Print
سامي داوود

سؤال القيم المستجد والوباء

6 مايو 2020
آراء
سارع الفلاسفة المعاصرون إلى استحضار صورة القيم الكونية الحبيسة، وإدراجها في وقت الفراغ المربك، الذي وفرته أزمة الحجر الكوني لفيروس كورونا. ورافقتها ـ كما هي عادة "الصرعات الثقافية"- استعادة لأسماء الكتب العلاجية المناسبة في هكذا أزمات.
ففي سنة 2008، مع الأزمة المالية المتعلقة بالرهون العقارية، زاد إقبال الناس على قراءة ماركس، وكأنه دواء إدراكي لإحدى علل النظام الرأسمالي. ومع كورونا زاد الطلب في فرنسا على رواية "الطاعون" لألبير كامو، والتي لن تضيف شيئا ذا معنى إلى قراءة الناس لأزمتهم الفيروسية الراهنة. فالمشكلة الفلسفية بالنسبة لكامو كانت هي الانتحار الذهني والامتثال لفكرة اللاجدوى. والأغرب من ذلك، هو ما قام به بعض الفلاسفة، باستلال كتاب ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة" من أجل نقد سلطة الطوارئ ـ الضرورية في هكذا ظرف، من وجهة نظر آلان باديوـ التي ستجعل الدول الأوروبية تتغول على غرار اللويثان الصيني، وتتجرد من نظمها التاريخية التي أنتجت الهيكلية المؤسساتية للدول الأوروبية وتوافقاتها المجتمعية. ونظرا لزخم الأفكار التي تزيد الأزمة التباسا، سأكتفي بالقول إن "المراقبة والمعاقبة" لفوكو، ليس ترياقا مفاهيميا في هذا السياق. وما ينقب عنه فوكو، في بنية السلطة المشرفة على كل شيء، والضابطة لوجود الجسد حيويا، عبر التماثل الوظيفي الذي تنتجه السلطة، بين المؤسسات الصحية والدينية والسياسية، يشتغل ـ الآن/ هناـ ضمن أطر ضيقة جدا، ولا يتوافق مع النظام القانوني الحديث، ولا مع "أفول الدين" كوسيط علائقي، على أقل تقدير نظريا، وضمن الفضاء الأوروبي تحديدا؛ ناهيك عن الاختلاف القياسي بين الحجر المعاصر المتصل بالإنترنت، والذي لا يتضمن بنى هيكلية للتفاوت الاجتماعي، وبين الحجر الذي بدأته الكنيسة في القرن السادس عشر، وتخصيص المرضى بسفينة الحمقى.
هذا الجدل ليس جديدا. فبعد 11 سبتمبر، طرحت منظمة اليونسكو على شريحة واسعة من الفلاسفة والكتاب، من مختلف الثقافات، سؤالها المتعلق بمآل القيم في زمن العولمة. ولذلك سأقارب هذه النزعة المستجدة لتداول القيم، بما قيل سابقا في سياق الثنوية المتجاذبة لـ القيم/ المِحن.

  سلافوي جيجك 

















ربما كان سلافوي جيجك، الذي تعلو سريره صورة ستالين، سباقا في الدعوة إلى اغتنام الفرصة للعودة، أو لاستعادة الريادة الشيوعية في إدارة النظام العالمي الأعرج. ولأنه نعت نفسه في مقاله بما يلزم، سأكتفي بإحالته إلى نموذج تحليلي، قدمه فالتر بنيامين عن ملاك التاريخ، تلك اللوحة التي رسمها بول كلي، والتي ينظر فيها الملاك إلى ما يتضمنه الماضي من فظائع تاريخية، تجعله لا يلتفت إلى رياح المستقبل وآماله. فكيف للممارسة الشيوعية أن تكون بديلا قيميا، وهي التي احتجزت الشعوب في أرخبيلات اعتقالية، وحولتهم إلى دارات آلية لتحريك نظام رأسمالية الدولة؟ ليس لدى جيجيك أي تحليل غير تذكيرنا بالمصير المأساوي الذي أوصلتنا إليه الحضارة الاستهلاكية. نعم يا عزيزي، نعرف كيف حول الاقتصاد المملوك من قبل الآلهة الجديدة ـ اللوبيات وشركاتها العابرة لكل حاجز- هذا العالم الإبراهيمي بتعبير دريدا، إلى مكب للنفايات وملهى للتسلية. غير أنها ليست اللحظة المناسبة للمساومة بين خيارين وفقا لقاعدة: أحلاهما مُر. فحتى التحليل البلاغي لمفهوم التسوية، وفقا للمعالجة الفذة التي قدمها حاييم بيرلمان في بيانه "عن البلاغة الجديدة"، تكون التسوية ممكنة، حينما نضع في بنية الحجة التي نعلل بها ترجيح خيار سيء على آخر سيء، في المنفعة الممكنة من عملية التسوية، وذلك بالرغم مما يتضمنه ذلك التفضيل من حرجٍ أخلاقي. غير أن جيجيك لا يجد حرجا في دعوتنا إلى التغافل عن معرفتنا التاريخية للقبول ببديله القيمي، والذي اختزله رفيقه ستالين في تعليق بسيط أرسله إلى كوريته الشمالية قائلا: "في حربكم الأهلية، لم تخسروا سوى البشر".


لغة شبه دينية
طافت على سطح بعض الأفكار لغة شبه دينية، كتلك التي ظهرت في مقال إدغار موران المنشور في جريدة ليبراسيون في 27 آذار/مارس المنصرم، ودعوته المجتمعات إلى التكافل لأن البشرية أمام مصير مشترك. شخصيا، لا أعلم ما هي المظلة الكونية التي ستجعل البشرية تنضوي تحتها كعائلة واحدة. وبالرغم من إيماني الطوباوي برؤية موران إلا أنها غير ممكنة، ليس لأنها غير عقلانية ولا واقعية وفقا للمنطق الهيغلي في العلاقة بين الواقعة والعقل، بل لأن العولمة حطمت الكونية وأنتجت ما يسميه جان بودريار بـ "الخلاعية الثقافية"، وذلك في سياق مساهمته التي قدمها لمبادرة اليونسكو. إذ وفقا له، قامت هذه الخلاعية الثقافية بخلط كل القيم، لذلك لم تعد هناك قيم كونية. هنا مرتع العلة القيمية، والتي يقدم بودريار تشخيصا حاذقا لها في اعتبار المجتمعات موبوءة بالعنف الفيروسي القادم من الشبكات ومن المدى الافتراضي. علينا إذاً، قبل مواجهة كورونا، أن نتكلم عن استفحال الفيروس وعنفه الذي: "لا يتحرك بالمجابهة، وإنما بالتماس، والعدوى، والتفاعل المتوالد. هادفا إلى إفقادنا أي نوع من المناعة".


لا يشير المفكر الفرنسي عبد النور بيدار، في مقاله المنشور في الهافتنغتون بوست 2/4/2020، إلى الفيروس الذي أصاب القيم الإنسانية وفقا للصيغة التي قدمها بودريار. لكنه يقول ابتداء من العنوان بأننا كنا محجورين في الأصل، لكن من دون أن نعلم. حجرٌ قيمي سبق هذا الحجر الكوني لأجسادنا، ويجد في هذه الحالة فرصة لإعادة التفكير في القيم الكونية. نعم هي فرصة، لكننا لا ننتبه إلى أن الذي يستحوذ على الوقت خلال الحجر، هي مرة أخرى الشبكات التي تنشر فيروس القيم المختلطة؛ هذا الكولاج المبتسر لتصورات قيمية مجتزأة، وغير القابلة للتجانس إلا افتراضا. لقد توقفت خدمة نتفليكس في بعض الدول، نظرا لزيادة الطلب على منتجاتها. وبدأ الناس يتبادلون فيما بينهم مواد التسلية من فيديوهات ورسائل جاهزة الصياغة. وازداد الطلب على العيادات النفسية بسبب مضاعفات السأم المزمن للمجتمعات المقيدة بالشاشات. إذاً، كيف سوف تستغل هذه الفرصة؟
ألا يعيدنا هذا النقاش إلى المناظرة التي جمعت بين هابرماس والبابا بندكتوس الثاني. حينما تقدم هابرماس بتصور غريب حول الحاجة إلى الدين من أجل تعميم الإيمان بمبادئ العقل، ردّ عليه البابا قائلا: "في البداية، يجب أن نضع العقل تحت إشراف القيم".
إذاً، كيف يمكن للأوبئة أن تجعلنا نعيد النظر في نظامنا الأخلاقي؟ وهل في إمكاننا أن نتحدث إلى جمهور كوني، بعد أن تحطمت الكونية بفعل الخلاعية الثقافية كما سلف ذكرها؟


أفول القيم
سوف أنتقي من بين المساهمات التي أشرت اليها أعلاه، أي ما يتعلق بأفول القيم، مادة قدمها جاك دريدا وأخرى بيتر سلوتردايك، كونهما تتقاطعان مع النقاشات الراهنة حول أزمة القيم الإنسانية التي تتآكل، ليس بفعل فيروس كورونا، فهذه الجائحة مجرد منبه لتعرية التآكل القيمي، بل بسبب هيمنة الاستهلاك على المعنى في الوجود الإنساني المفكك إلى فردانيات مبرمجة.
كعادته، قدم دريدا إطلالة حول العولمة والعالم، قبل وصوله إلى السؤال الذي كان يجب أن يبدأ به، أي لماذا علينا إعادة النظر في العالم الذي أفرزته عملية العولمة، والتي يقاربها بـ العالم الإبراهيمي المتعلق بالديانات التوحيدية، التي تفترض نوعا من الأخوة الجامعة بين البشرية ككل. ويجد أن مهمة الفيلسوف ـ وفقا لوصفه ـ هي المجاهرة بإيمانه في جعل الكونية الفعلية ممكنة. ولذلك يدعو إلى "عولمة الغفران". إنه اللاهوت الذي يتسرب في الوقت الذي عليه أن يغيب.

بيتر سلوتردايك 


















أما الفيلسوف الألماني سلوتردايك، فإنه يستقي من القديس أوغسطين فكرته حول خطيئة "التحول إلى الذات" والتي اعتبرها أوغسطين سببا في الانقطاع عن الآخر. ومن خلال فكرة الخطيئة، يدعو سلوتردايك إلى تحرير شيطاني للإنسان، ويطالب المثقف بأن يكون محامي الشيطان في هذه المهمة من أجل خلق مسافة للأنوية الإنسانية داخل المجانسة التي تفرضها العولمة.
 


لا شك في أن بعض عناصر العولمة ـ شحن بضائع، وسياحة، وشركات عابرة ـ ساهمت في جعل كورونا معولمةً كجائحة. وكشفت معها خطيئة الانقطاع عن الآخر بفعل الجشع الذي كرسته الحداثة في المجتمعات الاستهلاكية. لكن لن تؤدي هذه الجائحة إلى عولمة الغفران للوصول إلى أخوة كونية كما زعم دريدا.
لن تتأخر المفارقة في التمفصل في كل شيء. ستطفو بعض الأفكار المتعلقة بالتضامن التي دعا إليها حتى شخص ما ورائي القيم مثل ترامب، وذلك بالتزامن مع الأخبار التي نشرتها الصحف الفرنسية، حول المضاربة التي قامت بها أميركا لشراء شحنة أقنعة ومعقمات صينية كانت متوجهة إلى فرنسا. وأعقبها بيان عن وزارة الخارجية الإسبانية حول قرصنة تركيا لشحنة أدوات طبية صينية، كانت متوجهة إلى إسبانيا.
إذاً ما هو الحل؟ ينبري زيغموند باومان في مؤلفه "الأخلاق في زمن الحداثة السائلة" لاقتراح حل أقرب إلى الأفكار السابقة، وذلك من خلال فكرة "حب الذات" التي لا تكون إلا عبر وجود الآخر. أي مرة أخرى، استلهام فكرة هيغل حول الخروج من الذات من أجل وجودها "ظاهراتية الروح". لكن باومان يعتقد بأن وجود الآخر هو الذي يضفي المعنى على وجود الذات. وبذلك لا يكون الحب ممكنا إلا عبر الاكتراث العميق الذي يوليه الآخر لوجودي.
غير أنه في العصر الرقمي، يمكن باستمرار ايجاد بديل للآخر.


ولا توجد مسافة حقيقية. ثمة ألعاب تحبس الناس كالروبوتات المقيدة إلى الموبايلات. وقدرة النظام على تطعيم البشر بالميكانيزمات الآلية قد يعتقد البعض أنها تعود تحليليا إلى فوكو ومفهومه حول الضبط العضوي، إلا أن آريك فروم في مؤلفه "تشريح التدميرية البشرية" كان قد سبقه في ذلك، من خلال مقاربته حول الإنسان الآلي الذي أفرزته البيروقراطية الصلبة للنازية. هذه الحالة الروبوتية، القائمة في السلوك البشري المعاصر، والذي تهيمن عليه السلطة الكونية للاقتصاد الرقمي، والشركات العابرة، قامت بإنتاج أفراد بلا استجابة قيمية. إنهم بلا مناعة، لذلك هم ضحايا للتحديث المتعلق بنظام السخرة الجديد.
واللوغاريتم الذي يقوم بفرز المواد الأكثر تفضيلا على اليوتيوب يبشر بديانة كونية من التفاهة. وإلى جانب ما يفرزه الاقتصاد الرقمي من تلوث إشعاعي يجب أن نقوم بلفتة خاطفة على مصادر المواد الخام التي تزود المعامل في الدول الصناعية حيث تظهر المفارقة في الحب بكل فجاجتها، إذ تمشي السيارة الكهربائية في الشوارع الأوروبية، بعد أن تكون قد دمّرت النظام البيئي في الدول الفقيرة المنتجة لمادة الليثيوم، أو العبودية التي تقوم الشركات الصناعية الكبرى بتحديث نسخها المتوافقة مع منافعها في دول الملاجئ الضريبية واليد العاملة بالسُخرة.
الحَجر فرصة تأملية، أكثر من كونه مشروعا لمقاومة قيمية ضد العالم الجديد. وهول التداعيات الاقتصادية المتوقعة سيرمي بنا على الحواف الملساء لخسارتنا الإنسانية الحاصلة أساسا.