Print
فريد الزاهي

اللغة مُنتجَة معرفة.. هواجس في اليوم العالمي للغة العربية

26 ديسمبر 2021
آراء
أتذكر أني حين كنت كاتبًا شابًا مبتدئًا، كنت أعشق غريب اللغة ومُحْدَثَها في الآن نفسه، وكأن ذلك كان عنوانًا لحداثة مفترضة. كان أسلوب مهدي عامل يفتنني، حتى إني كنت أحاكيه لاقتضابه واعتماده على التكرار والمنظورية التأويلية التي تنعكس على اللغة، فتمنح الجمل إيقاعًا أشبه بإيقاع الموسيقى الأفريقية الصارخ. من الخطيبي، وبارت، تعلمت الاقتضاب وبناء النص بشكل مكثف، وعدم الدخول في التفسير الممل. ثم اكتشفت ابن عربي، وهايدغر، والنفري، وغيرهم... فأضحت لغتي تبتغي الشفافية عوض الاستغلاق، وكتابتي لا تنحو نحو الكثافة بقدر ما تستهدي بحدس مغاير، وباستبصار مستجدّ للمعاني.



العربية تحتفي بمفارقاتها واختلافاتها
لست ممن يحتفون باللغة باعتبارها مؤسسة. فأنا أتساءل: لو كنت أمازيغي المولد، أو ألماني المنبت، ما ستكون علاقتي بهذه اللغة التي يعتبرها أهلها مقدسة؟ العربية سابقة على الكتاب. وكل لغة لها حياتها وموتها وانبعاثها، تعيشها بشكل متآلف ومتنافر في مسيرها التاريخي. اللغة واجهة المجتمع والفكر، قبل أن تكون لغة ديانة ما. وإلا فإن الشعوب الإسلامية غير الناطقة بلغة الضاد ستعيش الحيف، وستعد نفسها هامشية في هذه الروحانية الدينية التي تعيشها في حياتها اليومية، في غياب اللغة العربية. الكتاب ساهم في خلق لغة موحدة. وأنا أتصور أن اللغة العربية، لولا الكتاب الموحِّد، كانت ستكون عبارة عن لغات محلية تتداولها القبائل والجهات في بلاد العرب. كما أن لغة الكتاب ليست فقط، وحصرًا، لغة قريش، وإلا فإننا كنا سنتكلم ونكتب اليوم بلسان قريش فقط؛ ولمَا جمع الأصمعي ودوَّن لغة العرب في بوادي الحجاز، ولما منحنا المفضل الضبيّ روائع الشعر في الجزيرة. بل إن العربية سابقة على قواعدها، فمنها المسموع، ومنها الخاضع لمنطق، منها ما أجازه الكوفيون، وما أجازه البصريون، ومنها ما أخضعه المناطقة للنحو، من قبيل ابن المضّاء. وإنك، حتى إن أنت حفظت ألفية ابن مالك، ومعها كتب ابن جني، وغيره، لظللت تلْحن بين الفينة والأخرى... وتتأتئ وتتعتع بحثًا عن الصيغة الأصوب لغة وتركيبًا...




تقرأ المعلقات ورسالة الغفران والشعر العربي فلا تفقهها بالتمام للوهلة الأولى، وكأن هذه العربية ليست لغتك؛ مثلما يقرأ الفرنسي كتب مونتيني، وفرانسوا رابليه، في لغته، فلا يفقه كل شيء فيها. اللغة، إذًا، ليست متعالية عن ثقافتها وتاريخها. والفرنسية الحديثة، التي نكتبها اليوم ونقرؤها، هي لغة ابتُكرت من سابقتها على سبيل المواضعة. أما اللغة العربية الحديثة فإنها نتاج سيرورة تاريخية تشكلت فيها صورتها (أو بالأحرى صورها) عبر الترجمة والتعريب والصحافة والكتابة الأدبية. فلغة طه حسين والعقاد مثلًا ليست هي لغة أدونيس، ومهدي عامل، وجابر عصفور... وكلما تقدمنا في الزمن نبتعد عن لغة الكتاب، فيغدو أصلح للحفظ والاستظهار منه للفهم وتمثل المعاني.
لذلك حين نتحدث عن اللغة العربية، أي لغة نعني؟ وهل نحن نتكلم باللغة العربية؟


العربية لغة أم لغات؟

(خالد الساعي) 


يحق لنا أن نشيد بالاستمرار التاريخي للغة العربية، بعيدًا عن تحولاتها العديدة وتطوراتها المتوالية. لكن يحق لنا أيضًا أن نتحدث عن مفارقاتها ومفارقات ثقافتها. لنستعدْ أحد الحدود التي واجهت هذه اللغة في علاقتها بالأجنبي، أو الغريب. إنها علاقة مضاعفة، لأن الغريب هو من سيحكيها. واللفظ الغريب هو ما سيكون مثارًا لها. يحكي بورخيس في قصة بعنوان "مسعى ابن رشد" أن هذا الأخير وهو في إحدى قراءاته قد تكدّرت نفسه حين وجد نفسه أمام لفظيْ "تراجيديا"، و"كوميديا"، في نصوص يونانية. وبالرغم مما بذله من جهد في البحث والتقصي، ظلت المفردتان مستغلقتين عليه. ويرى بورخيس أن هذا البحث المضني يعود إلى اعتماده على نص تُرجم هو نفسه عن ترجمة. والكتاب المعني هنا هو ترجمة إسحاق بن حنين لكتاب أرسطو "فن الشعر"، حيث يعتبر المترجم أن الكوميديا تعني "المديح"، والتراجيديا "الهجاء". هذه الترجمة الخاطئة ضيّعت على العرب، وعلى ابن رشد، اكتشاف فن المسرح الذي كان عماد الثقافة في اليونان القديمة. بيد أن ذلك "الخطأ" في الترجمة جعل ابن رشد أيضًا لا يدرك اللعبة التي كان يلعبها الصبيان أمام بيته. فقد أطل من شرفته عليهم ورآهم يلعبون وهم عراة. كان أحدهم واقفًا على كتفي الآخر ويصيح لا إله إلا الله، محاكيًا المؤذن في الصومعة. وكان الصبي الثالث ساجدًا يجسد دور المصلين. لقد كانت تلك اللعبة محاكاة شبيهة بالتمثيل المسرحي؛ غير أن ابن رشد لم ير فيها إلا لعبة صبيان.




تقودنا هذه الحكاية إلى ثقافة اللغة ودائرتها الأنثروبولوجية، كما إلى المركزية الثقافية التي جعلت من الثقافات الغربية وريثة للثقافة اليونانية، بالرغم من أن هذه الأخيرة ليست بشرقية ولا بغربية. فالثقافة الرومانية استوحت هذه الثقافة وتشبثت بها برمتها، أما الثقافة العربية فلم تستوح منها إلا ما ينقصها، أي الفلسفة.
من ناحية أخرى، تفضي بنا هذه الحكاية إلى أن اللغة كيفما كانت (ومهما كانت "قداستها") لا يمكن أن تعيش في قوقعتها مهما كانت عظمتها، وإلا فإن غرورها يودي بها، إن آجلًا وإن عاجلًا. ذلكم حال اللغة الفرنسية التي مارست ضربًا من الفرنكفونية الرعناء طيلة الاستعمار وما بعده، وأضحت آيلة للأفول. منفتح اللغة الأول هو الترجمة، والترجمة انفتاح مخصب وخطر في الآن نفسه. إنه يغني اللغة ويمارس عليها العدوى، ويطبعها بما يسري في ذلك الانفتاح. بيد أن الترجمة ليست عملية أحادية، ولا يسيرة، لأنها تفترض المعرفة بعالمين وثقافتين، أو أكثر، حتى يستوي اللقاء وانتقال المعاني ومرورها. في الترجمة، تتخلى كل لغة عن أحاديتها، وتبدي ثراءها وتعددها. والترجمة قبل أن تتمّ بين النصوص تمارس فاعليتها بين اللغة ولهجاتها، كما بين اللغة واللغات المحيطة بها. وما دامت اللغة هي من يتكلمها؛ ومن يتكلمها كائنات اجتماعية متحركة ومتنقلة، فإن صفاء اللغة ونقاءها أمر مستحيل تمامًا. وصراعها من أجل البقاء والتطور أمر قد يضعفها بقدر ما قد يقويها.



لغة الضاد قداسة أم خصوصية؟
يحدث لنا أحيانًا أن نقرأ "نصوصًا" تُبلِغ المعنى من غير أن تكون عربيتها سليمة. قد نتمتع بمعانيها مع امتعاضنا من الطريقة التي تلوي به عنق اللغة. ويحدث لنا أن نقرأ "نصوصًا" أشبه بالخطبة، تسبك القول سبكًا من غير أن تأتيك بجديد، وتطرب سمعَك تراكيبها من غير أن تطرب روحَك معانيها... فإن كانت المعاني مطروحة في الطريق كما يقول الجاحظ، فلا يعني ذلك أن اللغة ممارسة شكلانية، وإنما كما قال بارت قرونًا بعد ذلك، هي تتجسَّد في طريقة القول وكتابة تلك المعاني لمنحها حياة جديدة ومستجدة.




من ثمّ يمكننا المجازفة بالقول بأن مستقبل اللغة هو مستقبل مستعمليها، وذكاء مواجهتها لمعضلاتها الأنثروبولوجية في مواجهة التحولات التقنية والعلمية والثقافية والاجتماعية التي تعيشها وتحيط بحامليها، سواء من خلال الاستعمال، أو الترجمة. فاللغة ليست معجمًا وقواعد فقط، ذلك أن أغلب القواعد أضحت في رحاب المنسي، والمعجم المستعمل يضيق يومًا عن يوم. كما أنها ليست تراثًا ثقافيًا فقط، إذ كلما طال الزمن عسر التواصل مع هذا الموروث، وأضحى بحاجة لوسطاء ومفسرين ومتأولين. إنها هذه اللغة الحاضرة في التواصل، كما في الأدب والحياة والكتابة الجارية... وهو ما يحدونا إلى القول بأن العربية هي ما ننتجه خطابًا يوميًا وخطابًا ثقافيًا في ربوع العالم العربي في مختلف مجالات المعرفة بمفارقاته وإشكالاته وإبداعيته.
اللغة، من ثمَّ، هي المعرفة التي تُنتِج والصور التي تقدمها عن نفسها. وما ينفلت، من هذه المعرفة، من رحاب الآني والنفعي واليومي، يعانق رحابة التاريخ وشسوع أفق الاستمرار. إنها قدرة هذه المعرفة على محاورة دوائر المعارف واللغات الأخرى، القريبة منها والبعيدة، المخالفة لثقافتها، أو القريبة منها. فذلك هو ما يعضد كينونتها لغةً حضارية.