Print
سمير رمان

"السيزيوم" النفيس.. معركة الجيل الخامس للاتصالات بين أميركا والصين

31 يوليه 2020
آراء
بدت معركة واشنطن ضد شركة الاتصالات الصينية العملاقة Huawei هامشية، لكنّها، في حقيقة الأمر، معركة حيوية جدًا، تأخرت في خوضها الولايات المتحدة الأميركية للحاق بركب الصراع على المعادن الحيوية، مثل السيزيوم النفيس.
بعد تفشي فيروس كوفيد - 19، بدأت أسعار النفط تتراجع، على الرغم من اتفاق OPEC+ (بين منظمة أوبك وروسيا)، الذي وضع نهاية لحرب النفط. وفي الآن ذاته، لم تعد المعادن الثمينة الملاذ الآمن للمستثمرين. وعلى الرغم من الارتفاعات المتواترة لأسعار الذهب، فإنها لا تزال دون طموح المستثمرين الباحثين عن ملاذاتٍ آمنة لأموالهم.
في هذه الظروف، أصبحت المعادن الأخرى النادرة بمثابة الكأس المقدّسة، التي ستسعى الاستثمارات للعثور عليها. ولهذا سيشهد العالم صعود نجم المعادن الهامّة والحيوية بالنسبة لعالم التفوق التكنولوجي. وعندما ينجلي غبار جائحة الفيروس التاجي عن العالم، ستستمر معركة الهيمنة العالمية بحدّة لم يسبق لها مثيل، مدفوعةً بمصالح الأمن القومي.
ولعلّ أحد أكثر هذه المعادن أهمية، وندرة، في الوقت نفسه، هو معدن السيزيوم، الذي يعتبر مهمًا للغاية بالنسبة لطموحات الولايات المتحدة التي تسعى بكلّ ما أوتيت من قوةٍ لتخرج منتصرةً في السباق على 5G(*).

هواوي باعت 7 ملايين جهاز هاتف محمول من الجيل الخامس حتى ديسمبر الماضي (Getty)

الغريب هنا هو حقيقة أنّ الولايات المتحدة لا تمتلك حتى الآن منجمًا واحدًا يمكنّها الوصول بسهولة إلى ذاك المعدن الذي تقوم عليه ثورة تكنولوجيا الاتصالات الخليوية من الجيل الخامس. وهذه الحقيقة تجعل من إحدى شركات التنقيب الصغيرة Power Metals واحدةً من

الشركات المحتملة الأكثر أهمية لتصعد من بين الخراب الذي تسبب فيه كوفيد – 19. وتعود أهمية هذا المنجم إلى كونه المنجم الوحيد الخارج، حتى اليوم، عن سيطرة الصين. ففي شهر آب/ أغسطس عام 2018، وبينما كان يتم التنقيب عن معدن الليثيوم، اكتشفت Power Metals نوعًا من الغرانيت في منطقة West Joe Dyke، يحتوي على معدن السيزيوم ذي النوعية الممتازة في ستٍّ من حفر التنقيب التي قامت بحفرها.



السيزيوم وجائحة كورونا
تأتي أهمية السيزيوم من كون تطبيقاته هامّة للغاية للمستقبل القريب، بما في ذلك التقنيات المتقدّمة في مجال الرعاية الصحية، والصناعات الدفاعية، وبالطبع في ثورة الجيل الخامس.
بالنسبة لصناعة الرعاية الصحية، يعدُّ السيزيوم ضرورةً حيوية في الصناعات الاستراتيجية

الكيماوية العضوية، ومن ضمنها الأشعة السينية لمعالجة مرض السرطان، وفي مجال الصناعات النفطية، وصناعة الغاز، حيث يتمتّع السيزيوم بأهميةٍ فائقة لسوائل التنقيب التي تمنع الانفجار في الآبار ذات الحرارة والضغط العاليين.
واستخدامات السيزيوم كثيرة ومتنوعة بالنسبة لكثيرٍ من التطبيقات التجارية والصناعية، بدءًا من مكونات الخلايا الكهرو- ضوئية، والعدسات المكبرة، ومسرعات التحفيز، وانتهاءً بزجاج الكريستال المستخدم في العدادات الومضية، والـ getters(**) في الأنابيب المفرّغة.
وبالنسبة لمسألة الهيمنة على العالم، فإنّ كلّ شيءٍ يتعلق بالوقت، وبتطور تقنيات الجيل الخامس. ويسمح لنا "معيار السيزيوم" بقياس الزمن بدقّةٍ متناهية، وهذا يعني أنّه المفتاح السحري لشبكات الهاتف الجوال، والإنترنت، ونظام تحديد المواقع، وبهذا لا يمكن كسب معركة 5G العالمية من دون امتلاك السيزيوم.
بالنسبة للشخص المتوسط، لديه، فقط، فهمٌ أوليّ لما تعنيه شبكة الجيل الخامس، ويعرف بشكلٍ مبسّط كيف يمكن أن تغيّر هذه الشبكة ميزان القوى في العالم. غير أنّ كثيرين لا يعرفون أنّ 5G لا يمكنها أن تعمل بدون السيزيوم. وستقوم تقنيات ثورة الجيل الخامس هذه بنقل المعلومات وتصحيح الوقت بسرعة فائقة وبدقّة كافية لتحويل الصناعات والانتقال بها على مستويات أعلى. وبكلماتٍ أُخرى، ستتحكم تقنيات الجيل الخامس في العالم، لأنها تستطيع خلق زمن اتصالٍ حقيقي ودائم لكلّ جهازٍ يُخترع على أساس هذه التقنية.

مكانة معدن سيزيوم في جدول العناصر الدوري (Getty)

وبهذا، فإنّ الساحة التي ستشهد المعركة للتفوق في الجيل الخامس هي نفسها الساحة التي ستدور عليها معركة الاستحواذ على معدن السيزيوم، التي تحقق فيها الصين انتصارًا ساحقًا حتى الآن على الأرض.



مشكلة الصين
بعد انقشاع غيوم الوباء، لن يكون العالم على الأرجح أكثر توحّدًا، ولن يرى هذا العالم في التعاون الطريق الأفضل للمضي قُدمًا إلى أمام. وعلى الغالب، ستتبع الصين سياساتٍ تركّز أكثر من أيّ وقتٍ مضى على مسألة أمنها القومي.
وعندما رفضت الولايات المتحدة التماهي مع الخطط الصينية التي تقودها هواوي للهيمنة على

5G، كانت شبكة الاتصالات في البلاد، وفي ألمانيا وفرنسا، على وشك إبرام صفقات مماثلة. صحيح أنّ تفشي كورونا لعب دورًا هامًّا في عرقلة الزحف الصيني في أوروبا، ومنح الولايات المتحدة وكندا بعض الوقت، إلا أنّ أميركا الشمالية لا تزال تعاني من مشكلةٍ رئيسية مع السيزيوم يتوجب عليها التعامل معها بسرعة قبل أن يفوتها القطار.
من جانبها، تدرك بكين جيدًا القوة التي تمتلكها، من خلال احتكارها وتحكمها بالمعادن الهامّة، التي لا غنى عنها في عالم ثورة 5G. أمّا الولايات المتحدة، فلم تدرج معدن السيزيوم على لائحة المعادن الحرجة إلا في عام 2018، وذلك على الرغم من إدراكها ومعرفتها بالدور الحاسم الذي يلعبه هذا المعدن في ثورة الجيل الخامس، وهي الثورة التي ستخلق منتجات ثورية جديدة، تقدّر قيمتها بتريليونات الدولارات.
ومع أنّ معدن السيزيوم معدن استراتيجي فائق الأهمية، فإنّ عدد مناجم استخراجه في العالم لا تتعدى الثلاثة هي: منجم (تانكو- Tanco) في مقاطعة مانيتوبا الكندية، ومنجم (بيتيكا- Bitika) في زيمبابوي، ومنجم (سينكلير- Sinclair) في أستراليا. اثنان من هذه المناجم، تانكو وبيتيكا، لم يعودا منتجين، وتسيطر الصين بدرجةٍ كبيرة على مخزون المعدن في منجمي تانكو وسينكلير.
لا يقتصر الأمر على محدودية العرض، ولكنّ عدد الشركات العاملة في سلسلة توريد المعدن محدودة هي الأخرى على مستوى العالم. ومن هنا تأتي أهمية شركة Power Metals التي يتوقع أن تصبح، في اللحظة الحاسمة من ثورة 5G، موردًا رئيسيًا لمعدن السيزيوم في أميركا الشمالية. وفي حين تعتبر شركة ميتال باور شركةً معروفة جيدًا في مجال التنقيب عن معدن الليثيوم في كندا، فإنّها تأمل أن تغدو، في القريب العاجل، هي تلك الشركة التي تخرق احتكار الصين لهذا المعدن البالغ الأهميّة. وتقبع شركة باور ميتال على منجمٍ قد يصبح الموقع الرابع فقط من نوعه على مستوى العالم كلّه، مع تملّكها 100% من موقع بحيرة case في مقاطعة أونتاريو، حيث اكتشفت مؤخرًا السيزيوم عالي الجودة. وفي شهر آب/ أغسطس عام 2018، وبينما كان يتم التنقيب عن معدن الليثيوم، اكتشفت Power Metals نوعًا من الغرانيت في منطقة West Joe Dyke، يحتوي على معدن السيزيوم ذي النوعية الممتازة في ستٍّ من حفر التنقيب التي قامت بحفرها. وفي شهر شباط/ فبراير عام 2020، وقبل أن يتحوّل كوفيد - 19 إلى وباء، بدأت شركة باور ميتال عمليات الحفر. ويقول عالم الجيولوجيا المشهور د.جولي سيلواي إنّه يأمل أن تحقق المناجم الثلاثة التي تحفرها الشركة اكتشافاتٍ مماثلة لمنجم سينكلير الموجود في أستراليا.
ومن الواضح أنّ الولايات المتحدة ستواصل بذل كلّ جهدٍ ممكن لتتمكّن من كسر الاحتكار الصيني لمعدن السيزيوم. فهي معركة حاسمة في الصراع المستعر للهيمنة على العالم.



هوامش:
(*) 5G: الجيل الخامس من شبكات الاتصال الخليوية ذات السرعات الفائقة (10 - 100 ضعف السرعات الحالية). وإلى جانب السرعات العالية، ستوفر هذه التكنولوجيا دقّة أكبر، وأماناً أكثر موثوقية. وستوفر للعالم ما يسمّى (إنترنت الأشياء)، والمدن الذكية، حيث تربط جميع خدمات الشبكة الكهربائية والمرور والطوارئ لضمان أعلى درجات الكفاءة.
(**) getters: مستوعب للمواد التفاعلية التي توضع داخل نظام التفريغ بهدف إتمام والمحافظة على الفراغ في الأنبوب (الأنبوب المفرّغ من الهواء). ويعمل الـgetters على إزالة أدنى كميات من الغاز من المكان المراد تفريغه.