Print
حسام أبو حامد

العنصرية.. المسكوت عنه في الخطاب السياسي

7 يوليه 2020
آراء
تحوّل الخطاب الشهير لمارتن لوثر كينغ، الذي ألقاه في 28 آب/ أغسطس 1963، إلى أيقونة ألهبت حلم البشرية برؤية مستقبل خالٍ من العنصرية والتمييز العنصري. أما مقتل الزعيم الأميركي من أصول أفريقية، صاحب نداء "لديَّ حلم"، فعبّر عن أن العنصرية ما زالت تقاوم، وتعيد إنتاج نفسها بصيغ ربما أشد شراسة. لكن الحرية أيضًا لا تزال تتوق لكسب المعركة.

لم تتوقف الخطابات البليغة ضد العنصرية، وتحولت "لا أستطيع التنفس"، العبارة التي أطلقها جورج فلويد، إلى أيقونة جديدة تؤكد أن "المعركة على جبهة التمييز العنصري حقيقية ومصيرية"، وفق تعبير المفكر العربي، عزمي بشارة، في مقالته: ملاحظات في سياق انتفاضة "حياة السود مهمة" (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 18 حزيران/ يونيو 2020)، والتي تناول فيها موجز تاريخ الاختناق من أميركا إلى فلسطين، متوقعًا أن يمنحها مقتل فلويد شرارة من شأنها أن تشعل انتفاضة في عصرنا الحديث، مع استكمال عناصر نشوبها، ممثلة بشريط فيديو يوثّق مقتل فلويد حتى لحظة لفظ أنفاسه الأخيرة، وتفاقم عنف الشرطة ضد السود، ووجود رئيس يتراكم الاحتقان ضد عنصريته المعلنة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة بعد وباء كورونا، مرجحًا أن تتوسع المعركة لتأخذ أبعادًا جديدة لن تفوّت معها حركة "حياة السود مهمة" (تأسست عام 2013 على خلفية تبرئة محكمة أميركية لحارس الأحياء السكنية الأميركي، جورج زيمرمان، في قضية مقتل الفتى الأميركي ذي الأصل الأفريقي، ترايفون مارتين)، وغيرها من حركات الحقوق المدنية والديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية، وفتح ملف العنف البوليسي ضد الأميركيين من أصل أفريقي، وأن تلهم المكافحين ضد العنصرية في مناطق أخرى من العالم.

 

العنصرية: ما تحت قشرة الحداثة
حذر الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، من الانخداع بالخطاب السياسي الغربي الذي يتشدق بالحرية، وحقوق الإنسان، والتقدم، والعقلانية، والنزعة الإنسانية، وغيرها من الشعارات التي

قام عليها خطاب الحداثة الغربية، وأن الحكم ينبغي ألا يكون من خلال ما قاله هذا الخطاب، بل من خلال ما سكت عنه. لذلك يدعو فوكو إلى العصيان كي تمتلك الذات الحق في مساءلة الحقيقة حول آثارها السلطوية. إنه عصيان واع خاضع للتفكير والتدبر يَحُول دون أن تخضع الذات للعبة "سياسة الحقيقة". يحاول فوكو القبض على "المعيار" الذي وضعته السلطة لتبرير مشروعيتها وأعمالها، بما في ذلك الأعمال التي تتسم بنوع من الهمجية، والعنصرية، والقمع، تفرض من خلالها تمييزًا ما بين السوي والشاذ، وما بين النافع والضار، وما بين المقبول وغير المقبول؛ المعقول وغير المعقول.. تمنح من خلاله نفسها الحق في تصنيف أفراد المجتمع، وإقصاء المرضى، والمجانين، والمجرمين، والشواذ، وكل من/ ما لا يتفق مع عقلانية الدولة الحديثة، وحجرهم وعقابهم. فخلافًا لما يعتقد كثير من المفكّرين، أنصار الحداثة، الذين يشيدون بالدولة الحديثة دولةً مدنيةً تجسّد دولة القانون والحق، تغيب معها العديد من مظاهر وممارسات القمع والتسلط والاستعباد التي نجدها في المجتمعات القديمة، يرى فوكو أن الدولة الحديثة دولة عنصرية بامتياز، سواء كانت اشتراكية، أم رأسمالية، أم غير ذلك.
حدث ذلك مع تخلي الدولة في الغرب عن سلطتها التقليدية (سلطة السيادة)، حيث أحلّت محلها السلطة الحيوية، بعد أن كان حق الحياة والموت في النظرية الكلاسيكية للسيادة من الحقوق الأساسية التي منحت العاهل الحق في أن يميت، أو أن يمنح الحياة (لا يمارس العاهل هذا الحق بشكل متوازن، فهو إلى جانب الموت دائمًا). وحدثت إحدى التحولات الكبرى للقانون السياسي في القرن التاسع عشر بإحلال منطوق قانون جديد لا يمحو الأول، بل يخترقه ويحوله ويعدله. وبعد أن كان حق السيادة هو في الإماتة والإحياء، أصبح القانون "الحق في الإحياء والإماتة". فمنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر ستظهر تكنولوجيا جديدة للسلطة ليست انضباطية هذه المرّة، مع أنها لا تنفيها، بل تدمجها وتعدلها جزئيًا وتستعملها، وبدل أن يحاول الانضباط التحكم وإدارة تعدد الناس، باعتبار هذه التعددية يجب أن تحل في الجسد الفردي المراقب والمروّض والمعاقب، تتجه التكنولوجيا الجديدة الى تعدد الناس لا بوصفهم أجسادًا، بل من حيث يشكّلون مجموعة كلية تتأثر بعمليات جماعية تخص حياتهم؛ كالولادة والوفيات والإنتاج والمرض. فمحور اهتمام السياسة الحيوية هو التوقعات والتقديرات الإحصائية، والقياسات العامة، وتعديل تلك الظواهر العامة لا الفردية، من ذلك: خفض الوفيات، وإطالة الأعمار، وتنشيط الولادات. هنا لا يتم التركيز على الجسد الفرد، كما في الانضباطيات التقليدية، بل على الفرد من خلال آليات عامة تنظيمية لا انضباطية. ولكن هدف السلطة الحيوية، المترافقة مع الرأسمالية الساعية وراء الإنتاج (تسعى اليوم وراء الاستهلاك)، هو إحياء الإنسان لا تركه يموت، فليس لدى السلطة الحيوية سوى حق التدخل في الحياة لتنظيمها، وليس لها حق الإماتة. إنها سلطة على الأحياء، إذ أن الموت يعني نهاية هذه السلطة، فوقع الموت خارج نطاقها، لتتعامل معه بشكل إحصائي، فليس المهم الموت، بل عدد من يموتون.
لكن ما الذي حدث؟ يذهب فوكو إلى أن المفارقات بدأت بالظهور عندما أصبحت هذه السلطة ذرّية، وبعد أن أصبح الخط الأساسي لتكنولوجيا السلطة منذ القرن التاسع عشر حق القتل، بعد تعلّقه أساسًا بتحسين الحياة. وبدأ ممارسة وظيفة الموت، على الأعداء والمواطنين على حد سواء في نظام سياسي مرتكز على السلطة الحيوية التي كان عليها لاستعادة الحق السيادي القديم في القتل أن تمرّ عبر العنصرية.



العنصرية الحديثة
في دروسه التي ألقيت في الكوليج دي فرانس (ترجمها وقدمها وعلق عليها الزواوي بغورة، تحت عنوان "يجب الدفاع عن المجتمع: دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة 1976"،

بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2003)، يبين فوكو أن كون الدولة الحديثة عنصرية بامتياز لا يعني أن العنصرية تم اختراعها معها، لكن تم تثبيت العنصرية في آليات هذه الدولة، وعبر سلطتها الحيوية لتصبح آليتها الأساسية. وتكمن المفارقة، في رأي فوكو، أنه في الوقت الذي تعمل فيه السلطة الحيوية على تحسين الحياة، والحفاظ عليها، فإنها تمارس وتبرر عمليات القتل والتهميش والاستبعاد، وأصبحت العنصرية وسيلة هذه الدولة الحديثة لإحداث قطيعة بين ما/ من يجب أن يحيا وما/ من يجب أن يموت. اقتضى ذلك تقسيم السكّان إلى مجموعات سكاّنية صغيرة مرتبة ومصنفة بحسب العرق، لتحوز بعض الأعراق على الجودة، وتحوز أخرى على الدونية. بتجزئة الحقل البيولوجي للسكان، تمّت عمليات النقل والتغيير في تركيبتهم، وأقيمت علاقة إيجابية مع النمط "إذا أردت أن تحيا فعليك أن تميت وتقتل"، بدل النمط القديم "من أجل أن تحيا عليك أن تقضي على أعدائك" والذي كيّفته الدولة الحديثة مع ممارساتها، ليتخلى النمط "إذا أردت أن تحيا يجب على الآخر أن يموت" عن طابعه الحربي، فالعلاقة هنا بين "حياتي أنا"، و "موت الآخر"، لم تعد من طبيعة عسكرية، بل من طبيعة بيولوجية (حيوية). فموت الآخر، والعرق السيء والدنيء أو الأسفل، هو ما يجعل الحياة أكثر طهارة ونقاء. فلم يعد الخطر سياسيًا، بل تمثل في الخطر الخارجي والداخلي للسكّان. فحق الإماتة وشرط الموت المطلوب في نظام السلطة التقليدي، المستند على إرادة العاهل أو الملك، ليس مطلوبًا في نظام السلطة الحيوية عند النصر على الخصوم السياسيين، بل يمتد إلى القضاء على النوع ذاته، أو على العرق.

جدارية في لندن تمثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس (17/6/2020/Getty) 

السلطة الحيوية حسب فوكو ستتطور مع تطور الاستعمار والإبادة الاستعمارية، حين اقتضى الأمر إبادة الشعوب والحضارات، ولم يكن تبرير ذلك ممكنًا لولا نمط السلطة الحيوية. واستغلت نظرية التطور استغلالًا سياسيًا، فكانت المفاهيم التي قامت عليها هذه النظرية نحو: البقاء للأقوى والانتخاب الطبيعي... هي نفس المفاهيم التي يقوم عليها هذا الخطاب العنصري

للسلطة، لتتحول هذه النظرية خطابًا سياسيًا بثوب علمي. العنصرية الحديثة أكثر خطورة من العنصرية التقليدية التي كانت تبرر قتل الأعراق الأخرى بوصفها عدوًا سياسيًا، لأن العنصرية المرافقة للسلطة الحيوية اتجهت للحفاظ على الذات الفردية، وليس الحفاظ على عرق بعينه، مما يجعل من عمليات القتل تتوسع لتشمل أفراد العرق الواحد الذين يشكّلون خطرًا على الذات، وبقائها واستقلالها لتكون الضحايا بالملايين. فالحرب حسب فوكو في القرن التاسع عشر لم تكن فقط طريقة لتقوية عرقها الخاص بالقضاء على العرق المقابل، أو الخصم، ولكن أيضًا لتنقية العرق الخاص، فكلما كانت الأعداد التي تموت ضمن هذا العرق كبيرة كلما كان العرق أكثر صفاء وطهارة.
من جهته، يضع بشارة العنصرية، كأيديولوجيا واعتقاد، في سياقها التاريخي العام، والأميركي الخاص، الذي تقاطعت خلاله مع الاستعمار والعبودية في تفاعلها منذ نشأتها، مع نزعة إضفاء صفات وراثية على الفوارق الطبقية بين العائلات الأرستقراطية وعامة الناس في البلدان المستعمِرة. ويبين كيف أن التبرير العلمي الزائف لفكرة الأعراق قد أسس للأيديولوجيات العنصرية في عصر العلمنة والعقلانية. مع ذلك، لم تكن فكرة الأعراق مصدرًا للعنصرية ثقافيًا واجتماعيًا، فقد كان الموقف السلبي المتضمن للآراء المسبقة عن جماعات بشرية كاملة قائمًا في ثقافة المستعمِرين منذ ما قبل اكتشاف أميركا، وقد عرفت الحضارات القديمة الخوف من الآخر، وحاولت إخضاعه، وتبرير ذلك في حال تفوقت عليه تنظيميًا وتقنيًا وعسكريًا، بالتفوق عليه من جهة، ودونيته من جهة أخرى، مع ربط التفوق والدونية بالاختلافات في المظهر الخارجي، أو بالفوارق الثقافية والدينية (حدث أن دمرت حضارات أقل تطورًا حضارات سبقتها في سلم التطور)، كما أن عبودية المهزوم بعد إخضاعه هي سابقة على العنصرية الحديثة المرتبطة بفكرة صعود عرق أكثر تطورًا من عرق آخر.
يضيف بشارة أن العنصرية كُرّست في عصر النهضة مع الموقف السلبي الديني من الآخر بسبب الاختلاف في العقيدة الدينية، الذي تحوّل إلى موقف معلل بصفات ثابتة فيه لا تتغير بتغير العقيدة والدين، بدافع التشكيك باليهود والمسلمين المتحوّلين إلى المسيحية، بعد طرد أبناء ملتهم من شبه الجزيرة الإيبيرية عقب حرب الاسترداد، ونفيت صفة الإنسانية عن سكان أميركا الأصليين بعد اكتشاف تلك القارة بذريعة أنهم لم يُذْكَروا في سفر التكوين. أما الجوهرانية، أو النظر إلى الجماعات البشرية بمنح الأفراد المنتمين لها صفات جوهرية تجمع بينهم، فوجدت تنظيرها مع فلاسفة التنوير؛ فوجد لوك أن استعباد المهزومين في "حرب عادلة" بدل قتلهم مقايضة عادلة. وقد شهد القرن التاسع عشر نزعة علموية سعت إلى تطبيق الاكتشافات العلمية في العلوم الطبيعية على الإنسان والمجتمع، من ذلك أنها أسقطت البيولوجيا بتفرعاتها المختلفة على العلاقة بين البنية الجسدية وبين مجموعات بشرية وصفات أفرادها الشخصية، وقدراتهم العقلية، وأخلاقهم وثقافتهم عمومًا. التنظيرات شبه العلمية لفكرة الأعراق التي تحولت إلى أيديولوجيا تأثر بها المستوطنون وقياداتهم السياسية والعسكرية في مرحلة الاستعمار لم تكن خلف موقف قطاعات واسعة من الناس من "آخرية الآخر"، فهؤلاء امتلكوا موقفًا مسبقًا من المختلف جسديًا أو دينيًا أو إثنيًا قبل هذه التنظيرات، واستمرت بعدها، وبغض النظر عنها، ما يجعلهم عرضة للتأثر في المجتمع الحديث بأيديولوجيات تستند إلى تنظيرات شبه علمية.
ومع إيمانها بالتفوق على العامة، من سكّان بلادها، تقبّلت الطبقات العليا في البلدان المستعمِرة فكرة التفوق على المستعمَرين، أما عوام المجندين للقتال في الدول المستعمِرة فتقبلت فكرة أن المستعمرين أدنى منهم بسبب الموقف من الآخر عمومًا، ولم يكن للاعتقاد بالفوارق الجوهرية الثابتة بين النبلاء والعامة أن يزول إلا بعد أن نشأت الأيديولوجيات القومية، التي تستند إلى انتماء كافة الطبقات إلى أمة واحدة. النظريات العلموية في الأعراق استمدت منها النازية عنصريتها، وبعد الحرب العالمية الثانية انهارت تلك النظريات العرقية، ولم يعد التصريح بها مقبولًا في أوساط النخب الأميركية والأوروبية والأوساط الأكاديمية. لكن لم يعن ذلك نهاية العنصرية، إذ احتلت جواهر أخرى غير بيولوجية محل العرق في أصناف التمييز السلبي الجديدة، التي ظلت تحمل اسم العنصرية، لكن من دون فكرة العرق، فصار في إمكان العنصريين تجاه أصحاب البشرة السوداء الادعاء بأن أفكارهم التنميطية المسبقة ليست بسبب لون البشرة، بل بسبب كسل هؤلاء السود، أو عنفهم، أو عدم رغبتهم في العمل.



العنصرية والسلطة الحيوية
لم تقتصر العنصرية، حسب فوكو، على الدول الحديثة ذات النظم الرأسمالية في الغرب. ففي النازية، من حيث هي نظام شمولي، تتكرس أبشع أشكال العنصرية. وفي الوقت الذي عمم فيه

هذا النظام السلطة الحيوية بشكل مطلق، عمَّم معه حق العاهل، أو السيد، في القتل، مما جعل آلية السلطة الحديثة في النازية تتطابق وتتوافق مع السلطة الحيوية والديكتاتورية المطلقة في الوقت نفسه، والتي انتشرت عبر الجسد الاجتماعي كله، فتحولت إلى دولة عنصرية ديكتاتورية بامتياز، منحت الشعب الألماني بوصفه عرقًا راقيًا متطورًا الحق في قتل الآخر (الشعوب الأخرى)، وطبّقت في الوقت نفسه المفهوم التقليدي للسلطة الذي يعطي للحاكم الحق في قتل الآخرين حفاظًا على سيادة الدولة. كان المجتمع النازي من أكثر المجتمعات انضباطًا، ولم تقتصر فيه سلطة القتل على الدولة، بل كان في إمكان كل فرد، وتوجب عليه، أن يشارك في عملية الرقابة والضبط بما أوتي من وسائل؛ كالوشاية والتبليغ والإدانة وغيرها، ليصبح الكل شريكًا في آلية القتل.
الاشتراكية أيضًا دخلت في اللعبة العنصرية، في القرن التاسع عشر، حين قامت على الشروط نفسها التي قامت عليها الدولة الحديثة، من جهة السلطة الحيوية، لنجد أنفسنا أمام الممارسات ذاتها، رغم اختلاف الشعارات. لماذا فشلت الاشتراكية في تحقيق أهدافها في المساواة، ومحاربة الاستغلال والحرمان الطبقي؟ يعتقد فوكو أن السبب في ذلك أن الدولة الاشتراكية لم تطرح مسألة السلطة على بساط البحث والمراجعة النقدية. لكن عنصرية الدولة الاشتراكية ليست من نمط عرقي، بل تطوري، وهي لم تظهر مع بداية الدولة الاشتراكية. لكن حين ركز الخطاب الاشتراكي على مسألة التحولات الاقتصادية كمبدأ للانتقال من الملكية الفردية إلى الجماعية، لم تكن ثمة حاجة إلى العنصرية، لكن حين تناولت الصراع الطبقي داخل المجتمع الرأسمالي برزت تلك العنصرية كذريعة لتبرير عمليات القتل والإقصاء. للبحث عن أسباب القتل، استعملت الاشتراكية نمطًا عنصريًا تطوريًا. وأخطأت الماركسية حين نزعت السلطة من أيدي الأغنياء، لتضعها في أيدي البروليتاريا، في نظام كلياني جديد، استبدل استغلالًا بآخر.



العنصرية الأميركية
التقى تاريخ الكفاح ضد العنصرية مع تاريخ الكفاح ضد الاستعمار، والتمييز على أساس الهوية، وتميزت العبودية الحديثة في أميركا بعلاقتها بالاستعمار الاستيطاني، وتكريسها مع استيراد الفكر العنصري، وفكرة العرق الأدنى. ويرى بشارة أن الولايات المتحدة تشكّل حالة خاصة، ظل فيها النضال ضد العنصرية منفصلًا مدة طويلة عن الكفاح لتوسيع حق الاقتراع، ومساواة المرأة بالرجل، وغيرها من النضالات داخل المجتمع الأبيض، قبل أن تلتقي هذه النضالات في إطار المواطنة، وبدا ذلك نتيجة منطقية لتلك الفترة الطويلة التي دامت فيها عبودية الأفارقة، وعاند معها ملاك العبيد رافضين التغيير ومدافعين عن "أملاكهم الخاصة"، حفاظًا على "نمط حياتهم". ظلت العنصرية قائمة في المؤسسات، ولدى ثقافة أوساط واسعة من الأميركيين. وبين بشارة الفارق الهام بين العبودية، وغيرها من أشكال العنصرية التي تنفي ببساطة عن العبد صفة الإنسان، وتحوّله إلى سلعة تباع وتشترى، لتقع عليه أعمال السخرة في الحقل والمنزل. هذا النظام العبودي الذي ساد في الجنوب الأميركي استفاد منه الغرب الأوروبي، والشمال الأميركي، واستعملوا المحاصيل التي أنتجها عبيد الجنوب في صناعة النسيج، وغيرها من الصناعات، إلى أن ظهر التناقض السياسي والاقتصادي والأخلاقي مع هذه المنظومة داخل النظام الديمقراطي، وتم فرض سلطة الدولة على الولايات الجنوبية بعد حرب أهلية، ولكن الأمر لم ينته مع انتهاء العبودية رسميًا، التي استمرت نمطًا للحياة لفترة طويلة، ونشأت عليها ثقافة كاملة يحتاج تفكيكها إلى وقت طويل، إذ يحتاج التنازل عنها إلى تفاعل بين ضرورات الحياة الحديثة، وقيم المساواة والمواطنة، والحريات التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية، والنضال من أجل المساواة والحقوق السياسية. وكان من الطبيعي أن يسود نوع من الأبارتهايد القانوني، و/أو الاجتماعي، المفروض على السود، في الجنوب خاصّة، فبُرّر مبدأ "منفصلون لكن متساوون" قضائيًا، وكان على السود النضال ضد التهميش والفقر، وضد العنصرية، بعد زوال العبودية.

ينحني احترامًا أمام تمثال لمارتن لوثر كينغ في ريفرسايد/ كاليفورنيا (4/ 6/ 2020/ Getty)

مع تقدم المساواة أمام القانون، نشأت طبقة وسطى من السود قادرة على الاستفادة منها، حصلت على الوظائف، وبعض المناصب، في المؤسسات الحكومية، ولكن مع تحقيق المساواة القانونية لم تتحقق المساواة في الفرص، لكن "المساواة القانونية" من دون سياسات اجتماعية لصالح

الفئات المستضعفة تاريخيًا تكرس الفجوة الاجتماعية ولا تردمها. فبالإضافة إلى حظرها قانونيًا، يتطلب التخلص من إرث طويل من العنصرية تدخّل الدولة لتحقيق المساواة في قاعدة انطلاق الأفراد الاجتماعية كي يتحقق تكافؤ الفرص، لكن ذلك لم يكن ممكنًا، لأن الولايات المتحدة الأميركية ليست دولة رعاية (على غرار الدولة الأوروبية)، بل دولة ليبرالية اقتصاديًا، والثقافة السائدة فيها ثقافة عمل وتنافس، تمجّد النجاح الفردي، مما كرس الأميركيين الأفارقة في درجة اقتصادية اجتماعية أدنى.
الخط البياني العام، في رأي بشارة، في اتجاه الصعود. وهنالك علامات رمزية في ذاكرة النضال على طريق صعود الخط البياني، كما في حالة مواجهة عنف أجهزة الأمن، بعد مقتل فلويد وقبلها. ففي عام 1955، رفضت روزا راكس، المرأة السوداء، أن تخلي مقعدها لرجل أبيض في الحافلة، حين كانت تجلس في مكان مخصص للبيض، مرورًا بخطاب مارتن لوثر كينغ في مونتغمري عام 1965، وأول مدينة فرض عليها التعليم المختلط في الجنوب، وتعيين كولن باول الأميركي من أصل إفريقي في منصب رئيس الأركان في الجيش، ومن ثم انتخاب رئيس أميركي من أصل نصف إفريقي. هذه وغيرها، يراها بشارة رمزًا لاقتحام المساواة المدنية مجالات جديدة. والنزعة الحقوقية للأميركيين من أصل أفريقي هي نزعة اندماجية في الأمة الأميركية، فمطالبهم لا تشمل الاعتراف بلغة وثقافة، بل الاعتراف بتاريخ المعاناة واحترامه، واحترام ذاكرتهم في إطار الرغبة في الاندماج الكامل في الحياة الأميركية.



زوايا مظلمة
يذهب بشارة إلى أن عنصرية عناصر الشرطة لا تزال من تلك الزوايا المظلمة الكثيرة التي لم تتعرض لأشعة المساواة. وتكتسب هذه العنصرية أهمية خاصة بسبب ارتفاع مستوى الجريمة

عند السود، التي يرى فيها العنصريون دليلًا على طباع ثابتة في السود، حتى لو كان مصدرها بيئيًا اجتماعيًا وليس عضويًا، ولذلك يصبح كل شاب أسود يمكن أن يكون مجرمًا، ولا يصبح مصدر شبهة ويتم اعتقاله فقط، بل أيضًا يتم استخدام درجة أكبر من العنف معه عند الاعتقال. وأيضًا، إصدار عقوبات أكثر شدّة في حقه في المحكمة. نسبة الجريمة المرتفعة عند السود تقابلها نسبة العنصرية المرتفعة عند عناصر الشرطة، مقارنة بقطاعات مهنية واجتماعية أخرى، ليس فقط بسبب مستوى تعليمهم وتثقيفهم، بل لأن الشرطة بطبعها تميل إلى التعميم والتصنيف ضمن وسائلها للرقابة والضبط والسيطرة، وهي تجسد العنف الشرعي للدولة. قد يتحول هذا العنف إلى تعسف في حالة شرطي ضعيف الشخصية يريد إثبات رجولته، أو شرطي أسود يريد أن يظهر أبيضَ أكثر من البيض. في غياب الرقابة، ومع ضعف آليات المحاسبة، يصبح التعسف مؤسسيًا، ويتضامن رجال الشرطة مع زملائهم كي لا يحاسبوا على سوء استخدام العنف.



النضال ضد العنصرية
في الولايات المتحدة، يترافق الاستقطاب العنصري المتفاقم مع تنامي ظاهرة الشعبوية اليمينية، ومعاداة المهاجرين، وتصاعد أعمال الإرهاب الداخلي، وزيادة جرائم الكراهية، وتفجّر العنف في الشوارع، في ظل تزايد مخاوف البيض جرّاء التداعيات المحتملة على التركيبة السكانية

سريعة التغير، في ظل توقعاتٍ إحصائيةٍ بتحوّلهم إلى أقليةٍ بحلول عام 2044. إذ أصبحت التغيرات التي أحدثتها أنماط الهجرة والتجنيس على التركيبة السكانية في الولايات المتحدة قادرةً على قلب الوضع الانتخابي، فبعد العشرين سنة المقبلة لن يشكل الأميركيون البيض غالبية الناخبين. تعداد الأقليات ينمو بمعدلاتٍ مرتفعة، مقارنة بالنمو الطبيعي للغالبية البيضاء، وتوقعت دراسات أن واحدًا من بين من كل عشرة من الناخبين المؤهلين، في انتخابات 2020، سيكون قد ولد خارج الولايات المتحدة، وهي أعلى حصة منذ عام 1970، عندما كانت أبواب الهجرة للولايات المتحدة مفتوحةً على مصراعيها. وباتت سياسات الهجرة اليوم أحد عوامل الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين بعد توافقهم عليها عام 2013.
في هذه الأجواء، صعد ترامب في الانتخابات الأميركية، بمذهبه القومي، وتعصّبه العرقي، ليصب على النار زيتًا، حين يستمر في نشر أفكاره المعادية للمهاجرين والمسلمين في عموم البلاد، ويثير المخاوف من ظهور "دولة الأقليات". استمرّت سياساته في تأجيج مشاعر الكراهية تجاه المهاجرين، وفي تشجيع عنصرية المتطرّفين البيض، وتقوية جماعاتهم، وتعيينهم أعضاء في إدارته، ولم يعد في الإمكان إنكار الصلات التي تربط بين بعض المسؤولين الأميركيين في إدارة ترامب والجماعات التي تحرّض على الكراهية ضد المهاجرين (نحو: اتحاد إصلاح الهجرة الأميركية). وتحت عنوان "عام الكراهية والتطرّف: سباق ضد التغيير"، تساءل التقرير الصادر عن مركز قانون الحاجة الجنوبي في فبراير/ شباط 2019، عن إمكانية بناء ديمقراطيةٍ سلمية متعدّدة الثقافات في ظل تصاعد القوميات البيضاء، وتنامي الإرهاب الداخلي، وبروز السياسات العنصرية، وتزايد التنظيمات التي تنشر الكراهية وتحتقر الأقليات العرقية والدينية، والتي بلغت قرابة ألف جماعة في عام 2018، بزيادة تقدر بحوالي 7% عن عام 2017، والتي ستكون مسؤولةً عن تقويض الديمقراطية الأميركية.
وكما أن للعنصرية تاريخًا هناك، للنضال ضدها تاريخ أيضًا، يذهب بشارة. ولكن أليس النضال في محطاته المختلفة مرهون بتوافر عوامل ذاتية (الخبرة السياسية والتنظيم والتخطيط) وموضوعية تتعلق بالتوقيت وتوافر البيئة المناسبة؟
يقارن بشارة بين مقتل جورج فلويد في 25 أيار/ مايو في مينابوليس على يد الشرطة الأميركية، ومقتل إياد الحلاق في 30 مايو /أيار في القدس على يد الشرطة الإسرائيلية، متسائلًا عن أسباب غياب أي رد فعل احتجاجي حقيقي على مقتل الحلاق. يخلص بشارة إلى جملة من العوامل يستقيها من مقارنة يعقدها مع مقتل الطفل محمد الدرة عام 2000، الذي أشعل انتفاضة كاملة (الانتفاضة الفلسطينية الثانية)، ومقتل ستة عمال فلسطينيين في الثمانينيات قدح شرارة الانتفاضة الأولى، منها أن مقتل كل من الدرة وفلويد جاءا وعوامل الانتفاضة الشعبية قد اكتملت. في حالة فلويد: ثلاث سنوات من الاحتقان في ظل حكم ترامب اليميني الشعبوي، وعنصريته المعلنة، وثلاثة أشهر من اقتصاد متردٍّ بفعل جائحة كورونا. وفي حالة الدرة: فشل مفاوضات كامب ديفيد، واستفزازات شارون للفلسطينيين باقتحام المسجد الأقصى... (مع فارق أن الانتفاضة الفلسطينية لم تكن نضالًا مطلبيًا، بل موجهة ضد الاحتلال)، الأمر الذي لم يكن متوافرًا في حالة مقتل الحلاق. ذلك لا يعني غض النظر عن بوصلة الحركة الوطنية التائهة في هذه المرحلة، ولا عن غياب حركة حقيقية للحقوق المدنية ذات قواعد اجتماعية ضد العنصرية في المجتمع الإسرائيلي، كما يذهب بشارة.