Print
هشام أصلان

تلفزيون رمضان: الاختيار.. من ملحمة عسكرية لمسلسل ديني

22 مايو 2020
آراء

كان متوقعًا أن يأتي مسلسل "الاختيار" مهمومًا بما هو تعبوي وتتيحه دراما تُخلد بطلًا عسكريًّا، خصوصًا في ما نعيشه من لحظة بدأت منذ سنوات، وتسيطر عليها فكرة كيف تستغل كل شيء لتحشد الجميع في صف وراء الدولة. هو أمر بديهي أيضًا في حالة "الاختيار". يزيد على هذا المعطى خصوصية الشخصية التي يقوم عليها العمل، ويقدم حياتها. الضابط أحمد منسي، الذي كان استشهاده في سيناء قبل سنوات قليلة، في عملية إرهابية، شديد الأثر على الحالة العامة، خصوصًا مع التسجيل الصوتي الشهير الذي تركه لحظة استشهاده. بديهي أيضًا أن يكون للدولة إشراف ما على عمل فني له هذه الحساسية. وهذه أمور كان ممكنًا ألا تحول دون عمل جيد، غير أن مشكلة وحيدة وقفت أمام هذا، مشكلة تتعلق بالوعي العام للمسؤول عن هذا الإشراف. وهي مسألة مركبة وذات أكثر من مستوى. أنت، بداية، أمام رغبة في أن يظهر الشهيد أحمد منسي، لا بالصورة البشرية للبطل الوطني الكبير، ولكن بصورة ملائكية، وربما كان الشهيد أحمد منسي الحقيقي له هذه الصفات فعلًا، غير أن المعالجة الدرامية ابتعدت تمامًا عن أي عمق للشخصية، هذا رجل لم نر من جوانبه الإنسانية والحياتية سوى شخص يحارب ويبر الوالدين ويحب الأطفال ويعطي الخطب التنموية، بل والدينية أحيانًا، لجنوده طيلة الوقت.

ملصق ترويجي متداول لمسلسل الاختيار

في المقابل، جاءت شخصيات الإرهابيين ذات أبعاد اجتماعية ونفسية يستطيع المشاهد متابعتها واستنتاج بيئتها أو نشأتها ورؤية ما تسبب في تحويل الواحد منهم إلى إرهابي في خطوط

درامية مضبوطة بشكل كبير، وهي درجة من الموضوعية تجب الإشارة لها، ولا تتناسب مع الهدف الرئيسي من المسلسل في السياق المذكور، حتى أن بعض التعليقات على السوشيال ميديا أشارت إلى أن جميع شخصيات المسلسل مكتوبة، بينما شخصية البطل منسي أُمليت على صُناعه، فجانبها العمق الفني.
مؤيدو الدولة، بأنواعهم، يتغاضون عن أي معايير فنية في سبيل دعم الهدف التعبوي للمسلسل. يفعلونها دائمًا في أمور أبسط وأقل أهمية. هنا وجه للاصطفاف. غير أن بعضهم يشتاق، من حين إلى آخر، إلى قول رأي في المجال العام، ويبحث دائمًا عن فرصة آمنة للإدلاء بكلمتين خارج سياق القطيع. كيف يحدث هذا من دون شق الصف؟ الفرصة جاءت على يد الممثل أحمد الرافعي. عرفه الجمهور للمرة الأولى مع ظهوره في المسلسل يقدم شخصية مفتي إحدى الجماعات الإرهابية. في اليوم الأول لظهوره، تحدث الجميع عن إمكانياته الفنية، وتمكنه من أدواته، وكيف أجاد في دوره.
وقبل مرور حلقتين، كان أحدهم قد بحث وراء الوجه الجديد، ووجد له آراء متطرفة دينيًا، أبرزها هجومه على المفكر فرج فودة، الذي اغتاله الإرهابيون منذ سنوات في حادث شهير بسبب آرائه. الممثل سبَّ فرج فودة قبل أن يعرفه الجمهور. وهكذا، وقبل أن يظهر ثانية، تحولت الإشادة بدوره إلى سباب من مناصري الدولة التي من المفترض أنها في لحظة مصيرية في تاريخ حربها على الإرهاب. الجميع تناسى أن ما قاله الممثل الشاب أحمد الرافعي هو بالضبط ما تقوله مؤسسة الأزهر، وليس فقط الإرهابيين، تقوله غالبية الشعب المصري بالتبعية. الجميع وجدها فرصة آمنة، وأشهروا أسلحة الفكر والتنوير في مواجهة الممثل المبتدئ، بينما لم يجرؤ كثير منهم على مهاجمة أولي أمره. لم يهاجموا الإعلامي الذي استضافه للمناقشة، وبدا واضحًا أنه لا خلاف كبيرًا بينهما في تقييم فرج فودة. الخلاف فقط في كان طريقة التعبير. المصطفون وراء الدولة في كل ما تفعله وجدوها فرصة لتفريغ كبت الرأي.
بعد حلقات عدة من المسلسل، جاءهم مأزق جديد، في مشهد يجلس فيه البطل أحمد منسي، وإلى جانبه شيخ أزهري يحاضر في الجنود، في لقطة تتسق مع طبيعة الوعي الذي يرغب القائمون على المسلسل في تقديمه، ذلك أن المسألة ليست في منطقة حرية العقيدة، أو ما إلى ذلك، ولكن هو في منطقة: "نحن الأكثر تدينًا، وليس الإرهابيين. نحن من نفهم صحيح الدين". ثم كانت

المفاجأة عندما استحضر الشيخ الأزهري في محاضرته سيرة ابن تيمية، الذي يضرب به المثل في التشدد والفتاوى التكفيرية، إلى آخره. ويبدأ الشيخ في توضيح أن ابن تيمية بريء من أفعال الإرهابيين، وأنهم يفسرون فتاواه بطريقة تظلمه. ثم يصير الجميع في مأزق. الصادقون في الاصطفاف خلف الدولة في حربها على الإرهاب مصدومين، أو مختلفين على أقل تقدير، بينما مارس المنافقون أقصى درجات ضبط النفس، واستحضار كل مهارات الرقص على السلم.
المعركة، إذن، ليست على حرية العقيدة. ليست على أن الوصاية الدينية ليست حقًا لأحد. هي معركة على فهم صحيح الدين.
وبصراحة، لا تبتعد تلك الفكرة، التي اتكأ عليها صناع المسلسل، كثيرًا عما يتكئ عليه كثير من النخبة المصرية. المثقف المصري، في نماذج كثيرة، بات يتعارك على مساحة التسامح في الإسلام، وليس على ضرورة فصل الدين عن الدولة. كثير منهم بات يسعى لمقاعد أكثر في مجالس تجديد الخطاب الديني.
كنت أتابع الجدل، بينما تذكرت يوم جلس أحد أشهر وأكبر نقاد الأدب أمام مذيعة تلفزيون يقنعها بأن الإسلام بريء من أفكار المتشددين الذين يجبرون المرأة على الحجاب، ويهاجمون حرية الحياة والتعبير والإبداع، وأن القرآن الكريم لم يذكر في ما ذكر شيئًا عن فريضة الحجاب، قبل أن يسترسل في شرح التفسير اللغوي للآية القرآنية التي يعتمد عليها الشيوخ في تأكيد كونه فرضًا. ذهب الرجل يدافع عن فهمه الشخصي لما يقصده القرآن، وما يتيحه الإسلام، وليس عن حرية العقيدة والفكر والحياة. هو يختلف مع المتشددين على مدى تشددهم، وليس على تدخلهم في حياة البشر. أنت أمام خطاب نخبوي أنجر ليقف على أرض واحدة مع خصومه، يختلفان فقط على بعض التفاصيل ليس أكثر.