Print
عبد الرحيم العلام

الرواية المغربية في بداية الألفية الجديدة.. منعطف جديد؟

12 يناير 2022
آراء



عرف المشهد الروائي في المغرب حدوث طفرة جديدة ومتواترة في الإنتاج الروائي الجديد، منذ تسعينيات القرن الماضي، في تنوع أشكاله وثيماته وأسئلته ودلالاته، بما هي بداية وجدت في التراكم الروائي المتزايد، على مدى سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة، امتدادًا وإضافة جديدين لها، وهو ما يزكي، إلى حد ما، مشروعية القول بارتسام ملامح انعطافة جديدة في مسار الرواية المغربية، وخصوصًا تلك المكتوبة باللغة العربية واللغة الفرنسية، يساهم فيها روائيون وروائيات على حد سواء، وقد اتسعت دائرة انتمائهم الزمني والجغرافي، في انحدارهم من المراكز والأقاليم والأطراف (من شمال المغرب وشرقه وغربه وجنوبه ووسطه وصحرائه)، ومن بلاد المهجر.

لقد حملت هذه البداية الروائية الجديدة معها مؤشرات على حدوث تحول في وعي روائيات وروائيي هذه المرحلة الجديدة، بما هو وعي بالتحولات الفنية والجمالية التي طالت كتابة الرواية في العالم، الأمر الذي تكشف عنه بعض نصوص هؤلاء الروائيين، في انحدارهم من فئات عمرية مختلفة، من حيث توفر نصوصهم الروائية الأولى على قدر عال من النضج والتركيب الفني والمتعة الجمالية والبصرية والنفسية والتعبيرية، وتلك خاصية ميزت أيضًا العقد التسعيني من القرن الماضي، وهو العقد الذي مهد لظهور كتاب رواية جدد، تمكنوا بنصوصهم الروائية الأولى من اختراق مدونة الرواية المغربية وتطويرها والإضافة إلى تراكمها العام.

هكذا إذن، تمكنت هذه الأصوات الروائية الجديدة في المغرب من مواصلة رحلة كتابة الرواية والإضافة إلى تراكمها العام، في ظل ظروف تاريخية وسياسية وثقافية مغايرة، اتسمت في عمومها بحدوث انفتاح ملحوظ في مجال الحريات العامة، بما فيها حرية التعبير والرأي والتفكير، وأيضًا في مجال تقنيات التواصل والإنترنت، بموازاة مع اتساع دائرة الإقبال على كتابة الرواية في عالم اليوم، مع جعل عدد الكتاب المغاربة، ممن أقبلوا على كتابة الرواية أو انعطفوا نحوها، مع بداية الألفية الجديدة، مقارنة بعددهم المحدود في العقود السابقة، قادمين إليها من مجالات واهتمامات تعبيرية وثقافية ومهنية أخرى: من الشعر والقصة القصيرة والمسرح والنقد الأدبي والتاريخ والفلسفة والفكر والمحاماة والتدريس والجمارك والقانون والإعلام والإدارة والشؤون الدينية...

وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن ما نسميه بالأصوات الروائية الجديدة في المغرب، لا يعني حتمًا انتماء هذه الأصوات جميعها إلى فئة الروائيين الشباب، بل هي أصوات تنحدر من فئات عمرية متباينة، في إقبالها، وفي وقت واحد، على كتابة الرواية، بل يوجد من بينهم عدد من الروائيين، ممن لم يتجاوزوا، وإلى اليوم، عتبة روايتهم الأولى، فيما تمكن آخرون من نشر أكثر من رواية، منذ ظهورهم مع بداية الألفية الجديدة، نذكر من بينهم: كمال الخمليشي، جلول قاسمي، جمال بوطيب، نور الدين وحيد، زهرة منصوري، أحمد الكبيري، عبد العزيز الراشدي، محمد غرناط، محمد أنقار، مصطفى الغتيري، نور الدين محقق، فاتحة مرشيد، بهاء الدين الطود، محمد أمنصور، زهرة رميج، عثمان أشقرا، البشير الدامون، أحمد الويزي، وفاء مليح، وغيرهم. أما أصغر روائي مغربي ظهر مع بداية الألفية الجديدة، فهو "عبد العزيز الراشدي"، من مواليد عام 1978، فيما أكبرهم سنًا، هو "بهاء الدين الطود"، من مواليد عام 1946.

من اليمين (الصف الأول): أحمد الكبيري، أحمد الويزي، بهاء الدين الطود (الصف الثاني): وفاء مليح، فاتحة مرشيد، البشير الدامون



وفي مقابل استمرار غربة مجموعة من نصوص هذه الأصوات الروائية الجديدة في المغرب، على مستوى تلقيها، ما فتئ بعضها يحظى بقسط من الاهتمام النقدي بها عربيًا، وهو ما أكسبها نصيبًا من الاعتراف النسبي بها، بموازاة مع ما حققته هذه الأصوات الروائية من حضور وامتداد جديدين في المشهد الروائي العربي، وقد تخطت بعض النصوص عتبة طبعتها الأولى، كما حصل بعضها على جوائز للإبداع الروائي، من قبيل: "جائزة المغرب للكتاب"، و"جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب"، و"جائزة دار الحرف للنشر"، و"جائزة الشارقة للإبداع الأدبي"، وغيرها. كذلك هو الشأن بالنسبة لروايات مغربية جديدة، ظهرت مع بداية الألفية الثالثة، مكتوبة ببعض اللغات الأجنبية، كالفرنسية والإسبانية والهولندية.

أما على مستوى قاعدة النشر، فيحسب لبعض نصوص العقد الأول من الألفية الجديدة، انتشارها خارجيا، من خلال كونها حظيت بفرص نشرها خارج دور النشر المغربية، في دور نشر عربية شهيرة وكبيرة، كـ "سلسلة روايات الهلال" بالقاهرة، و"دائرة الإعلام والثقافة" بالشارقة، و"دار الآداب" ببيروت، و"دار أزمنة" بالأردن، وغيرها، وهو ما ساهم أيضًا في توسيع دائرة انتشارها وتلقيها عربيًا.

وبالإمكان تحديد أهم خصائص الكتابة الروائية ومكوناتها، لدى الأصوات الروائية الجديدة التي ظهرت في المغرب، مع بداية الألفية الثالثة، في اهتمامها اللافت أساسًا بشعرنة لغة الكتابة، وفي انشغالها المتزايد باستيحاء المكون التاريخي والسيرذاتي والعجائبي والأسطوري، وبتذويت الكتابة والسرد، بموازاة مع حرصها المتزايد على تضمين المرجع السيرذاتي في المحكي الروائي، وانفتاحها على ثيمات وقضايا متنوعة، وعلى فضاءات داخلية وخارجية، على حد سواء، على المدينة والقرية والصحراء والفضاءات المنجمية وأوروبا والأطراف الهامشية والبحر...

كما سعت نصوص بداية الألفية الجديدة، إلى تنويع المغايرات الروائية والانفتاح عليها بكثافة، وبشكل ملحوظ ولافت، كما هو الحال بالنسبة لتوظيفها لمجموعة من المغايرات الروائية المهيمنة، من قبيل: رواية السيرة الذاتية، الرواية السجنية، الرواية العمالية، رواية الهجرة، رواية الصحراء، الرواية النسائية، رواية القرية، رواية المدينة، الرواية السياسية، الرواية الشطارية، وغيرها، في مواكبة هذه المغايرات الروائية لبعض القضايا الذاتية والاجتماعية والسياسية والدينية، كقضايا البطالة والمرأة والتطرف والإرهاب والهجرة السرية والاغتراب والاعتقال السياسي والاغتصاب.

من اليمين (الصف الأول): جلول قاسمي، جمال بوطيب، زهرة رميج (الصف الثاني): عبد العزيز الراشدي، عبد الله الطايع، عثمان أشقرا



وفي مستوى آخر، يسجل لروايات بداية الألفية الثالثة أنها رفعت من إيقاع الجرأة والبوح في السرد، وخصوصًا في تعبيرها عن الحالات الشعورية والنفسية والإنسانية، وفي تصويرها لعديد المواقف والأوضاع والمشاهد الروائية، فيما سعت نصوص روائية أخرى إلى مواصلة الكتابة في موضوعات كلاسيكية، وبمنظورات مختلفة، من قبيل الكتابة عن: الذات، الجنس، الجسد، الحب، الضياع، الهوية، الاغتراب، التلاقح بين الشرق والغرب، إلى جانب اهتمامها بصوغ سؤال الكتابة فيها، سواء من خلال محاورة الكتابة لذاتها من الداخل، أو من خلال محاورتها لبعض المرجعيات الروائية الكلاسيكية الكبرى، كما جسدتها بعض التجارب الروائية، وهي لكل من: نجيب محفوظ، والطيب صالح، وإميل زولا، والتيار الروائي الأمريكولاتيني، بموازاة مع اهتمام تلك النصوص الروائية الجديدة بتجريب أشكال روائية مختلفة، فضلًا عن حرصها المتزايد على إقامة علائق جدلية وحوارية مع عدد من الفنون والأجناس والسجلات الأدبية والتعبيرية، المكتوبة والمرئية والمسموعة والشفوية، بشكل جعل نصوص بداية الألفية الجديدة الروائية تتغذى تخييليًا من حياة نصوص وأشكال وثقافات ومعارف وتقنيات عديدة.

بهذا المعنى، يصبح من الصعوبة الحديث عن قطيعة "معرفية" أو "سردية"، بتعبير الناقد المصري صبري حافظ، بين نصوص هذه الأصوات الروائية الجديدة وروايات الأجيال السابقة، ولا عن جماليات سردية لافتة تميزها عن غيرها من النصوص الروائية، بقدر ما يمكن الحديث، في المقابل، عن خاصية "الامتداد" في الكتابة الروائية بالمغرب، من خلال امتداد نصوص روائية جديدة فيما سبقها من نصوص الأجيال السابقة وفي غيرها من نصوص التجارب الروائية العربية والعالمية. من هنا، علينا أن نتلقى هذه النصوص الروائية الجديدة في امتداداتها الزمنية والتخييلية، خاصة وأن هذه الأصوات الروائية الجديدة لم يسبق لها أن عبرت، بشكل صريح ومباشر، وفي أي وقت كان، عن أي خلفية إبداعية تبرر ظهورها وسياقه وجدواه، ولا عن أي تصورات جمالية أو نظرية توجهها، وتؤطّر مفهومها للكتابة الروائية وطبيعة رؤيتها إلى العالم، فضلًا عن أنها لم تصدر عنها، وقت ظهورها، أي بيانات أدبية، تكشف فيها عن مواقفها تجاه ما هو سائد من تقاليد إبداعية روائية، كما رسخها من سبقهم من الروائيين، وهو ما سيصعب معه اليوم اعتبار هذه الأصوات الروائية الجديدة، كما ظهرت مع بداية الألفية الجديدة، ظاهرة أدبية، أو موجة روائيًا، أو تيارًا إبداعيًا.

ومع هذه الأصوات الروائية الجديدة التي تكتب الرواية في المغرب باللغة العربية، نشير إلى ظهور أصوات روائية جديدة أخرى، تكتب الرواية بالفرنسية والإسبانية والهولندية، في تفاوت أعمار هؤلاء الروائيين والروائيات، هم أيضًا؛ إذ يوجد بينهم من بدأ كتابة الرواية في سن متأخرة (محمد لفتاح وسعاد بهشار وسعيد الجديدي)، وكلهم باشروا إثراء المشهد الروائي المغربي العام بنصوصهم الروائية، وجلها مكتوب باللغة الفرنسية تحديدًا: رجاء بنشمسي، بثينة عزامي الطويل، عبد الله الطايع، ياسمين الشامي الكتاني، ثورية أولهري، سهام بنشقرون، وسواهم. وقد جاءت نصوصهم الروائية الأولى مطبوعة، كما هو الحال بالنسبة للنصوص الروائية المكتوبة بالعربية، بحس جمالي لافت، عدا ما تكشف عنه هذه النصوص من أسئلة مغايرة، وما تلامسه من قضايا وثيمات، تتمحور أساسًا حول الذات والهوية الفردية والجنس والسياسة والذاكرة والتمزق والمثلية الجنسية والرغبة في التحرر.

وبالعودة إلى التراكم الروائي الذي حققته هذه الأصوات الروائية الجديدة، يمكن أن نزعم بأن الطابع الغالب على موضوعات نصوصها الروائية الأولى، يندرج بشكل عام في صلب قضايا المجتمع المغربي، بما شهده من تحولات بنيوية وسلوكية مؤثرة، ساهم في تحريكها بروز أشكال جديدة للتطرف الاقتصادي والديني، وتفشي الفساد والنهب والرشوة والقهر الاجتماعي، وانهيار القيم، وتزايد الشعور بالإحباط لدى فئة الشباب، وتفاقم البطالة لدى قاعدة عريضة من خريجي الجامعات والمعاهد، وتنامي وهم الحلم بالفردوس الإسباني المفقود.

من اليمين (الصف الأول): ياسمين الشامي الكتاني، كمال الخمليشي، مصطفى الغتيري (الصف الثاني): رجاء بنشمسي، سهام بنشقرون، نور الدين محقق 


هكذا، ساهمت مختلف التحولات الطارئة التي عرفها المجتمع المغربي، مع بداية الألفية الثالثة، في توليد أسئلة مقلقة لدى روائيات وروائيي هذه المرحلة، لها علاقة بقضايا وثيمات متشابكة فيما بينها ومهيمنة في روايات بداية الألفية الجديدة، عدا عن أنها تشكل حلقة وصل بين عدد من نصوص هذه الأصوات الروائية الجديدة، وتتمحور حول قضايا وأسئلة متنوعة ومتفاوتة من نص لآخر، وهي حول: الذات والهوية والآخر والبطالة والهجرة وحقوق الإنسان والإرهاب والاغتراب والعزلة والاعتقال السياسي والقهر الاجتماعي والنفسي والجنس والحب والجسد والذاكرة وتغير القيم والتحرر وسؤال الكتابة والمدينة والقرية، وذلك بشكل يضفي على مجموعة من نصوص العقد الأول من الألفية الثالثة نكهة إبداعية خاصة، بعد أن تزايد الاهتمام بهذه الثيمات وبغيرها، بمثل تزايد الاهتمام برصد الأحداث الصغيرة والهامشية، والتفاصيل الفردية والنفسية، وإعادة ترتيب العلاقات في المجتمع، وغيرها من الأسئلة والانشغالات والقضايا الموازية، تلك التي طفت مجددًا على سطح التفكير الروائي لدى هذه الأصوات الروائية الجديدة، فشكلت هاجسًا مهيمنًا لديها، إثر التبدلات المتسارعة التي طالت مجتمعاتنا العربية بشكل عام.

هذا كله يدفعنا إلى القول بأن هذه التجربة الروائية الجديدة قد تأثرت، إلى حد ما، بأشكال الحياة الجديدة في المجتمعات التي ترصدها، في المغرب وفي بلاد المهجر، بما في ذلك ملاحقتها لمختلف التغيرات التي أصابت مجتمعاتنا العربية خصوصًا، سواء في طرائق تفكيرها، أو في تفسخ قيمها، أو في تفشي ظواهرها الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو أيضًا في متغيراتها المعرفية والتقنية والاستهلاكية، وهو ما مكن مجموعة من نصوص هذه الأصوات الروائية الجديدة من النفاذ، بشكل أو بآخر، إلى مناطق جديدة والتحاور معها، بما هي مناطق لم تكن مطروقة ومستوحاة بهذا الشكل الجديد الذي تفاعلت معه نصوص هذا الجيل الجديد من الروائيين، وخصوصًا لدى فئة الشباب منهم.

على هذا النحو، إذن، يكشف لنا المتن الروائي الجديد في المغرب، في نصوصه الجيدة والمنتشرة، عن جانب لافت من الثراء التخييلي والتعبيري الذي يميزها، على مستوى مجموعة من الخصائص الكتابية، كما تضمنتها نصوص مجموعة من الأصوات الروائية الجديدة في المغرب وفي بلاد المهجر، وأيضًا على مستوى بعض مكونات محكياتها وأسئلتها وقضاياها، كما تمثلتها تلك النصوص واستثمرتها، بأشكال ومستويات تعبيرية متنوعة، ولو في تباين حضورها وتوظيفها من نص لآخر، وإن كانت بعض تلك النصوص الروائية تلتقي أحيانًا عند استعادتها لبعض الثيمات والعناصر الحكائية، ولو في مكرورية طرحها من نص لآخر، كتوتر العلاقة بين المرأة والرجل، وفشل تجارب الحب والجنس أو توقفها، أمام تسارع إيقاع الحياة وتعقدها... ويتم توظيف ذلك واستثماره روائيًا، انطلاقًا من موهبة وامتلاء روائي لافت لدى بعض هذه الأصوات الروائية الجديدة، ومن حس وعمق جمالي مكثف ومتطور في نصوصها الروائية، وقد اخترقت دائرة المراكز لتحتفي بالهوامش وبتفاصيل اليومي والشخوص.

ومن بين أهم الخصائص المميزة أيضًا لبعض نصوص هذه الأصوات الروائية الجديدة، نشير إلى اهتمامها المتزايد باستعادة مكون الحكاية لروحها، ولحضورها التخييلي، ولثيماتها وأشكالها المختلفة، في تعدد أبعادها وتجلياتها، وفي تنوع دلالاتها وأساليب التعبير عنها، وفي دقة تفاصيلها وتشابك صورها وتقنياتها، وفي امتداد نفسها الروائي، دون أن تتأثر هذه الأصوات الروائية الجديدة بمسألة قصر النفس السردي، الذي يؤطر الكتابة القصصية، كما مارسها بعض هؤلاء الكتاب، قبل أن يجذبهم سحر الرواية ويقعوا في غوايتها. ولا غرابة في ذلك، ما دام أن مجموعة من هذه النصوص الروائية الجديدة، وقد بدت اليوم متجاوزة لهشاشة التجربة التي تطبع نصوصا روائية أخرى محايثة لها، كان بعضها في العمق يحاور مرجعيات روائية "كلاسيكية" مؤثرة، في بعدها التداولي الكوني، وأيضًا في امتداد تأثيرها في الأجيال المتعاقبة من كتاب الرواية، هنا أو هناك، ما يجعل منها اليوم نصوصًا مفتوحة على دهشة العالم، مواكبة لتحولاته المتسارعة.