Print
فريد الزاهي

مراسلات الخطيبي وجاك حسون: حوار اللغة والدين والتصوف

6 أبريل 2021
آراء
في الوقت الذي كان فيه عبد الكبير الخطيبي يعدّ لندوة "الازدواج اللساني" في الرباط، في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي (والتي حضرها جاك دريدا، وتزفيتان تودوروف، وغيرهما)، التقى في باريس جاك حسون، المفكر والعالم النفساني اليهودي ذا الأصول المصرية، والمولود في الإسكندرية. اتفق الرجلان على تبادل مراسلات فكرية تتناول القضايا التي تهمهما معًا، من قبيل اللغة، والأصول السامية المشتركة، والتصوف، والقبالة، وغيرها. كان الخطيبي قد طرق سنوات من قبلُ قضايا الأصول المشتركة بين اليهود والعرب في كتاب "الحمى البيضاء" (1974)، الذي ترجم إلى العربية مع نصوص أخرى، ونشرته دار عويدات في 1980، بحيث يمكننا القول بأن هذا الحوار مع مفكر يهودي من مواليد مصر، يتقاسم معه تجربة الازدواج اللساني، وقضايا الفكر واللغة والدين، يشكل امتدادًا تركيبيًا لاهتمامه بالإسلام، وبالتحليل النفسي، وبقضايا الآخر.
ونحن نستعيد هذه المراسلات التي صدرت بعنوان "الكتاب المشترك"، نرغب في الحفر في ذاكرة الفكر العربي، وفي قضاياه المنسية، وجوانبه المنيرة والاستشرافية. ففي نظرنا، ليس الفكر العربي هو المكتوب بلغة الضاد فقط، وإنما، أيضًا، ما كتب ويكتب بلغات الآخر، بوجدان عربي قد لا يكون عروبيًا قوميًا، غير أن انتماءه لا يمكن لأحد أن يسحبه منه بأي وازع، أو قرار.

الغريب في أمر المهتمين بفكر عبدالكبير الخطيبي تركيزهم على كتاباته الأدبية، وعلاقته بالفرنكفونية (وكم كان الرجل نقّادًا لها)، والحال أن الرجل كان وظل مفكرًا حتى وهو يكتب الرواية والشعر، ولم يكف في أيّ من نصوصه في أن يعلن انتماءه الوجودي إلى بلاد عشقها واستقرّ بها، خلافًا لكثيرٍ من أنداده الكتاب الفرنكفونيين. ولعل عدم ترجمة مجموعة من كتاباته للعربية (كتاب الدم، من فوق الكتف، الكتاب المشترك... وغيرها) لدليل على الطابع المكثف والتركيبي لفكر عبدالكبير الخطيبي من جهة، وعلى حدود اهتمام الثقافة العربية بجوانب هذا المفكر المتعددة والمربكة، في الآن نفسه. فلقد أرسى الخطيبي بهذه المراسلات، وبأخرى تبادلها مع المحللة النفسانية المغربية، غيثة الخياط (2004)، تقليدًا غير معهود ونادر في الثقافة المغاربية والعربية بكافة لغاتها الكتابية (العربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية...). إنه تقليد الحوار والمواجهة والألفة الفكرية.



حوار الأصول والمعتقد والثقافة

كتاب مراسلات عبد الكبير الخطيبي وجاك حسون بالفرنسية 



ما الذي كان يتغياه المفكران من هذه المراسلات المكتوبة بلغتهما المشتركة؟ أليس هو إمكان التداول الفكري العميق في أمور ظلت مكبوتة الفكر العربي واليهودي المعاصر؟ أي ما "يحركنا نحن الاثنين بهويتنا العارضة، كي نحرر، ولو قليلًا، النقاش المضطرب بين من يعدون أنفسهم عربًا، أو يهودًا، كي يتقبلوا المسكوت عنه"(ص 13)؟ يغدو تحرير النقاش من معوقاته التاريخية استعادة للتعايش المشترك الذي ساد لقرون عديدة بين العرب واليهود في قلب الأراضي العربية، من العراق إلى المغرب، مرورًا بمصر وتونس والجزائر، وغيرها. وشغف الخطيبي بهذا الحوار يأتي بشكل ما تلطيفًا للهجة السجالية التي حاور بها المفكر الفرنسي، جان بول سارتر، في كتابه السابق بصدد القضية اليهودية، ونقاشًا للائتلافات أكثر من الاختلافات. فإيمان الخطيبي الذي عبر عنه مرارًا بقوة التفاعل الفكري على أرضية مشتركة يغذي الاختلاف ويقويه، ويجعله ناظمًا للإبداع والتفكير المشترك. إنه ابتعاد حثيث عن الانغلاق في هوية وحشية ترفض الآخر، وترمي به في خارج مطلق لا يقبل التفاعل والتفاوض الفكري.

لم يكن جاك حسون بالمحاور الهين، فقد أدرك منذ الوهلة الأولى أن ثمة ثلاثة أمور تربطه بندّه هذا، الآتي إليه من عمق وثقافة مشتركين، ومن تقليد تعايشٍ ما زالت آثاره ماثلة: اللغة (الفرنسية، لغتهما المشتركة في الكتابة والفكر والحوار)؛ واللغة العربية التي لا يني الخطيبي يعتبرها تتكلم وتعيش في قلب لغته الفرنسية (وذلك ما يحكيه نص "عشق اللسانين")، والتي بصددها يؤكد جاك حسون أنه يكتب الفرنسية بالعربية والعبرية؛ ثم أخيرًا أنهما ينتميان معًا إلى بلدين عربيين، هما مصر والمغرب. وها هي علاقة المشرق بالمغرب تأخذ مسيرًا مغايرًا لذلك الذي اتخذه في الفترة نفسها سجال الجابري مع حسن حنفي على صفحات مجلة "اليوم السابع" في باريس. وبخصوص مسقط الرأس، نحن نعرف كم يولي الخطيبي لاسمه ومسقط رأسه من قيمة رمزية في صياغة أسطورته الشخصية، خاصة في سيرته الذاتية والفكرية "الذاكرة الموشومة". لنقرأ، في المقابل، كيف يؤسس جاك حسون لهذا الحوار بالحديث عن موطنه الأصل: "إنني آت من منطقة حيث سعى اليهود لمدة ألفية كاملة من مدّ الجسور بينهم وبين الإسلام، حتى وهم يضخمون من الاختلافات التي قد تميزهم عن محيطهم العربي الإسلامي. وهو ما كان يغدو عادة أمرًا نافلًا. وأن أسمح لنفسي اليوم بأخذ الكلمة من غير أن يكون ذلك عبارة عن استعادة، أو تنويع نافل على اللقاء الأصل، أو يتوق إلى محو القرنين الأخيريْن، هو رهان أريد حمله"(ص 20).
يصعب على العربي النطق باسم الرب اليهودي (يهوه)، فيما أن اليهودي لا يفهم جيدًا لماذا يحمل اسم الله الشَّدَّة، وهو أصلًا مشدّد باللامين. لكن هذا الاختلاف بين الإله الإسلامي، والإله اليهودي، يجد بعض عناصر التلاقي في أمرين: تحريم التصوير والتشخيص الذي مكن الإلهين من الانحجاب والتجريد، وما تقدمه اللغة العامية في ثقافة جاك حسون، كما الخطيبي، من عمليات القلب التي تسمي الأعمى "بصيرًا". أليس البصير اسمًا من أسماء الله الحسنى، كما يعلق الخطيبي؟ هذا ما يقود المفكريْن إلى هوامش خصبة في الثقافتين تتعلق بالتصوف، باعتباره مخزونًا خصوصيًا كثيرًا ما تتلاقى عناصره بين القبالة والتصوف الإسلامي، مقابل التنافي الذي طبع الديانتين منذ عصر الرسول الإسلامي، وحكاية الإسرائيليات، وسعي الإسلام في مرحلة تكوّنه للتميز الأعمق عن معطيات الديانة اليهودية التي كانت له مصدرًا لا ينضب معينه.

المفكر والعالم النفساني الفرنسي اليهودي ذو الأصول المصرية جاك حسون 


هنا، في هذه المراسلات، يتبدى لأول مرة، وبشكل واضح، موقف الخطيبي من التصوف، الذي يقوم بمعارضته مع المنزع الصوفي mysticism. فهو يعتبر أن التصوف لم يولد مع مفهوم الإله، أو بعده، بل هو بالأحرى الإمكان التلفظي لخلق الآلهة؛ والتصوف الذي يتم الحديث عنه عمومًا، أي ذلك الذي يتعارض مع اللاهوت، ويتبدّد فيه، هو تصوف جاء متأخرًا عن الأول، فهو قد تبلور في الديني باعتباره "آخر" الشريعة الدينية. إننا هنا أمام تأويل جذري لما جاء به ابن عربي في مسألة الولاية، باعتبارها سابقة على النبوة، وأقرب لألوهة تتأولها بشكل أنثوي واضح انطلاقًا من الحديث القدسي: "كنت كنزًا منسيًا، فأحببت أن أعرف". فالمتصوف بشكل ما هو خالق الألوهة بالعرفان. بل إن ما يهم الخطيبي في التصوف هذا هو مفهوم السر الذي يتبلور في مفهوم العرفان (ص 34). وأنا أعيد قراءة هذا المقطع من الحوار، أدركت جيدًا لماذا، حين قرأ الخطيبي دراستي بالفرنسية عن روايته "رحلة حجّ فنان عاشق" (2003)، التي اعتمدت فيها منظور ابن عربي الصوفي، قال لي بعد أن أبدى إعجابه بالدراسة: "غير أنني لست أندرج أبدًا في باب التصوف"...

تأخذ اللغة في هذه المبادلات التراسلية مكانة خاصة، كعماد وسند للحوار، وكمدخل مشترك للاختلاف الثقافي في صلب مفهوم الكتاب: ذلك المكتوب (التوراة)، الذي لا يقبل بأن يكون أي شرح، أو تعليق عليه، إلا شفويًا، وذلك المكتوب سلفًا الذي لا يمكنه إلا أن يُقرأ (القرآن). يمنح الكتاب المقروء (القرآن) في المفهوم الإسلامي حظوة ما للديانات الثلاثة، ويمنحها إمكانًا في الحوار، وفي التسامح، وفي بناء لغة ممكنة للتعايش، ضدًا على كافة الاختلافات الوحشية التي رمت بالآخر اليهودي في خارج اللغة العربية، ومفهوم الألوهة. ذلك أن اللاتسامح حسب الخطيبي يتطلب أن نعارضه بالانشقاق (وهو مفهوم عزيز على تودوروف، وعلى جان جونيه)، أي "انشقاق عن كل شكل من أشكال الانغلاق والانغلاق الذاتي في قوته القاهرة على التدمير والخراب والإنكار"(ص 41).



عرب ويهود ضد الصهيونية

المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي 


في خضم المحاورات، تتعضد الصداقة والألفة الخصبة النشيطة بين الرجلين، فيدعو الخطيبي صديقه جاك حسون إلى كتابة مقال لمجلة الدراسات الفلسطينية المعروفة. الأمر الذي لن يتوانى جاك حسون عن القيام به. ففي هذه الفترة الضبط، كان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في أوجه، وسوف تتبدى حدته الهوجاء والوحشية في خلال هذه المراسلات. لنقرأ ما سيكتب الخطيبي تعبيرًا عن عدم قدرته على الكتابة: "السبت 19 يونيو 1982: 'تكلست يدي. وفي هذا الوقت، جاء غزو إسرائيل للبنان. إنه حدث أدخل بالغ الاضطراب فيّ كما فيك أنت، بيد أنه يبدو لي من القساوة بمكان. فأنا متيقن (من غير أن أحلل تحولاته) أن الخراب الذاتي للصهيونية باعتبارها أيديولوجيا للدولة ـ الجيش سوف تستمر في مسعاها، وأن الحسابات والاستراتيجيات والتكنولوجيات تتكفل بقياس مدى الدمار الذي تترك وراءها (ومعها النجاحات التي تحققها)، فذلك أمر يندرج في السياسة الدولية. اللاعقلانية، نعم؛ القتل، نعم؛ والمجزرة الجماعية الضرورية تبعًا لهذا المنطق، فتلك الدولة تحقق وجودها بطرد الآخر وإعدامه. لكن، يبدو أن هذا الخراب الذاتي للصهيونية هو الآن بصدد تجذير الانشقاقات، وتمزيق الوعي بكون المرء يهوديًا اليوم من ناحية؛ ومن ناحية أخرى بتكوين الشعب الفلسطيني، أو بالمساهمة في تكوينه"(ص 63). إنها رؤية استشرافية قلّما نراها في الكتابات حول الصراع العربي الإسرائيلي.

يتساءل الخطيبي في هذه المراسلات، أيضًا، عن كينونة اليهودي في أفق الكتاب المرجعي. وهو يعتبر أن ثمة يهودًا مقدار ما يوجد ثمة من قراءات وتأويلات للتوراة. بل إنه يعتبر أن مفكرين معاصرين من قبيل إيمانويل ليفناس، وموريس بلانشو، يبدون له أنهم ما زالوا منغلقين في التقديم الحصري للتوراة، وللشعب اليهودي. لذا، نلفيه يتساءل بصرامة برنامجية: "هل يمكننا المساهمة، ولو بالنزر اليسير، في الأخوة الحرة للكائنات الحية؟ (ص 79) يستجيب جاك حسون لهذا المقترح بشكل أكثر جذرية، بقوله: "أن يكون المرء اليوم يهوديًا، أو مسلمًا، هو ضرب من الوهم، كما نقول عن ولع، أو تعلّق، أو حبّ ما، إنه وهم. إنه انخراط في جينيالوجيا تنكشف لنا في الآن نفسه بأنها جينيالوجيا خرقاء. لماذا؟ لأن أنماط هذا الانخراط غالبًا ما تكون ذات طابع رومانسي. وأن يكون المرء يهوديًا، اليوم، هو في الآن نفسه مسألة خصوصية في العلاقة مع نصّ ما، ومسألة متقادمة شيئًا ما" (ص 83). بلانشو، وليفناس، يتعاملان مع القضية اليهودية بكثير من القرب والقرابة. وحده اليهودي المولود في مصر، إدمون جابيس، تعامل مع الواقعة اليهودية بكثير من الالتباس المحرر والحالم. والإسلام، كما يقاربه جاك حسون، يبدو له ضربًا من اللغز السري. وهو لا يفهم لماذا لم يعتنقه اليهود في العصر الوسيط، مع أنه أقرب إليهم من حبل الوريد...


***

وأنا أنتهي من هذا المقال، بلغ علمي أن هذا الكتاب قد ترجم أخيرًا للعربية، وهو ما كان أمنية لي منذ سنوات، بالرغم من أني أعلم ألا علاقة للمترجم بالخطيبي، ولا بالتحليل النفسي (هل يكون ذلك من باب التهافت؟ لا أتمنى ذلك). ففي الشروط الحالية للعلائق بين العرب واليهود، تبدو هذه المراسلات اليوم أشبه بشمس تطل علينا في وضع أقل ما يقال عنه إنه مطبوع بالانحطاط وانغلاق الأفق. إنها مراسلات تفتح مسارب للفكر والتفكير في قضايا مشتركة بين المثقفين اليهود والعرب على خلفية يكون فيها الكتاب المرجعي الديني (القرآن والتوراة) مجالًا لخلق المسافة، ولتحويل الكتابة الشخصية إلى مجال مشترك للحوار الخصب. هكذا يعوض كتاب المراسلات، أو هو بالأحرى يواري الكتاب الديني، ويجعل منه منطلقًا فقط لقراءة جديدة لتاريخ مشترك في كتاب مشترك من طينة أخرى.