Print
محمود عبد الغني

الترجمة كما شرحتها لابني

14 نوفمبر 2021
آراء

[إلى أبنائي: رشاد، إيناس، وغالي]

ـ والدي العزيز، سمعتك تتحدث كثيرًا عن الترجمة، هل أنت مترجم؟

ـ نعم، تستطيع أن تقول ذلك. إنني مترجم، وإن شئتَ أعطيك لائحة بالكتب التي ترجمتها من الفرنسية والإنكليزية إلى اللغة العربية.

ـ نعم يسرني ذلك.

ـ لكن، كيف عرفتَ بالترجمة؟

ـ إنها تشكل مادة رئيسية في مقررات الدراسة، وجميع أصدقائي يتحدثون عنها. إنني أسمع بها أكثر من عشر مرات في اليوم الواحد.

ـ طيب.. الترجمة هي نقل نص من لغة أجنبية إلى أخرى يمكن أن تكون لغتك الأم. أنت مثلًا إذا قمت بترجمة قصيدة بودلير "القارب السكران"، التي طلب منكم أستاذ الفرنسية تقديم تحليل لها، إلى العربية، فأنت مترجم. قم وناولني معجم اللغة الفرنسية Robert. هكذا يعرف هذا المعجم الترجمة: "الترجمة هي نقل ملفوظ في لغة طبيعية إلى لغة أخرى، بهدف تحقيق التوازن السيميائي والتعبيري في الملفوظَيْن معًا". يتطرق هذا التعريف الواضح إلى بداية عملية الترجمة، نشاطها وخاتمتها. إنها تبدأ بنقل نص من لغة إلى أخرى، ثم تحقيق توازن في الدلالة والمعنى بين ما قيل في اللغة المصدر (ل. م)، واللغة الهدف (ل. هـ). وبرغم ذلك فهذا التحديد ينقصه معطى مهم جدًا، وهو التفريق بين المترجم والمترجم الفوري. فهما يمارسان مهنتين مختلفتين. الأول ينقل لغة مكتوبة، والثاني ينقل لغة شفهية.

ـ هل الترجمة تتم بواسطة ترجمة الكلمات والجمل؟

ـ لا يمكن أن نختزل عمل الترجمة في مجرد نقل الكلمات أو الجمل من لغة إلى لغة أخرى. توجد عبارات ومفاهيم في الفلسفة والتحليل النفسي تمتلك، بعيدًا عن معناها الشكلي والواعي، شبكة من الدلالات الضمنية مختلفة كثيرًا من لغة إلى أخرى، من منطقة إلى أخرى.

ـ كيف أصبحتَ مترجمًا؟

ـ كيف يصبح المرء مترجمًا؟ لقد أحسنتَ بطرح هذا السؤال؟ إن مسارات المترجمين مختلفة، لكنها تقدم عدة نقاط مشتركة؛ هذه النقاط يمكن إجمالها في ما يلي: حب لغة معينة، حُب بلد، ثقافة وأدب أجنبي، والرغبة في نقل بعضها نحو جمهور غالبًا لا يستطيع القراءة باللغات الأجنبية، أو لا يعرفها بالشكل الكافي.




ومساري الخاص يمكنه أن يكون كذلك. لكن ما أريد تأكيده أن المترجم يتعلم الترجمة وهو يمارس الترجمة، مثلما يتعلم الكاتب الكتابة وهو يكتب. غير أن الترجمة تتطلب مجموعة من المعطيات التقنية، ونوعًا من الممارسة الخاصة. فليس كافيًا معرفة لغة أجنبية لكي تصبح مترجمًا، ونفس الشيء، ليس كافيًا أن تحب الشعر كي تتوصل إلى كتابة قصيدة بكل خصائصها الموسيقية، الإيقاعية والصورية.
بعد تخرجي في كلية الآداب، كنتُ أحمل أفكارًا مشتتة عن الترجمة. إذ درست في فصل من فصول الإجازة مادة كان اسمها "الترجمة الأدبية"، تعرفنا فيها على تاريخ الترجمة، وبعض المفاهيم والمدارس الأساسية في الترجمة. لكننا لم نمارس الترجمة إلا قليلًا. فقد كان أغلب الطلبة لا يتقنون اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنكليزية على الخصوص. والنتيجة أن ترجمة النصوص من العربية إلى هاتين اللغتين كانت تتميز بالتعقيد. وكنتُ أنا الوحيد تقريبًا الذي كان يبدي اهتمامًا خاصًا بترجمة النصوص النثرية والشعرية، وأحيانا الفلسفية، التي كان يقترحها الأستاذ.
ـ هل كنتم تترجمون نصوصًا فلسفية؟

ـ نعم، كان أستاذنا يختبر قدرتنا على التحمل والصبر من خلال اقتراح نصوص فلسفية. وقد كان الطلبة يفشلون. لكن، وهذا أمر مهم، كل من أراد تأمل قضايا الترجمة عليه من دون شك العودة إلى فشله الخاص، وأيضًا إلى العقبات التي اعترضت عمله. خصوصًا إذا أراد نقل فلسفة الغرب إلى لغة الشرق، العربية في تجربتنا. وهنا على المترجم أن يبتعد عن لغة الأعذار من أجل تبرير فشله وأخطائه. لكن عليه، عكس ذلك، تسليط الضوء على النقاط التي بقيت في الظل. ويمكن أن أضيف، لمزيد من التأكيد، أن الحقلين غير العلميين الأكثر هشاشة في مجال الترجمة هما، من دون شك، الفلسفة والشعر. وأضيف أن حدة هذه الهشاشة تتضاعف حين تُتَرجم الفلسفة من طرف غير الفلاسفة، والشعر من طرف غير الشعراء.
من الضروري إتقان المفاهيم في الحقلين، واللغتين، من أجل نقلها بدقة. ذلك أمرٌ مطلوب في إنتاج ملفوظ مطابق في اللغة الهدف. غير أن الذين وجدوا أنفسهم، من بعيد أو من قريب، في مواجهة هذا الاختبار يعرفون أن البساطة الظاهرة في هذه العملية تُخفي في الواقع مجموعة من الأسئلة المعقدة.

ـ لكن ذلك يتطلب معرفة وإتقانًا للغتين، الفرنسية والعربية في حالتنا.

ـ لقد أصبتَ! معرفة اللغات شرط ضروري. فحين نفتح كُتُبًا مترجمة تثير انتباهنا هذه الإشارة: "تُرجم عن الفرنسية"، "تُرجم عن الإنكليزية"، "تُرجم عن الإسبانية"، "تُرجم عن الإيطالية".. عن الصينية، عن اليابانية، عن الروسية... إننا في الواقع نترجم دومًا من لغة إلى لغة أخرى، وأحيانًا تكون الترجمة داخل اللغة نفسها، لكن في مراحل مختلفة، مثلا "أغنية رولان"، وهي قصيدة ملحمية منسوبة من دون يقين إلى الشاعر تيرولد، تطلبت ترجمتها إلى الفرنسية الحديثة من أجل القراء الذين لا يعرفون الفرنسية القديمة، فرنسية القرن الحادي عشر.
وهنالك نقاط أخرى، معقدة إلى حد ما، لكنني سأجعلها بسيطة أمامك بواسطة أمثلة ونماذج وشروح. من هذه النقاط: حب اللغة، حب البلد، حب الثقافة، وحب الآداب الأجنبية. لأن المترجم يريد أن ينقل كل ذلك في اتجاه جمهور من القراء غالبًا لا يستطيع القراءة إلا بلغته الأصلية، أو يعرف اللغات الأجنبية بشكل ضعيف.




ـ نعم، فهمت. إذًا، الترجمة وُجدت أساسًا من أجل قارئ لا يعرف اللغات الأجنبية؟

ـ نستطيع أن نقول إن ذلك هو جزء من وظائفها الكثيرة.

(Getty)                                                                                                                                                                                               


ـ لنعد إلى "أغنية رولان"، هل يمكن أن نترجم شعرنا القديم، الجاهلي على الخصوص، إلى لغة عربية حديثة، كما فعل المترجمون مع "أغنية رولان"؟

ـ لقد أصبح ذلك ضروريًا اليوم، بل بات أمرًا مستعجلًا. ولا يقف الأمر عند الشعر الجاهلي، بل يجب أن يتعداه إلى نصوص ومتون أخرى. مثلًا: هل نفهم اليوم ابن خلدون؟ لقد كتب بعربية القرن الرابع عشر. يمكن أيضًا إدراج الجاحظ، المعري، وكثير من الفلاسفة. هنا يكمن الجانب التواصلي في الترجمة.

ـ هل الترجمة ضرورية إلى هذا الحد؟

- هنالك أسئلة شبيهة بهذا السؤال الذي طرحته، في مقدمتها: هل الترجمة ممكنة؟ يجيب فيلسوف فرنسي اسمه جاك دريدا عن السؤال بالقول:" الترجمة مستحيلة وضرورية في الآن نفسه".

ـ لو تشرح لي قليلًا، يا أبي، قولة جاك دريدا.

ـ هنالك متشككون، كان عددهم كبيرًا، لكنه بدأ يقل مع مرور الزمن وتعاقب الظروف، في إمكانية إنتاج ترجمة.

ـ هل يمكن أن نتخيل أنه سيأتي يوم نستغني فيه عن الترجمة؟

ـ لا أعتقد أن أمرًا مثل هذا يمكن أن يحدث. لأن نشاط الترجمة يخص الإنسان من بين جميع المخلوقات. وهو باستمرار في حاجة إليها.

ـ كيف، لو تشرح لي قليلًا؟

ـ إن نشاط الترجمة يشبه نشاط اللغة. وهما خاصيتان بشريتان. يقول شاعر ومترجم مكسيكي اسمه أوكتافيو باث: "إن تعلم اللغة هو تعلم للترجمة". لقد ساهمت الترجمة طيلة قرون في التواصل بين مختلف المجموعات اللسانية، والبشرية أيضًا: نقل معلومات جديدة (علمية، تقنية، أدبية...)؛ كما ساهمت في اكتشاف أجناس أدبية جديدة (الخطابة، الملحمة، الملهاة...)؛ وأيضًا في انتقال الأعمال الأدبية بين الشعوب (الأعمال المترجمة من العربية، اللاتينية، الفارسية، اليونانية، ومن لغات أخرى). وقد ساهم هذا النشاط اللغوي في تكوين ذوق أدبي، وجعل المعارف التي كانت وقفًا على النخب الثقافية في متناول الجمهور الواسع. بفضل الترجمة انتشر ابن سينا، وابن رشد، وأرسطو، في القرون الوسطى، بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية.

ـ لقد وردت على لسانك أسماء فلاسفة: دريدا، ابن رشد، ابن سينا، أرسطو... هل للترجمة علاقة بالفلسفة فقط؟

ـ ملاحظتك صحيحة إلى حد ما. لا تنسى أنني ذكرت أيضًا اسم شاعر هو أوكتافيو باث، وسنأتي على ذكر روائيين ومسرحيين. إنه من الممكن محاولة كتابة تاريخ الأفكار انطلاقًا من مدارس وتيارات الترجمة المنجزة في سياقات ثقافية مختلفة، وفي مراحل مختلفة. يكفي أن نفكر في دور الانفتاح الثقافي والسياسي الذي لعبته ترجمات الكتاب الأميركيين في إيطاليا الفاشية. لقد انفتحت إيطاليا على العالم رغم انسداد أفقها السياسي والاجتماعي، ولم يكن لذلك الانفتاح أن يحدث في غياب المترجمين.




ـ وماذا عن تطوير اللغات؟

ـ المترجمون يلعبون دورًا رئيسيًا في تكوين اللغات الوطنية، كما لاحظ جاك لوكوف، وأنطوان بيرمان، وج. ل. كوردونييه، الدي أكد أن إشكالية الثقافة ستشكل مند اليوم حقلًا رئيسيًا للعمل على نظرية في الترجمة.
وأضيف إلى ذلك تشجيع التعدد اللغوي في العالم بأكمله، كي تنتقل اللغات من بلد إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى. ولهذا الغرض تأسست مراصد للتعدد اللغوي، أذكر منها "المرصد الأوروبي للتعدد اللغوي".

ـ هل الترجمة تكون لغوية فقط؟

ـ إن إعطاء الدلالة لكل كلمة، حسب رومان جاكوبسون، ليس سوى تحويلها إلى علامة (لسانية أو غير لسانية) يمكن أن تعوضها. هذا التحويل يمكن أن يتحقق بثلاث طرق: العلامة اللسانية تتم ترجمتها إلى علامات أخرى تنتمي إلى النظام اللساني نفسه، أو تتم ترجمتها بواسطة علامات تنتمي إلى نظام لساني آخر، أو أيضا تُتَرجم داخل نظام رمزي غير لساني. هذه الأنواع الثلاثة من الترجمة سماها ر. جاكوبسون: ترجمة داخل ـ لسانية، ترجمة بيلساني، ترجمة بيسيميائية. وهكذا، فإن كل تأويل، أو كل إنتاج للمعنى، هو في النهاية ترجمة.