Print
حسام أبو حامد

ذكرى جورج طرابيشي.. موت صغير على هامش موت كبير

30 مارس 2021
آراء

لم تكن هزيمة 1967 مجرد هزيمة عسكرية، فدعا ياسين الحافظ إلى البحث عن جذور الهزيمة في ثنايا البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ووضع وغيره من المفكرين والمثقفين العرب تلك الهزيمة تحت عنوان" التخلف". أطلقت هذه الهزيمة، كما ذهب كميل حوَّا، معركة تفسير الهزيمة، وهي معركة نظرية وسياسية، في آن واحد، وبدت وقد ولّدت سؤالًا موازيًا لسؤال عصر النهضة "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" تمثّل في السؤال" لماذا هزم العرب وانتصر غيرهم؟".
كشفت الهزيمة خواء الأيديولوجيا الثورية العربية، بوصفها وعيًا زائفًا، وبدأ المفكرون العرب يجرون مراجعة قاسية للذات، التي بات الوعي بها المعضلة الرئيسية التي واجهت الفكر العربي، وانطلقت ورشات معرفية للتفكير والنقد، خرجت من تحت عباءة الأيديولوجيا لتستمد موضوعيّتها من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، وأدواتها التحليلية والمفهومية، بغرض النظر في الذات العربية وواقعها وتراثها، لإعادة انتاج الفكر العربي وتحريره من أسر البنى التقليدية المعرفية والاجتماعية.
كان جورج طرابيشي (حلب 1939م ـ باريس 2016م) أحد المنخرطين في ممارسة النقد للذات العربية، وقد مرت في السادس عشر من الشهر الجاري (آذار/ مارس) الذكرى الخامسة لرحيله، وكان أحد الذين تمرّدوا على نرجسية العقل التي تحول دون فهم الذات والوعي بها، لتتخذ من الأيديولوجيا سياجًا يرفض كل تنوير. وإدراكًا منه لحجم الفوات الحضاري الذي يعانيه العرب، ويفصلهم عن غرب الحداثة والديمقراطية والتنوير، سعى إلى توظيف جملة من المفهومات التي نهض الغرب عليها ليكشف عن الأسباب التي حالت بين تلك المفاهيم وبين توطينها عربيًا، متسائلًا عما إذا كانت بنية التراث العربي هي التي حالت دون الاستفادة من تلك المفاهيم والأفكار وفق شروط ثقافية جديدة، أم أن المفكرين العرب لم يتمكنوا رغم كل محاولاتهم من أن يعيدوا إنتاج تلك المقولات في الواقع؟



عصاب جماعي
أراد طرابيشي، أولًا، مواجهة الصدمة النفسية التي أحدثتها هزيمة 1967، مولدة عصابًا جماعيًا أفصح عن نفسه في اللامعقول والمرضي، الساكنين في لغة العرب وخطابهم كما في الواقع، وهو الذي تتلمذ في فرنسا على يد أهم فلاسفة هذا البلد ومفكريه، مطورًا مناهجه في النقد وأدواته المعرفية، مكونًا إطاره المعرفي الذي حكم مجمل إنتاجه الفكري.

كان لا بد من أن يتصدى طرابيشي لحالة العصاب الجماعي العربي المتولّدة من هزائم تراكمت في اللاشعور الجمعي العربي، فبدت الترجمة وسيطًا علاجيًا، سعى به إلى الإمساك بمفاتيح الفهم للعقد وللمكنونات المعطّلة للعقل العربي، والمانعة له من التفكير بحرية، موظفًا منهج التحليل النفسي الفرويدي، لبناء خطاب عقلاني يستمد أدواته وجهازه المفهومي من التحليل النفسي، محاولًا التخلص من عقدة الأب/ السلطة التي أصبحت تمارس الوصاية على العقل العربي. هذا السلوك العصابي للجماعة العربية انعكس، في رأيه، على لغة الخطاب الفكري العربي، الذي لاذ بالتراث بأعين مغلقة، أدت الى انهيار العقل العربي من الداخل، وتراجعه عن قيم العقلانية لصالح اللامعقول، وتضخم الهوية، فتوارت ملامح النقد والتفكير الثوري خلف هذه النرجسية. استمر التراث ضاغطًا على العقل، يعلو كل صوت آخر. كانت لحظة ولادة هذا الأب المثالي في التراث، كما يحددها طرابيشي، هي لحظة الانقطاع عن الترجمة، بوصفها محاولة إصلاحية وتنويرية، فوفق طرابيشي لا يتكون العقل إلا باللغة التي توسّع الترجمة نطاقها، والحاجة كانت ماسة لاستئناف جديد لعصر النهضة.



لزوم ما لا يلزم

يذهب طرابيشي إلى أن هناك موقفًا فكريًا راسخًا إسلاميًا يرفض الفصل بين الديني والسياسي


يعتقد طرابيشي أن الخوض في العلمانية هو على هذا القدر، أو ذاك، من الصعوبة والجرأة، في الوقت نفسه. تتأتى الصعوبة من غياب جهد فكري علمي لتمحيص المفهوم، وضبط حدوده. أما الجرأة، فباتت مطلوبة، بعد أن أصبحت العلمانية مرادفًا للكفر، فكان يكفي اتهام فرج فودة بالعلمانية لتبرير قتله، وفق اعترافات عبد الشافي رمضان، منفّذ جريمة الاغتيال. يذهب طرابيشي إلى أن هناك موقفًا فكريًا راسخًا إسلاميًا يرفض الفصل بين الديني والسياسي، ويشترك هؤلاء وخصومهم في الاعتقاد أن الإسلام لم يعرف مبدأ الفصل بين الدين والسياسة، على نحو ما عرفته المسيحية. رأى طرابيشي أن هناك، بين خصوم الإسلاميين، آراء ناجزة ترفض العلمانية بوصفها مشكلة مستوردة معدومة اللزوم، وتنادي بشطبها من قاموس التداول العربي، وكما أجمع الإسلاميون على أن العلمانية إن هي إلا محاولة من "نصارى الشرق" للانتقام من هيمنة الإسلام، نظر هؤلاء إلى العلمانية في سياق حاجة الأقلية المسيحية إلى ترتيب علاقتها بالأغلبية المسلمة في العالم العربي.

بغض النظر عن أوجه الربط بين العلمانية والأقلية المسيحية، يؤكد طرابيشي تهافت هذا التوجه العام، ذلك أن العلمانية هي فلسفة وآلية لا تسوّي العلاقة بين الأديان المختلفة وحسب، بل بين الطوائف المختلفة. إنها آلية لازمة إذا ما أردنا تسوية العلاقات بين المختلفين داخل النظام الاجتماعي. فالعلمانية كانت آلية قانونية لتسوية العلاقات بين الطوائف إبان الحرب الكاثوليكية البروتستانتية، فما بالنا بمئات السنين من صراع سني شيعي لا يزال حتى اليوم متجذرًا في مستنقع الطائفية القروسطية في غياب المخرج العلماني؟ إن تاريخ الغرب الذي يوفر لنا فرصة لفهم نشوء العلمانية في الغرب هو نفسه سيساعدنا على فهم الحاجة إلى العلمانية في الإسلام، المغيبة والغائبة في ظل تاريخ من الصراع الدموي المستمر منذ قرون. يؤكد طرابيشي أن الطائفية قديمة قدم الإسلام نفسه، الذي لا يتحمل مسؤوليتها من حيث هو دين، بل من حيث هو تاريخ.



العلمانية والديمقراطية
وعلى خلاف عديد من المفكرين العرب الذين دعوا إلى استبدال الديمقراطية بالعلمانية، باعتبار الديمقراطية هي الحل، يتساءل طرابيشي: كيف يمكن عقلنة ودمقرطة العلاقات بين طوائف الإسلام، وملل الأديان الأخرى؟ فإن كانت الديمقراطية تقوم على مفهوم الخصم، فإن المنافسة الطائفية تقوم على مفهوم العدو ذي الهوية الثابتة، مؤكدًا أن العلمانية هي العلاج للداء الطائفي المنتجة في مختبرات الحداثة الأوروبية، ولا ديمقراطية من دون علمانية، فالأولى مشروطة بالثانية، وإلا تعذرت تسوية العلاقات بين الطوائف من دون علمانية. وحين يكون هناك من لا يرى سوى القرآن والسنة مصدرًا للتشريع فلا جدوى من الحديث عن الديمقراطية، فعدم الفصل بين الزمني والروحي هو عائق أبستيمولوجي يحد من المفهومات، ويقيد حركتها، ولا يمكن توطين الديمقراطية في ظل وضع كهذا، يختلط فيه الزمني باللازمني، والمدنس بالمقدس، مما يحرم الإنسان من إمكان إنتاج مفهومات ومقولات وتصورات تخص عالم الواقع، ويفتح الباب أمام كل أيديولوجيا، وتغيّب اليوتوبيا أبعاد الواقع. مع ذلك، ليست العلمانية، في رأيه، أيديولوجيا خَلاصية، بل آلية سلبية لفصل الدين عن الدولة، هي لازمة، ولكنها ليست كافية.

وللخروج من هذا المأزق، مأزق عدم الكفاية، لا بد من إعادة اكتشاف العلمانية في الساحة الإسلامية، وتطويرها مفهوميًا، وتكييفها تنفيذيًا، الأمر الذي يتطلب علمنة الدولة والمجتمع، لضمان التحييد الطائفي للدين. من دون ذلك، لا يمكن التأسيس لشرعية التعددية الدينية، ولشرعية التعددية ضمن الدين الواحد.



الثورة والديمقراطية
نستحضر طرابيشي بعد عشر سنوات على ثورات الربيع العربي المتعثرة، وأراه حاضرًا في الجدل حول أسباب هزيمة ثورات الربيع العربي، التي إما استحالت حروبا أهلية، أو اختطفتها الثورات المضادة، ممثلة بالميليشيات الإسلاموية المسلحة، أو ببقايا النظام القديم وجنرالاته، وهو الذي طالما رأى أن العلمانية هي القاعدة لأي انتقال ديمقراطي، طالما كان الواقع العربي مخترقًا طائفيًا، وبقي مقتنعًا أن الثورة تتعارض والديمقراطية، فبينما تصنع الثانية خصمًا سياسيًا، فإن الأولى تصنع عدوًا يجب إلغاؤه، وكما أن خيار الثورة النصر، أو الموت، فإنها في المقابل لا تترك للحاكم سوى خيار مماثل. أليس هذا النوع من الاستعصاء، بالإضافة إلى التناقض بين الثورة والديمقراطية، خصوصًا في مجتمع غير معلمن، هو ما يجعل سقف الثورة، في حال نجاحها، استبدال نظام بآخر مختلف عنه في صورته الخارجية وشعاراته المعلنة، وحربًا أهلية في حال هزيمتها؟

يرى طرابيشي أنه ليس بالضرورة أن تؤدي الثورة إلى الديمقراطية، ولا أن تتأسس الأخيرة عليها، فمنطق الديمقراطية هو المراكمة والحفاظ على المؤسسات القائمة، أما منطق الثورة فهو النفي والإلغاء والإبادة. وبينما تميل الثورة إلى استخدام العنف والقوة وسائل للوصول إلى غايتها، فان الديمقراطية تصل غايتها عبر الحوار والمناقشة العمومية بين كافة فئات الشعب. لا يعترف طرابيشي، الذي يتمسك بالإصلاح التدريجي، بعبارات من نوع: "ثورة ديمقراطية"، و"ديمقراطية ثورية"، ونحوهما، لأن الثورة تستبعد الديمقراطية بقدر ما تستبعد الثانية الأولى، بل تتماثل الثورة مع الظلامية في قسوتها على أبنائها، فهي لا تطيق وجود متنورين حتى في صفوفها وغاياتها. وفي 28 أيار/ مايو 2000، كتب جورج طرابيشي في مقال له بعنوان "سورية: من الإصلاح إلى الثورة" أن التغيير "يأتي محمولًا على أجنحة إصلاح الأنظمة الحاكمة لنفسها". بدا طرابيشي في حينه متيقنًا من أن الثورة لن تقود إلى الديمقراطية، فالصراع هنا بين نسبي يواجه نسبيًا، أما في الثورة فيتمحور الصراع بين مطلق من الخير ومطلق من الشر، فالخصوم في الديمقراطية هم أعداء في الثورة، ونصيب الخصم هو الإبعاد المؤقت، أما نصيب العدو فهو التصفية.
الوظيفة التاريخية للثورات هي تجديد السلطة، لذا لا تشكل الثورة حلًا سحريًا لتغيير النظم المستبدة، ولإحلال نظام ديمقراطي مكانها، بل سقفها هو استبدال نظام بآخر مختلف عنه في صورته الخارجية وشعاراته المعلنة، فديمقراطية يظن الأفراد أنها لازمة حتمية عن انتصار الثورة هي وهم عاطفي، إذ بمجرد أن يصل الثوار إلى موقع مناقض لما قامت الثورة لأجله، سنجد أنفسنا أمام نفس البنى التي أنتجت الاستبداد والطغيان. من جهة أخرى، فإن الحاكم الذي يحتكر القوة والعنف الشرعي سيجد نفسه محشورًا في الزاوية، وكما أن خيار الثورة هو إما أن تطيح بالنظام الذي ثارت عليه، أو تموت دون أن تحقق أهدافها، فإن الخيار المتروك للحاكم هو إما أن يخرج من الحكم مقتولًا، أو أن يتصرف كقاتل إن أراد البقاء. لا ينكر طرابيشي على الثوريين حقّهم في الثورة، والواقع العربي يمنحهم مبرراتها، ولكن ليس ثمة أمامهم من خيار آخر غير أن يكونوا ثوريين، ولا يمكن لهم أن يقدموا أنفسهم، والحال كذلك، على أنهم ديمقراطيون.



طرابيشي وثورات الربيع العربي
مع اندلاع ثورات الربيع العربي، ظل طرابيشي أمينًا لهذه النتائج التي أوصله إليها منهجه النقدي، مهما أمل أن تكون تحليلاته بهذا الخصوص خاطئة، ومهما أمل الثوريون العرب أن ينحاز إلى صفوفهم، ففي مقال له، بتاريخ 21/3/2011، بعنوان "تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير"، تحدّث عن تاريخه الشخصي، بوصفه ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر من كونه ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة، وتمنى أن يكون توجّسه في غير محله، وأن يكون مآل ثورات الربيع العربي غير مآل الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الأيديولوجيا الدينية. التطورات اللاحقة أكدت توجسه كما يقول، ولم يفتح في رأيه الربيع العربي سوى أبواب الجحيم، والردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى الصليبية ـ الهلالية. وفي أيار/ مايو 2011، كتب تحت عنوان "سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء"، فرأى ان سورية المتعددة الطوائف والأديان والإثنيات تقف على أبواب جحيم حرب أهلية، ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بنفسه، وإلا فلا سبيل إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار.

بعد صمت دام خمس سنوات، أمام هزيمة إضافية، وصف طرابيشي توقفه عن الكتابة، وهو الذي لم يفعل شيئًا طوال حياته سوى الكتابة، بالموت الصغير "على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن". وعاد على آخر ما كتبه في عام 2011، ليجد أنه كان حينها متفائلًا، وأن مطالبة النظام بإلغاء نفسه تفاديًا للحرب الأهلية كان في غير محله، وأنه لم يدرك حينها دور العامل الخارجي في بداية الانتفاضة؛ إعلامًا وتمويلًا وتسليحًا، والذي يدفع اليوم الشعب السوري ثمنه دمًا وموتًا ودمارًا، والذي يكاد يكون في ظل ظروف إقليمية وأممية تشهد احتدامًا في الصراع الطائفي السني الشيعي، تكرارًا للصراع الطائفي الكاثوليكي البروتستانتي، الذي شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
نعم، لم يكن طرابيشي ثوريًا، بل كان إصلاحيًا، لكنه كان مثقفًا مارس دوره استشرافًا للمستقبل إلى حد بعيد.

إحالات
مصادر:
1 ـ جورج طرابيشي، في ثقافة الديمقراطية (بيروت: دار الطليعة، 1998).
2 ـ جورج طرابيشي، هرطقات (2) عن العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية، ط1 (بيروت، دار الساقي، 2008).
3 ـ جورج طرابيشي، المثقفون العرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1991).
4 ـ مقال جورج طرابيشي، ست محطات في حياتي، على موقع العربية: https://bit.ly/3fkrhvd

مراجع:
ـ غسان علاء الدين، "نقد مفهوم الديمقراطية عند جورج طرابيشي"، مجلة قلمون، العدد السادس، تموز/ يوليو 2018، ص 131- ص 155.