Print
أحمد عبد الحليم

المثقف والحقوقي والداعية.. حول إشكاليّة تمييز السلطة في القمع

23 يونيو 2021
آراء

 

لا تقف أي سلّطة قمعية على مسافةٍ واحدةٍ مِن معارضيها، دائمًا ما تنظر السلطة إلى كلّ معارض وتقيّمه حسب تأثيره ومدى خطورته بالنسبة لاستقرارها، ونتيجةً لذلك التقييم تبدأ في خطوات العقاب. السلطة في مصر بما أنّها قمعية بامتياز، لا تُستثنى من ذلك، سيّما منذ بداية الحكم العسكري عام 1952 حيث توحّش القمع والعقاب لفئات معارضة متنوعة من الشعب.

طُرح مؤخرًا جدال حول التمييز في القمع عندما اعتقلت السلطات المصرية نشطاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي مؤسسة حقوقية تعمل من داخل مصر في ملفّات اجتماعية وسياسيّة متنوعة، حيث تمّ الإفراج عن المقبوض عليهم بعد أسابيع قليلة من اعتقالهم، بعدها حاول الصحافي حسام بهجت، وهو مؤسس المبادرة، الإجابة عن السؤال المُحيّر. لماذا تضامنت جهات وشخصيّات خارجيّة رسمية وغير رسمية مع نشطاء المبادرة إلى أن أُفرج عنهم، بينما يتواجد عشرات الآلاف من المعتقلين لم يتضامن معهم أحد. لكن حتى لو تضامنت تلك الجهات وأكثر لن يُفرج عنهم، وذلك لأن السلطة تميّز في القمع، وتستجيب لما تراه مناسبًا لسياساتها، هذا بالطبع ليس تقليلًا أو تشكيكًا في عمل أي معارض، بل هي إمكانية السلطة التي تختار كيفيّة القمع، تختار متى وكيف وعن مَن تعفو. أحاول هنا طرح تعريف متنوّع وواقعيّ للمعارض المصري، ذاكرًا ملامح مختصرة للسياق التاريخي لتعامل السلطة المصرية المختلف مع المعارضين من حيث القمع.
 

من هو المعارض؟

ربما يكون المعارض مثقفًا يعمل ككاتب، يسجل التاريخ في المذكرات، أو صحافيًا يمتلك عمودًا في جريدة، أو أديبًا يقدّم معارضته بشكلٍ خياليّ يمسّ الواقع، أو فنانًا يحترف التمثيل أو الرسم في التعبير عن المعارضة التي يتبنّاها، وربما يكون حقوقيًا يعمل في مقاومة القوانين القمعية التي تشرّعها السلطة، ويدافع عن المظلومين من السياسات الحكوميّة، ربما يعمل بشكلٍ فرديّ أو ضمن منظمةٍ، أو يكون المعارض داعيةً لأي أيديولوجية، رجل دين له شعبيّة، يخطُب في الفضاءات التعبّديّة (دور العبادة) فيستطيع حثّ وتعبئة الناس على فعل شيء ما، فعلُ يؤيّد بقاء السلطة أو يحرّض على زوالها، يستطع عمل ذلك بمفرده أو ضمن جماعة أو حزب له أفكارٍ تخصّه.

لا يتعارض أن يكون المثقف داعية أو يصبح المثقّف حقوقيًّا، أو يمتزج الثلاثة ببعضهم. تكون المعارضة الجماعيّة أقوى، بل وتستطيع تهديد بقاء السلطة، وقادرة أيضًا على إزالتها ولو بالعنف، وجاهزةً لأخذ مكانها نظرًا لقدرتها الجماهيريّة على الحشد والتأييد والإقناع بانتخابها كبديلٍ للسلطة السابقة، لذا تحاول تلك السلطة استمالتها وكسب تأييدها كما حدث أحيانًا، وأخرى تقمعها حتى تستأصل وجودها كما في أحيانٍ أُخرى.
 

محمد نجيب وعبد الناصر



تأريخ أدوات القمع المختلفة

بعد أن تولّى الضباط الأحرار حكم مصر في تموز/ يوليو عام 1952، ظهر لجمال عبد الناصر عدّة معارضين، كان أوّلهم من داخل السلطة وهو رئيس مجلس قيادة الثورة ورئاسة الجمهوريّة حينها محمد نجيب، حتى استطاع عبد الناصر التخلّص منه ووضعه تحت الإقامة الجبريّة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1954 ليصبح بدلًا منه رئيسًا للجمهورية المصرية بشكلٍ رسميّ في استفتاء شعبيّ عام 1956. رأى عبد الناصر الخطر في استقرار حكمه من تنظيميّن وهما الإخوان المسلمون والشيوعيون، بدأ عبد الناصر بالإخوان فحلّ الجماعة وزجّ بأعضائها في السجون بدايةً من عام 1954، ومن ثمّ توجه للشيوعيين في عام 1959، وأذاقهم ويلات العذاب والتشريد والسجن والقتل في معتقلاته.

لم يكتفِ قمع الناصريّة بالأحزاب التي تُشكّل خطرًا على استقرار حكمها، بل قمع أيضًا النخبة الثقافية التي اعترضت على توغل الدولة في الحياة المدنيّة الخاصة بالمواطن. فقد اعتقل الكاتب والسياسيّ إحسان عبد القدوس وهو صديقٌ شخصيّ قديم لعبد الناصر لمدة 3 أشهر في السجن الحربيّ، من نيسان/ أبريل حتى تموز/ يوليو من عام 1954 بسبب مقالته في جريدة "روز اليوسف" بعنوان "الجمعية السرية الذي تحكم مصر" والتي دعا فيها مجلس قيادة الثورة لإنشاء حزب ثوري مدنيّ والسعي إلى حكم انتقالي ديمقراطي. كذلك الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي اعتقله نظام عبد الناصر في عام 1965 ليخرج بعد عامٍ واحد، بالإضافة إلى منع وفصل الكاتب والروائيّ أنيس منصور من عمله كصحافيّ وأستاذ بكليّة الآداب بجامعة عين شمس لكتابته مقالًا في جريدة "أخبار اليوم" عام 1963 بعنوان "حمار الشيخ عبد السلام" ينتقد فيه أوضاع الصحافة المصرية المؤمَّمَّة من قِبل النظام الناصريّ. كذلك لا بد من ذكر اضطهاد الناصريّة للموسيقار الشهير محمد فوزي لمجرّد صداقته القديمة مع غريم عبد الناصر الأول، محمد نجيب. بالرغم من اضطهاد ناصر للنخبة الثقافية من الكتاب والصحافيين والفنانين إلّا أنّ قمعهم كان أخفّ كثيرًا مقارنةً بالعذابات الذي طالت الإخوان والشيوعيين في العهد الناصريّ. [1]

 

اعتقل نظام السادات أحمد فؤاد نِجم ومُنع أمل دنقل من الكتابة


جاء السادات بقمع أخفٍ سواء للأحزاب السياسيّة أو حتى للمثقّفين، أعطى المجال العام طيلة السبعينيات مساحةً أكبر للإسلاميين للانتشار والدعوة، خاصم السادات اليسار، كذلك الطلّاب والعمال، بسبب سياساته الاقتصاديّة الجديدة التي طالما كانت محلّ اعتصامات وانتفاضاتٍ من قِبَلهم، إلّا أنّه بدأ القمع قُبيل اغتياله بشهرٍ واحد في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1981، فيما يعرف "باعتقالات سبتمبر 1981". قبل ذلك في عام 1974، اعتقل نظام السادات الشاعر أحمد فؤاد نِجم بسبب القصائد المعارضة لسياساته، القصيدة المشهورة باسم "شرفت يا نيكسون بابا" قبل أن يخرج ثم يُعاد اعتقاله عام 1977 بسبب قصيدة أخرى، بالإضافة إلى اعتقال الشيخ إمام والمخرج على بدرخان والفنان علي شريف في نفس القضيّة الأولى، كذلك مُنع شاعر الرفض العربي أمل دنقل من الكتابة والحديث في الصحف والجرائد بسبب قصائده المقاومة لسياسات السادات مثل قصيدة "الكعكة الحجرية"، والقصيدة الرافضة للتطبيع والمصالحة مع الاحتلال الإسرائيلي المعروفة باسم "لا تصالح"[2].

طوال عقديّن كامليّن (1981-2000) تجسّد العدو الأوّل واللدود لنظام مبارك في الجماعات الإسلاميّة المسلحة، وخاض نظام مبارك حربًا صفريّة معهم، تمثلت باعتقال الآلاف من أفراد الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، وقُتل العشرات منهم في الشوارع، وعشرات أحكام الإعدام التي نُفذت بحقّهم. إثر عمليات قتل واغتيال نفذتها الجماعتان بحق عسكريين ومدنيين وشخصيات نظاميّة وثقافيّة. رأى مبارك أن المعركة صفرية لا تحتمل التفاوض بالنسبة لنظامه، عكس ما انتهجه مع جماعة الإخوان التي سلكت الحراك السياسي والتشريعي بجانب الأحزاب الأُخرى. لم تسلم جماعة الإخوان وأحزاب وشخصيات سياسية اُخرى مستقلة من القمع، ولكن كان بدرجات أخف وطأة لا تصل إلى التصفية الجسديّة والتعذيب مثل تزوير الانتخابات، الفصل من العمل، الاعتقال لمدة شهور، وذلك في مناسبات سياسيّة معيّنة [3]. 

لم تشهد النخبة الثقافية أيضًا قمعًا كبيرًا، اكتفت السلطة بالرقابة وتشريع القوانين التي تحدّ من حرية الصحافة، كَقانون 93 عام 1996، أيضا تعرضت عدّة أفلام سينمائيّة لمضايقاتٍ من الدولة والرقابة قبل بثّها. كفيلم "ظاظا" من تأليف وإخراج طارق عبد الجليل وعلي عبد الخالق والذي يتناول فساد الوزراء وتزوير الانتخابات، وفيلم "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني ومروان حامد، وفيلم "هي فوضى" لناصر عبد الرحمن بالاشتراك مع يوسف شاهين وخالد يوسف. لم يتعرّض أحد من صانعي تلك الأفلام إلى الاعتقال أو المنع أو الفصل من العمل، كان نظام مبارك يُسايس الصناعة الثقافيّة التي تعارضه ظنّا منّه أنها ستظلّ في عقول الجماهير، ولن تخرج إلى الشارع في يومٍ ما لاقتلاع سلطته، ولكن حدث ما لم يتوقّعه في ثورة 25 يناير 2011 التي خلعته من الحكم.


السلطة الحالية: القمع شاملٌ ومميّز

تميّزت السلطة الحاليّة بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي عن السلطات السابقة بشدّة القمع، بل وتوغّل ذلك القمع في أوساط كثيرة. فَالصحافي أو الروائيّ الذي كان يُمنع من الكتابة، أو يُفصل من العمل بسبب آرائه المعارضة سابقًا، حاليًا يَختفي أو يُسجن لسنوات طويلة، وبالرغم من ذلك لا تخالف السلطة نهج التمييز في القمع.

من البديهي بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 أن يكون العدو الأول للسُطلة الجديدة هُم من أُزيحوا بالقوّة من السلطة القديمة، أي الإسلاميين وفي القلب منهم الإخوان المسلمين، لذلك ومع إصرار الإخوان بحق احتفاظهم بالسلطة ضمن مسار العملية الديمقراطية، لم تتردد السلطة في حشد كافة أذرعها الأمنية والثقافية والإعلامية في إقصاء الجماعة من الحياة العامة، حيث بدأت الاعتقالات تطال الآلاف منهم، بالإضافة إلى المذابح في حقهم من قتلٍ مُتعمّد للمئات في المظاهرات والاعتصامات، بالإضافة إلى الفصل من الوظائف والحجز على الجمعيات والمدارس والأموال التي تمتلكها القيادات والشخصيات الإسلامية.

لم يتعرّض أحد من صانعي تلك الأفلام إلى الاعتقال أو المنع أو الفصل من العمل، كان نظام مبارك "يُسايس" الصناعة الثقافيّة التي تعارضه 


توجّهت السلطة سريعًا بالتوازي مع قمع الإسلاميين إلى قمع الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ونشطاء ثورة يناير، بالرغم من مشاركتهم في احتجاجات 30 يونيو والتي كانت بمثابة ظهير شعبيّ استند عليه الرئيس الحالي لانقلابه يوم 3 يوليو. لكنّ السلطة الجديدة لم تسمح لهم بالاحتجاج على قوانين تقرّها الحكومة مثل قانون التظاهر أو التنازل عن جزيرتيّ تيران وصنافير أو تعديل الدستور ولا بالمشاركة العادلة والنزيهة في الحياة السياسيّة. فقامت على التوالي باعتقالهم بداية بالناشط السياسيّ علاء عبد الفتاح وأحمد ماهر وأحمد دومة ومحمد عادل مرورا بخالد داوود وحازم عبد العظيم وماهينور المصري وهيثم محمدين وعبد المنعم أبو الفتوح ومعصوم مرزوق ومئات الأسماء الأُخرى التي لا تربطها علاقة بالتكتّل الإسلامي الرافض للانقلاب، لكنّ السلطة قررت التخلّص منهم ضمن منهجية الانتقام من ثورة يناير ورموزها.

السلطة ذاتها واجهت صراعًا للاستحواذ عليها من رجال داخلها فأقبلَ طرفٌ على إقصاء الآخر، مثل القبض على الفريق سامي عنان بعد إعلانه ترشّحه للرئاسة عام 2018، وبقائه في السجن لمدة عامين قبل الإفراج عنه، ووضع الفريق أحمد شفيق تحت الإقامة الجبرية بالإمارات وترحيله إلى القاهرة فور اعتزامه للترشح للانتخابات الرئاسيّة لعام 2018، قبل أن يُعلن تأييده للرئيس السيسي وغضّ النظر عن الترشح، بالإضافة إلى اعتقال العقيد أحمد قنصوة أواخر عام 2017 بعد ظهوره هو الآخر معلنا الترشح للانتخابات الرئاسية ليتمّ اعتقاله والحكم عليه بعد ذلك أمام المحكمة العسكريّة بـ 6 سنوات مع الشغل والنفاذ.

اعتقلت السلطة أيضًا صحافيين وباحثين في حقولٍ إنسانية وفنّيّة بسبب عملهم الصحافي والأكاديميّ وكتاباتهم وآرائهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ مثل اعتقال الصحافي محمد منير وإسراء عبد الفتاح وسُولافة مجدي وحسام الصياد والباحثين عبده فايد وعمر الشنيطي، واليوتيوبر شادي سرور، أمّمّت السلطة أيضًا العمل الفنّي في المسرح والسينما والتلفزيون، فلم يخرج خلال سبع سنوات أي عملٍ ينتقد النظام الحالي بشكلٍ مباشر. ومن صرّح بمعارضته للنظام الحالي من الفنّانين المحسوبين على ثورة يناير، كان عمرو واكد وخالد أبو النجا وهما مقيمان خارج مصر، وتلاحقهم قضايا إثر تهم الخيانة العظمى. أما بقيّة الفنانين فإما موالين للسلطة وإنجازاتها ومؤتمراتها على سبيل المثال أحمد حلمي ومحمد رمضان وأحمد عز وأحمد فلوكس والعشرات غيرهم أو صامتين خائفين من بطش السلطة واتهامهم بالخيانة والعمل مع جهات أجنبية لتخريب الوطن.

هكذا شعّبت السلطة قمعها عن طريق السجن والتهديد عند كلّ الأوساط السياسية والحقوقية والثقافية في مصر. وبالرغم من ذلك كان القمع بدرجاتٍ مختلفة، فَطال الجميع الاعتقال والسجن، إلّا أن التصفيات الجسدية وليال التعذيب أثناء التحقيق كانت من نصيب الإسلاميين، وخصوصًا بعد اتجاه البعض منهم لتنفيذ عمليّات مسلحة ضد أجهزة الدولة الأمنية. أيضًا تُعرف دولة يوليو العسكرية منذ قيامها أن التنظيم السياسي صاحب المرجعيّة الدينيّة هو الأخطر على استقرار حكمّها متمثّلا في التكتّلات الإسلاميّة التي استطاعت خلال عامين من بعد ثورة يناير أن تستحوذ على البرلمان والرئاسة المصرية، لذلك تسعى كلّ سلطة جديدة لاستمالة بعض من الكتل الإسلاميّة غير الحركية كالدعوة السلفية وحزب النور وجماعة التبليغ والدعوة. وتستعين السلطة القمعيّة أيضا بالمثقفين والفنّانين والحقوقيّين كَأبواق إعلامية ودبلوماسيّة تحسّن صورتها مقابل مكاسب ماديّة تتوفّر لها.

 

مراجع:

1- للمزيد حول اضطهاد عبد الناصر للإخوان والشيوعيين والمثقفين:
- عبد العظيم رمضان، قصة عبد الناصر والشيوعيين، جزآن، ط1، 1998، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- عبد القادر ياسين، الحركة الشيوعية في مصر 1921- 1965، ط1، 2011، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- جابر رزق، مذابح الإخوان في سجون عبد الناصر، ط1، 1978، دار الاعتصام.
- محمد الصروي، الإخوان في سجون مصر من عام 1942- 1975، ط1، 2006، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
- أنيس منصور، عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا، ط1، 1988، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.
2- للمزيد انظر:
- صلاح عيسى، شاعر تكدير الأمن العام، ط1، 2007، دار الشروق.
- عبلة الرويني، الجنوبي، ط1، 1992، دار سعاد الصباح.
3- للمزيد حول النظام المصري والجماعة الإسلامية:
- سلوى العوا، الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر (1974-2004)، ط1، 2004، مكتبة الشروق.
-عبد اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف: تحولات الجماعة الإسلامية في مصر، ط1، 2005، أطلس للنشر.