Print
خضر توفيق خضر

"امرؤ القيس الكنعاني"

4 مايو 2021
آراء

المتتبعَّ لما كُتِب ونُشِر أخيرًا عن الفدائي الشاعر والأكاديمي عز الدين المناصرة عقب وفاته، سواء كان عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال الصحافة المكتوبة وبعض المنابر الأخرى، يجدُ أنَّ تلكَ الكتابات تطرّقت إلى سيرته الذاتية من مولده ونشأته إلى إحصاء أعمالهِ الأدبية، وهذه هي (كرامات) الشاعر الفدائي. وواقع الحال يأخذنا إلى أبعد من ذلك بكثير. فالمناصرة شاعرٌ موسوعيّ، وأديبٌ مثقف، وأكاديميّ حاذق، وُلِدَ قبل تأسيس دولة الاحتلال بعامين في بلدة بني نعيم الخليلية على بُعد 40 كم من القدس عاصمة فلسطين. ويُعدّ أحد أبرز رموز الثقافة وشعر المقاومة في فلسطين وحاز على رمزية عالية في شعر المقاومة، وهو صاحب معجم شعري واسع. ساهمت نصوصه الشعرية القويّة البليغة في رفعته، حيث تميّزت بسرد شعري (Poetic Discourse) خاص عميق المعرفة يركّز على ثراء النص وبنائه الإيقاعي. وساهم المناصرة في تطور الشعر العربي الحديث وتطوير منهجيات النقد الثقافي حتى وصفه الناقد والأكاديمي إحسان عباس بأنه أحد رواد الحركة الشعرية الحديثة الذي بشّر بنظرية جديدة حول الأدب المقارن. وكان من أوائل الذين استخدموا مصطلح (النقد الثقافي المقارن) في دراسته عن إدوارد سعيد عام (2004) في مجلة "فصول" المصرية، وقبل ذلك استخدمه في محاضراته التي ألقاها في جامعة تلمسان الجزائرية عام 1988. بالتزامن مع ذلك المصطلح، كان التناص (Intertexuality) لجوليا كريستيفا (Julia Kristeva) حاضرًا في شعره حيث اعتبر المناصرة أنه يؤدي دورًا محوريًا في النصوص، سواء كانت نصوصًا أدبية أم ثقافية، وذكر ذلك في كتابه "علم التناص المقارن... نحو منهج عنكبوتي تفاعلي"، وقال إن الموروث النقديّ استعمل مصطلح السرقات الأدبية "التلاص" (Plagiarism)، وهو الذي نحتهُ المناصرة في كتابه "علم الشعريات" عام 1992، وأكّد عليه في محاضرة له في مؤتمر "النقد الأدبي" في جامعة اليرموك الأردنية عام 1996 بعنوان "التلاص في موشّح لسان الدين بن الخطيب"، ويعتقد المناصرة أنه تطرّق إلى هذا المصطلح وابتدعه قبل ذلك بكثير في عام 1989 أثناء محاضراته بجامعة تلمسان الجزائرية.

لم يتوقف شعر المناصرة عند حدود التراث الفلسطيني، بل نجده يذهب إلى أبعد من ذلك، ليقتبس من التراث العربي القديم، وعُرف بأنه "امرؤ القيس الكنعاني"، فاقتبس من شعر امرؤ القيس عنوانًا لواحدة من قصائده. نجده أيضًا يذكر أسماء الأمكنة التي وردت في معلّقة الشاعر، فكان لها دور سيميائي فاعل في لغته وشعره. تميّز شعره بالصورة الشعرية العميقة (Deep Poetic Image) التي تنبعث منها اللغة الخلّاقة التي تساهم في بناء تقنيات فنية وإبداعية في وجدان وشعور الشاعر الفلسطيني بعيدًا عن أهله وأرضه دون هوية.
واستطاع أيضًا أن يوظّف رمز امرؤ القيس توظيفًا فاعلًا في نصوصه ليصل به إلى مستوى من التعبير في التجرِبة الشعرية المعاصرة، كما هو في نص "حصار قرطاج":
لماذا إذا هدأتْ نجمةُ الحربِ
تُعطى الجوائزُ للهاربين؟!!
يا امرأ القيسِ، احذرْ قميصكَ،
قد سَمَّموهُ،
وحاذِرْ خيوطَ مؤامرةِ العنكبوتْ
إنّها في قميصكَ، فانفِدْ بجلدكَ،
رُدَّ الهدايا لأصحابها، لا تكنْ خائفًا
لا تكن كوْمةً من سكوتْ
لئلاّ تموتَ، لئلاّ تموتَ، لئلاّ نموتْ..



ونجده أيضًا في نص آخر من ديوان "عنب الخليل" حاضرًا بسيرته، وشعره، ونثره، وكل ما يحمل من تفاصيل استثمرها الشاعر وأعطاها ملامح المعاصرة:
يا أيها المهزوم
يا سيدَ الشعرِ
قلنا.. تخون الرومْ
في ثوبكِ المسموم
وأنتَ لا تدري
وربما تدري..
وظّفَ المناصرة الأسطورة في شعره بشكل رمزيّ لاستشراف الغد، كما فعل في قصيدة "زرقاء اليمامة" (1966) وجعل منها رمزًا للقوة. ومن نافلة القول إن بدر شاكر السياب، الشاعر العراقي، كان من أكثر الشعراء العرب استخدامًا للأسطورة في شعره، ومثال ذلك "أنشودة المطر".

يُجيدُ المناصرة استخدام القِيم الأسلوبية والجمالية في شعره، حيث كان محطّ اهتمام النُقاد المصريين المهتمين بالشعر الحديث أمثال صلاح فضل، وعز الدين اسماعيل، وغالي شكري، والشاعر صلاح عبد الصبور وغيرهم.
تُرجمت أعماله الشعرية إلى أكثر من لغة عالمية، وصدرت له كتب في الفن التشكيلي الفلسطيني، ودُرست أعماله وتمّ تحليلها من قبل الباحثين والدارسين من خلال أبحاثهم، وأطروحاتهم، ورسائلهم العلمية على مستوى دراسات الماجستير والدكتوراه.
أنهى حياته مدرّسًا جامعيًا، وعمل خلالها في عدة جامعات بدءًا من جامعة تلمسان الجزائرية وانتهاءً بفيلادلفيا الأردنية في عمان وكان عميدًا لكلية الآداب فيها.
عز الدين.. ستبكيكَ القصائد من "عنب الخليل"، "وجفرا"، إلى "حصار قرطاج"، "وقيثارات الكنعانيات"... وسيبكيكَ المنشدونَ وهم يُغنون:
بالأخضر كفّناه بالأحمر كفّناه
بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه
..
لا الريح تُحاسبنا إن أخطأنا لا الرمل الأصفر
لا الموج يُنادينا إن خطف النوم أعيننا
والورد احمرّ
يا دمَهُ النازف إن كنتَ عذابًا يوميًا
لا تصفرّ....

*كاتب وأكاديمي فلسطيني.