عن عمله الحزبي، فقد كان متحمّسًا للعروبة منذ شبابه فانتمى الى حزب البعث في عام 1958 ثم تركه في عام 1963، وإثر نكسة حزيران/يونيو 1967 عاد ماركسيًا منتميًا لـ"منظمة العمل الشيوعي" وكان بارعًا في تنظيم التظاهرات وتأليف الهتافات وكان "الهتّيف" الأبرز لقوة صوته وحضوره. يقول: "لم أمشِ يومًا على قدميّ في تظاهرة، كنت دومًا محمولًا على الأكتاف". لم يدم ذلك طويلًا حتى انسحب من العمل السياسي ومن القصائد العامودية في أوائل السبعينيات، ووجد نفسه يدعس في الفراغ، "في أرض بور"، ويكتب الشعر محكيًا: "كتابتي باللغة المحكية ربما أتت انتقامًا بعد أن شعرت بأنّ أحدًا يريد سحب لبنان مني بحجة العروبة والقومية ما يعني تجاهل الإنتماء الوطني". لغته المحكية تساوت مع شعر التفعيلة، فهذا الشاعر يشمّس أحرفه لتأخذ لونًا قبل أن يرميها لنا قصيدة بثيمات متعددة: الحب، الوطن والموت..

فترات متباعدة تفصل بين المجموعات الثلاث، قهوة مرة (1982)، سطر النمل (1994)، مقام الصوت (2009). يقول العبدالله: "عدد الكلمات في دواويني الثلاثة لا يتجاوز الألف، ورغم ذلك أشعر أني أسرفت في الشعر، رميت من رأسي آلاف الكلمات لأحصل على زبدة القول، هناك صعوبة في أن تضيف جملة شعرية إلى المكتبة العربية".
هو ليس شاعرًا أو كاتبًا أو إذاعيًا، هو حيّز بالغ الاتساع في بيروت، تشعر بيروت في صوته ونَفَسه وظلّه منذ اللحظة الأولى لدخوله إليها، تشعر بحميميّته على الكرسي في المقهى، المقهى نفسه الذي شكّل مسقط رأس الشاعر والذي كان وطنه المتنقّل فجاء عنوان ديوانه الأول "قهوة مرة"، لهذا الحدّ كان عصام العبدالله مولعًا به، فهو يقول "المقهى هو المكان الذي تكون فيه حرًّا، تسكت أو تحكي، تسمع أو لا تسمع، أنا مقيم في المقهى لأني مقيم في حريتي". وكان العبدالله بوصلة كل مثقفي بيروت. ذات مرة سألتُ الشاعر عباس بيضون: "مررت بمقهى "الكوستا" فلم أجدكم.. أين تتجمّعون؟"، فأجابني: "إلى حيث يأخذنا عصام، يحب مقهى "ليناز" عندما يشتدّ الحرّ"..
"المحكية عروس لا يمكن زفّها بدون موسيقى"- يقول العبدالله، لكن صوته يندفع فينا بموسيقى أو بدون موسيقى، يتكاثر فينا، يتكاثر في آذاننا وهو يلقي قصائده بمرافقة الفنان زياد الرحباني عزفًا، فالشعر المحكي بالنسبة إليه هو جزء من منظومة كاملة من الأحاسيس ولكي تصل يجب أن ترافقها الموسيقى. كان زياد رفيقه الدائم، يجترحان السخرية من عبثية الحرب والموت من نفس الكأس، عملا معًا في الإذاعة اللبنانية لسنوات عديدة، أعدّ معه برنامجه "بعدنا طيبين قولوا الله" الذي بقي في ذاكرة ذلك الجيل، "زياد وضع موسيقى ديواني الأول، كنت أقرأ وأسجّل بصوتي ويشتغل هو على الموسيقى، واستمرّ ذلك لاحقًا".  


قشّر بيروت لنا
ما فعله عصام العبدالله هو بمثابة تقشير بيروت لنا، وضعها أمامنا كإمرأة مشتهاة أرادها الجميع دفعة واحدة: "شايف كإنّا بديت الحفلة/ وسمّيتها بيروت/ طلعت من رموش الزبد/ كإنّها كحله.. ما في مدينة إسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع/ لما استوى بالصيف/ والسكر لمع/ طلع الصبي عالحيط بدو يقطفو/ ما طال../ جاب العصايي ولوّحا/ صابو../ وقعوا الضيع/ وتفرفط العنقود..".
وفي قصيدة "جنّ الحكي" يحزن العبدالله على العرب، يحاول أن يعيد لهذه الكائنات الهشة ذاكرتها التي تشتّتت في مناخات متناحرة، يقول: "كان الوقت تموز/ وشمس العرب صفرا ودبلانه/ يمكن مريضة/ راجعه من الشغل/ كانت عم تقطف رمل/ وتسدّ ع بيوت النمل/ داخت ووقعت ع راس الميدنه/ وتجروحت/ وتدحرجت صوب الأرض/ دمّا ع خطّ الطول/ وعا صدرها خط العرض/ وتكسرت متل الدهب شمس العرب/ شمس العرب بتدّق ع باب القصر/ بتفتحلها بيروت/ بنت الملك نصّا مرا ونّصا ملك".
ويقول العبدالله عن بيروت في أحد مقالاته: "لم أعرف بيروت، إنها أمي، فكيف يعرف الواحد أمه، إنه لا يعرفها، إنه يشمّها يحسّها ويعشقها كأول أنثى تتبرّع بحبها له، في الحرب بيروت مأوى للكذب العظيم، مربط للخيول الميتة، مرفأ للقراصنة الذين فقدوا عيونهم في البحر وأتوا يطالبوننا بها".. ماذا فعل العبدالله بفكرة الحرب والحزب والقدوة الأيقونة، قتلهم جميعًا ودفن المناضل الحزبي فيه وأراد للجميع أن يدفنوه أيضًا، يقول في قصيدة "مشهد الحزب": "شايف كإنّا مدرسة/ عم تزعب ولادا/ يتعلّموا برّا الحكي/ ما في ولا صورة/ مثل البناية إلما إلا شبّاك/ ومستّفي قبورا".
في قصيدة "كتاب العرب" يبدو العبدالله كأنه يخيط عالمًا بثقوب متعدّدة مستخدمًا ثياب الموت دون أن تهتزّ أصابع يديه: "في ناس عم تروي إنو جبل عامل/ بَيْعت ولادو عالكرم/ وصلوا الشباب/ وكان سابقهم حدا عل الكرم/ كان الشجر فزعان/ والطير يسأل شو الخبر/ لمّا بينقط دمهن فوق العشب/ بيصير إسمو ورد/ حامل معي تيابن/ وتراب.. خبّوا التراب بجيبتن/ وقعوا متل وقع القمر/ في إيد رجعت لمّتن"..



تتمدّد مناخات عصام العبدالله من على أسطح بيروت الى جبل عامل وفلسطين إلى مريم وزينب.. لم يصطدِ الكلمات، علقت بصنّارته على شكل حوريّة وبنسق موسيقي حيّ حتى تصير الكلمات بهجات صغيرة وأحيانًا أخرى تستخرج أحزاننا الدفينة عندما يغنّيها المغنّون.. اختار الفنان مارسيل خليفة أن يغنّي من قصيدة "بو علي" ما يشبه ملامح وجهه: "ما بعرفن، ما شايفن/ لفّوا وجوههن بالقهر/ خبّوا سلاحهن بالوعر/ خبّوا أساميهن ما في حدا يشوفن إلا إذا ماتوا".. واختار الفنان أحمد قعبور قصيدة "جبل عامل" ليغني منها ما يرشح من العمر: "كان في جبل إسمو جبل عامل/ راجع ع بيتو من الشغل تعبان/ وكان الوقت قبل العصر بشوي/ بكّير تيصلي/ في زيت عم يرشح من عروق السنين/ جهاز العرس للبنت يللي اسمها زينب/ وسامع حدا بيقول إنّا فلسطين/ إسمو جبل عامل/ بيقلها رح آخدك عل الشام/ منفيق قبل النوم/ بيقلها عل الشام بجبلك حلق/ حلو الحلق بيحفظ كلام/ ومرات بيألّف كلام تا تسمعي صوتي/ بيمرق حدا بيخطر ع بالو/ يشلّح الموتى التياب/ بيشلحوني بضل لابس/ تحتن تياب العتاق/ دفيان مش بردان/ حتى إذا جدّي مرق/ ما يشوفني عريان..".



كائنات رقيقة
للمرأة مكان آخر بين سطور عصام العبدالله شاعرًا وإنسانًا، المرأة الأم والحب والزوجة. يمرّر العبدالله كائناته الرقيقة بين الأوراق التي تستحيل صورًا حسّية تعبث بمشاعرنا ونفيض بها، يقول في قصيدة "درس قواعد": "علميه يا معلمي الفتحة/ قولي أنا المفعول/ منصوب بالفرحة/ ضمّي المضارع فارع وبارع/ مهضوم ياهالضم/ عصفور عالكلمة/ ومرفوع بالضمّة/ درس القواعد أجملو بالبيت/ درس القواعد ناس عالسكيت".. لكن "مريم" تبقى ملهمة الشاعر جنبًا الى جنب مع حواسّه الأخرى، المرأة وبيروت وجبل عامل وفلسطين، وتبقى جزءًا من شعريّته المتفرّدة "بدك صبي وما يقربك رجال/ مش معقول/ إلا إذا بدي أنا إلعب/ بقعد بعبّك عل الهدا/ بتخلفيني بعد تسع شهور/ متل الكإنو ما حدا خلّف حدا/ وبيضلّ جسمك نور ع بلّور/ الإم البلا شهوة/ أول شهيدة للجسد وما بظن زاد العدد..". ويقول شقيقه الأصغر عماد العبدالله: "اقترب عصام العبدالله من قصيدة مريم كي يتطهّر من دنس ذكوري فاجع الهزيمة والانكسار".



المقالات الصحافية
الحديث عن عصام العبدالله ليس حديثًا عن الشعر فقط، فقد كان له أيضًا صوت صحافي قادم من قلب الصخر يفتّت من خلاله التنابذ الطائفي المتأجّج كأنّ الكتابة هي أيضًا حفر آخر في تفاصيل الخوف والحرب ومزاج آخر لبيروت وتناقضاتها الاجتماعية والنفسية، وذلك بسرديّة ساخرة مسبوكة من القهر ومن تشظّي الوعي المجتمعي.
في مقال "ماء كثير لوجه العرب" يقول: "ربما كان من واجب العرب اختراع لبنان لو لم يكن موجودًا.. لبنان متحف لما بقي من ماضي العرب، حسنًا أنه ما زال في لبنان ماء كثير ودم كثير لإنقاذ وجه العرب".

كما حافظ العبدالله على سخريّته من الوجود في عالم مليء بالخراب حتى الاحتمالات القصوى، ففي مقال بعنوان "القتل للأصحاء فقط" كتبه خلال الحرب الأهلية اللبنانية يسخر من المسؤولين وهم القاتلون أنفسهم: "يثير الريبة، ذلك الحنان المفاجئ الذي أصيب به المسؤولون الشرعيون إثر حادثة المفاعل النووي السوفييتي، يحرص المسؤولون على صحة الشعب حرصهم على متابعة الحرب، فيجب أن تكون الضحايا غير ملوّثة بالإشعاعات، يجب أن يتم القتل كاملًا، ويفترض كما تقضي اللعبة لكي يربح المسؤولون أن يمنعوا الإيقاع من القتل وينفردوا هم بالموت ويحقّقوا الإصابة القاتلة في الوقت الضائع بين الجنازة والجنازة"..
تمكّن عصام العبدالله من أن يفكّك دموعنا وسجالاتنا المتناحرة ويعطينا دروسًا في الوطنية، يلغي ملامح وجوهنا ويستبدلها بانتماء جماعي للوطن تحت سقف واحد. "برميل السلطة"، "لعب على شاطئ الخطر المتوسط"، "التخطيط المضاد"، "يا فخامة الرئيس" وغيرها من المقالات لم تكن تُكتب لملء الفراغات، كان يحدّث الذي ماتوا وحيدين، يدلّهم على مكان إقامتهم الوحيد حيث يجب أن يكونوا، وقبل أن يصمت عدّ لنا أحزاننا التي أسّسها الوطن المشرذم والقضايا الخاسرة، قبّلنا جميعنا على طاولة المقهى دون أن يفحص هوياتنا، والطاولة ناقصة من دونك يا عصام، ولا مكان واحد يجمع الرفاق..
في السادسة والسبعين من عمره تسلّل عصام العبدالله الى الموت، كان يراه دائمًا عن قرب ولا يكترث، قال ذات يوم: "لا أخاف الموت، لكن الموت سكوت، وأنا أخاف من السكوت".. كان يعلم أنه سيدخل بوابة الموت، سيدخلها واقفًا مستندًا على حقائبه التي عمّرها وركبّها كما ركّب الأمكنة والأشخاص لنا بخفّة كائن احتمل الأرض بما فيها، ورغم صعوبة إعادة التركيب الدقيق لها، يقول في قصيدة "بوابة الموت": "بوابة الموت معمولة من حجر ياقوت/ بتفتكر مرّات إنها عالية/ بوابة الموت أوطى من سقف تابوت/ تتفوت/ بدك تنحني وتوقع/ ويلمك تراب الأرض/ تشوف الخليقة نايمه/ ومغطيا بجوانحو طير السكوت.."!