Print
كمال عبد اللطيف

فلسطين في الثقافة المغربية

7 يونيو 2020
آراء
عندما أحييت ذكرى الأربعين لمدينة عكّا

أجهشتُ في البكاء على غرناطة

وعندما التفَّ حبل المشنقة حول عنقي

كرهت أعدائي كثيرًا

لأنهم سرقوا ربطة عنقي!

محمود درويش

يصعب الإحاطة بمختلف مظاهر وتجليات المسألة الفلسطينية في الثقافة المغربية، فقد كانت منذ بداياتها في نهاية النصف الأول من القرن الماضي 1948، قضية مركزية في المشهد السياسي المغربي. وفي صور التفاعل المعبَّرِ عنها في فكر وممارسة طلائع الوطنيين المغاربة، ما يكشف أواصر الحِسّ التضامني مع القضية في تاريخ المغرب المعاصر. ولأن المسألة الفلسطينية تندرج في سياق حركات التحرر العربي والعالمي، فقد انخرط الفلسطينيون في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وجَسَّدُوا بنضالهم ومقاومتهم ملاحم وبطولات عكست من جهة تضحياتهم الكبيرة، كما كشفت أشكالَ العنف والإرهاب الذي مورس ضدهم من طرف الغزاة المستوطنين.
لم يكتف الفلسطينيون بالمقاومة السياسية، بل انخرطوا في حروب كبرى غير متكافئة مع الآلة العسكرية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، المسنودين بالسياسات الاستعمارية الغربية. نحن نشير هنا إلى حروب 1948 وإلى العدوان الثلاثي سنة 1956 وحرب يونيو سنة 1967، دون إغفال معارك الاستنزاف والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والمتواصلة طيلة عقود القرن الماضي وإلى يومنا هذا. ودون أن نغفل أيضًا، الإشارة إلى حدود ومحدودية سقف الإسناد الفعلي العربي للمعارك والحروب التي انتهت بالهزائم.
عزَّز الفلسطينيون مقاومتهم وانتفاضاتهم ضد العنصرية الإسرائيلية وسياستها العدوانية، وذلك  ببناءِ ثقافةٍ مناضلة رسمت لمختلف أوجه تضحياتهم، الصُّوَر التي تجسدها وترسخ ملامحها في الذاكرة والوجدان. ولأن معركتهم مع إسرائيل كانت معركة شاملة، معركة أرض وهوية وتاريخ ومستقبل، فقد شَيَّدَ مبدعوهم آثارًا فنية تُعَدُّ خيرَ شاهدٍ على درجات معاناتهم، وتصنع لمعاركهم الأناشيدَ والكلمات الحافظة لتاريخ ما فتئوا يخوضونه بكثير من الجدارة التاريخية، رغم كل الهزائم والانكسارات. وقد نتج عن ذلك، ميراث رمزي عكس بكثير من العنفوان، الملحمة النضالية لشعبٍ شاهَدَ العالم أجمع عمليات اغتصابِ أَرضهِ وتاريخهِ ومآثره الرمزية.
أصبح للمسألة الفلسطينية حضور إبداعي يضاهي في قوته كثيرًا من مظاهر حضورها السياسي والتاريخي، نتبين ذلك في الآثار الثقافية والفنية العديدة، التي احتضنتها الثقافة المغربية بكثير من التفاعل الوجداني المبدع، منذ أربعينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا. وعندما نتوقف على سبيل المثال أمام ديوان الشعر الفلسطيني المعاصر، ونقوم بحصر وتَعْدَاد بعض منجزاته في مجال إحاطته بقضيته وترجمته لتطلعاتها، ندرك أهمية الدور الذي لعبه الإبداع الفلسطيني ثم الإبداع المغربي ضمن دائرة الإبداع العربي، في باب عدم التفريط في الهوية الفلسطينية والمشروع الوطني.
يمكن أن نشير في السياق نفسه، إلى استحالة فصل حركة التحرر الفلسطينية عن تمظهراتها الرمزية في الثقافة والأدب والتشكيل والسينما، ومختلف مظاهر الثقافة الشعبية الفلسطينية. وإذا كان من المؤكد أن القضية تتعلق بأرض مُغْتَصَبَةٍ، فإن من المؤكد أيضًا، أنها قضية شعب وهوية، ومن هنا أهمية الكلمات والرموز والمواقف والأفعال، التي تصنع لها ما يرسخ علاماتها، ويُغذّي الوجدان بِصُوَّرِها. وضمن هذا الإطار، ركَّبَ مبدعو الثقافة الفلسطينية في العقل والوجدان الفلسطيني والعربي، ما مَكَّن ويُمَكِّن من استحضار كثير من الأبعاد التاريخية العميقة لملحمة النضال الفلسطيني.


تستحضر الثقافة المغربية معارك الشعب الفلسطيني مع إسرائيل، ومع من يقف وراء مشروعها الاستيطاني، تستحضره في القصيدة الفلسطينية من فدوى طوقان إلى محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وعز الدين المناصرة.. ويُتيح لنا ديوان الشعر الفلسطيني بمختلف ألوانه وإيقاعاته، ما يُمكِّنُنا من ملامسة بصمات الهوية الفلسطينية ومعاينة بطش الغزاة، والتطلع في الآن نفسه إلى إنهاء مسلسل الاستيطان المتواصل منذ عقود أمامهم وأمام العالم، أي التطلع إلى بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
ينطبق هذا الأمر على مختلف تجليات الإبداع والثقافة الفلسطينية، وندرك في ضوء ذلك قوةَ وأهميةَ البعد الثقافي والإبداعي في مسألة المصير الفلسطيني، وخاصة عندما نُعَايِن ثِمَارَ تفاعلِهِ على سبيل المثال مع الثقافة المغربية، حيث عكس التفاعل المذكور، كثيرًا من أوجه الإبداع في ثقافتنا المعاصرة، نتبيَّن ذلك في صُوَّر انخراط أجيال من المثقفين والكتاب المغاربة،  في متابعة تحوُّلات القضية طيلة عقود القرن الماضي، كما ندرك أماراته في عمليات تبلور رصيدٍ ثقافي إبداعي مَشدودٍ إلى القضية الفلسطينية، في مختلف أبعادها وفي مختلف ما يعتري مسارها من تحوُّلات.
ولو شئنا أن نرسم للمسألة الفلسطينية صورة مختزلة في الثقافة المغربية، لقلنا إنها قضية تحرير وطن، وإن مسارها النضالي يعكس روحًا مقاومةً، كما يعكس كثيرًا من الإخفاقات والانكسارات، ويضعنا في النهاية أمام أفعال في المقاومة أسطورية. صحيح أن المسألة ارتبطت منذ نشأتها بمعطيات تاريخية تَشْرِطُها موازينُ قوى غير متكافئة، نحن هنا نشير إلى مقتضيات الزمن الإمبريالي، وتكالُب الغرب الأوروبي على تركة الدولة العثمانية ودون إغفال علاقات ذلك بتطوُّر المسألة اليهودية في الغرب الأوروبي. إلا أن كل ما حصل بالأمس ويحصل اليوم، يخضع لمنطق التاريخ ويُفهم في سياقاته.
كانت الثقافة المغربية وما تزال معنية بالمسألة باعتبارها قضية مركزية في خطاب النخب السياسية، وعنوان ملحمةٍ كبرى في التاريخ المعاصر، كما يعبر عن ذلك المثقفون والمبدعون المغاربة، إلا أنه ينبغي أن نشير هنا إلى التحولات الجديدة التي طرأت على المسألة في العقود الأخيرة، وخاصة بعد اتفاقية أوسلو وما ترتَّب عليها من نتائج، حيث يعاين المهتمون بالقضية في أبعادها السياسية، الملامح الكبرى لبدايات تحولِ في الوعي الفلسطيني بالقضية، سواء في الأرض المحتلة أو في ثقافة اللاجئين من فلسطينيي الشَّتات، أو في ثقافة بقايا فصائل التحرر العربية.. حيث تبلورت شعارات جديدة، وتَمَّ السكوت عن جملة من القضايا التي كانت إلى عهد قريب جزءًا من مساراتها وخياراتها..
ولأن الوعي المغربي بالقضية الفلسطينية، كان دائمًا متصلًا بالمنعطفات الكبرى في معاركها وتطوراتها، فقد ترتَّبت على اتفاقيات السلام جملة من المعطيات التي دفعت إلى بدايات تشكل ملامح هذا الوعي الجديد بالمسألة وآفاقها. كما أن تناقضات وصراعات القوى الفلسطينية بعد اتفاقيات السلام، صنعت وما فتئت تصنع وترسخ مؤشرات تتجه للتفكير بطريقة أخرى في القضية ومستقبلها. ينطبق الأمر نفسه، على الانتفاضات الفلسطينية الأخيرة في غزة - رغم كل ما يحيط بها من صور الصراع الإقليمي والدولي في المشرق العربي- إلا أنها استطاعت أن تجعل الوعي المغربي، يستعيد جوانب من الصوَّر الملحمية الصانعة لكثير من أوجه النضال الفلسطيني، المتواصلة رغم عنف وجبروت المستوطنين، مشروع التحرر والتحرير، مشروع الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس.
لم يستطع الوعي المغربي في موضوع القضية الفلسطينية، أن يبتعد عن أشكال تطور القضية في سياقاتها المحلية والإقليمية والقومية والدولية. وإذا كان بإمكاننا أن نُعَدِّدَ انطلاقًا من راهن الأوضاع الفلسطينية، مجموعة من المؤشرات التي تنبئ بعلامة تحول مؤكد في الوعي الفلسطيني، فإنه يمكننا أن نتحدث أيضًا عن تلوينات عديدة، صانعة لصور تحول الوعي المغربي بالقضية وآفاقها. ولا نرى في هذا الأمر أكثر من مُعْطَى تاريخي تستوجبه تحولات قضية كبرى في التاريخ، قضية كانت وما تزال عنوانًا لصور العنف والاغتصاب كما تحصل في التاريخ، مثلما أنها كانت وستظل علامة قوية في سجلاَّت حركات التحرر العربية والعالمية.