Print
خيري الذهبي

هيلا هيلا.. تلاقح حضاري

28 نوفمبر 2021
آراء

عن أغاني البحارة وأهل البحر، نذكر هذه الكلمة (هيلا) التي تتردد حتى يومنا على لسان جميع من اعتلوا البحر ومراكبه، مرات في يأس، وأحايين في خوف ووجل ورجاء بالعودة إلى حضن الحبيب، وثبات اليابسة الصلب الذي يمنحهم ثقة، ولو آنية، بدوام الحال. كانت أغاني تلكم القوم تتصدر بكلمة هيلا، التي تعني القوة، أو طلب الحيل، باللغة السريانية، أو الآرامية، والحيل، أو القوة، كلمة تتردد بحثًا من هؤلاء الخائفين عن مرشد، أو دليل، يساعدهم في لجّة ظلمات المجهول الذي دخلوه بحثًا عن قوت أو تجارة..
وجميعنا نتذكر أغنية أبو خليل القباني، التي نسبها له الباحث والروائي تيسير خلف، (عالهيلا الهيلا الهيلا)، التي من المفترض أن موسيقار بلاد العرب في أواخر القرن التاسع عشر قد ألفها ولحنها وغناها وهو على متن المركب الضخم الذي حمله بصحبة فرقته الضخمة إلى إيطاليا، ومنها إلى نيويورك، للمشاركة في معرض شيكاغو الدولي (1895). الأغنية، بالطبع، لا تزال تدور وتُردّد على شفاه المغنين، ومن أهمهم صناجة العرب الراحل، صباح فخري، ونتذكر أيضًا أغنية (هيلا يا واسع) للأخوين رحباني، وغناء فيروز، التي تندرج أيضًا في الإطار نفسه، في الحث على المدد والقوة من البحر لمنحهم الصبر والثبات حتى إكمال المهمة، الأغنية صدرت في عام 1972، ويعرفها الجميع، أتبعها مرسيل خليفة بأغنيته الشهيرة (يا بحرية هيلا هيلا)، التي مزج فيها الصمود والمقاومة بالهمة والقوة لدى الصيادين الذين يعتلون متون مراكبهم يوميًا بحثًا عن رزقهم..
في بحث سريع، نتذكر كذلك العشرات من الأغاني التي تبدأ بالمطلع ذاته (هيلا)، من محمد منير، إلى أمل الحمروني، وغيرهما كثير على امتداد الساحلين السوري والمصري، لسبب ما ارتبطت كلمة هيلا بالبحر، وزالت من قواميس بقية المهن، ربما لارتباط البحرية المشرقية بالكنعانية والفينيقية، وارتباط ذلك التراث، من دون غيره، بأغاني البحارة والمهاجرين والصيادين.




في مقلب آخر، نتعرف إلى اسم امبراطور الحبشة (هيلا سي لا سي)، الذي تعني بحسب تحليل بسيط للمعنى الديني المسيحي، القوة الثلاثية، أي تلك القوة المستمدة من الأب والابن والروح القدس، التي سيستمد حامل الاسم منها القوة، فيكون اسم امبراطور الحبشة معربًا هو (الحول الثلاثي)، أو (مثلث القوة).. سقط إمبراطور الحبشة في عام 1974، وتولى السلطة في إثيوبيا رئيس الوزراء (منغستو هيلا مريم) حتى عام 1991، ومعنى الاسم واضح بالطبع، فهو يستمد قوته من مريم، والدة المسيح، فالتأثيرات القبطية والسريانية قوية جدًا في الكنيسة الحبشية القديمة، وهي لا تخفى على أي باحث، حيث أن الكنيستين انفصلتا عام 1959م. والكنيسة القبطية تتبع الكرسي السرياني في دمشق، ويشارك البطريرك السرياني رسميًا في مراسم تتويج البابا القبطي منذ مئات السنين.
إن تسرب المعاني السريانية إلى حاضرنا الممتد منذ آلاف السنين هو امتداد واقعي للأرضية الضخمة التي أسست للبلاد المشرقية، وأنا أعتقد أن السريانية والآرامية هما الجذر الأساسي للغة العربية التي استفادت منهما استفادة جمة، غير منقطعة، وخارج الإطار الرسمي لتداول اللغة العربية رسميًا في الدوائر العامة والعلوم والثقافة. لذلك، إن دققنا في اللغات المحكية السورية والمصرية والخليجية والعراقية، فسنجد مئات الكلمات ذات الأصول السريانية، وهذا طبيعي، وكذا هو الحال في الأمثال الشعبية والأغاني التي ترددها الناس والعامة، من دون إدراك معناها، أو الحاجة أصلًا إلى تدقيق المعنى.




وكل مدقق في القرآن يدرك حجم المفردات ذات الأصول السريانية في الكتاب الأساسي، المرجع، للغة العربية المعاصرة، حاضن اللغة العربية، والذي لولاه لضاعت اللغة تمامًا، وهذا هو حال التمازج الحضاري الذي لا يغفل دور أية حضارة، أو أي مؤثر ثقافي، فالحضارات تتلاقح، ولا يزول تأثيرها أبدًا رغم ادعاء البعض الشوفيني بذلك، فالحضارة العربية بدورها تؤثر تأثيرًا جمًا بكامل محيطها الثقافي: فارسي، أو تركي، أو حبشي، أو أوروبي، وكذلك السريانية التي أثرت بها جميعًا، والعكس صحيح كذلك.
وعليه، فإن أغنية لبحار ما، أو طقطوقة لمغنٍ جوّال، من جزيرة أرواد، أو من طرطوس، أو جبيل، في الساحل السوري الكبير، تحمل في طياتها حضارات كاملة سادت ثم بادت.