Print
فخري صالح

فيصل درّاج.. المثقف الفلسطيني العربي التنويري الشكّاك والمقاتل

4 يناير 2022
آراء

تكريمًا للدكتور فيصل درّاج صدر مؤخرًا عن الدار الأهلية للنشر في عمان كتاب "حارس الحكايات" أعده د. عيسى برهومة وعامر سلمان أبو محارب. ويضم الكتاب التكريمي شهادات ودراسات ومراجعات لكتب درّاج وأفكاره وإسهاماته في النقد والفكر ونظرية الرواية. وقد شارك في هذا العمل نخبة من الباحثين والنقاد والكتاب العرب، من أصدقاء الناقد والمثقف الفلسطيني الكبير، وأقرانه ومجايليه. ومن بين المشاركين: فهمي جدعان، وإبراهيم عبد المجيد، وشيرين أبو النجا، وواسيني الأعرج، وهدى بركات، وأمين الزاوي، ومحسن جاسم الموسوي، وصبري حافظ، والمنصف الوهايبي، وطالب الرفاعي، ومحمد عبيد الله، وغسان عبد الخالق، وشكري الماضي، ونضال الشمالي، وإبراهيم السعافين، وإدريس الخضراوي، ورامي أبو شهاب.

 

فيما يلي شهادتي حول إسهامات درّاج النقدية والنظرية والفكرية، وصداقتي معه:

ينتمي فيصل درّاج إلى جيل سابق لجيلي في الثقافة الفلسطينية والعربية، فهو من ذلك الجيل الذي ولد في فلسطين واضطر أهله إلى اللجوء بعد نكبة 1948، والعيش في بلد عربي آخر غير فلسطين. لقد تفتَّح وعيه على فاجعة الرحيل والتشرُّد، والعيش في المخيَّم، الذي أصرَّ على سكناه طوال وجوده في سورية. لكنه، مثل عديدين من أبناء جيله الفلسطيني، استطاع أن يصنع من هذه التجربة المرَّة سيرة ثقافية مديدة أسهمت في تطور الثقافتين الفلسطينية والعربية في آن، من خلال الانتساب إلى ثقافة عربية تنويرية، حداثية، تسعى إلى التغلُّب على هزيمتين مدويتين، هما نكبة 1948 وهزيمة 1967. ويستقر هذا الطموح لإشاعة روح تنويرية نهضوية تقدمية في أساس مشروعه الثقافي والنقدي والفكري، الذي يقيم تواصلًا حميميًّا ونقديًّا، في الآن نفسه، مع الثقافة الإنسانية وتيارات الفلسفة والفكر والنقد في الغرب. إنه يقيم في ذلك الحد الفاصل بين الثقافتين العربية والغربية، متخذًا مسافةً من التنوير الأوروبي، الذي ينضح بوجوه متعددة من المركزية الغربية، لكنه، في الوقت نفسه، يدرك ما للتنوير الأوروبي من أثر عميق في فكر آبائه من النهضويين العرب، وعلى رأسهم طه حسين في النقد والفكر والإبداع، ونجيب محفوظ في عالم الرواية والتفكُّر بالمعضلات الكبرى للعرب المعاصرين من خلال الأشكال السردية والمتخيَّل الروائي.





التقيت فيصل درّاج لأول مرة في بيروت في بدايات عام 1981، على ما أذكر، وقد كان العدد الأول من مجلة "الكرمل"، التي يترأس تحريرها الصديق الراحل والشاعر الخالد محمود درويش، قد صدر، مدشنًا مشروعًا مفتوحًا على الثقافة الإنسانية، كما على الأسئلة الحائرة التي كانت الثقافة الفلسطينية تطرحها على نفسها، وهي تحسُّ دبيب الزلزال الذي سيصيب الفلسطينيين في صيف عام 1982 عندما اجتاحت إسرائيل بيروت واضطرت منظمة التحرير إلى الرحيل، وبدء فصل جديد من اللجوء والتشرد، وطرح السؤال القديم المتجدد: وماذا بعد؟ في تلك المرحلة المتوترة، وقبل الاجتياح والرحيل، تعرَّفت على فيصل الذي كان ناشطًا في حياة بيروت الثقافية، يسهم في الكتابة في مجلاتها، بدءًا من "شؤون فلسطينية"، و"الآداب"، وأخيرًا مجلة "الكرمل" الطموحة، التي كان فيصل حاضرًا على صفحاتها بصورة دائمة وبارزة، يجادل في الشأنين الثقافي الفلسطيني والعربي، وكذلك في النقد والنظرية والرواية والفكر، في مرحلة بيروت، كما في مرحلتي قبرص ورام الله. ويبدو لي أن المحفِّز الأساسي لتلك الصداقة - التي نشأت بيني وبينه، بدءًا من لقائنا الأول، ومن ثمَّ في سنوات تالية، في دمشق والقاهرة، ومؤتمرات ثقافية عديدة في عواصم عربية وعالمية، وصولًا إلى مرحلة استقراره للعيش في عمان - هو الشعور بوجود انشغالات وقناعات مشتركة في النقد والفكر والثقافة، والرغبة في الاستفادة من المنجز النظري للنقد الغربي لتطوير النقد العربي، الذي شعر أبناء جيل فيصل، وكذلك جيلي الطالع بعدهم، أنه واقعٌ في أسر الانطباعية من جهة، والتفسير الميكانيكي للمتمركسين العرب، من جهة أخرى. وقد وقعتُ في بداية تعرُّفي على درّاج على ترجمته لمقالة باليبار وماشريه "الأدب كشكل أيديولوجي"، التي نشرها في مجلة "شؤون فلسطينية" في العدد 81/82 عام 1978، وقد كان درويش رئيسًا لتحريرها في ذلك الوقت. كانت تلك المقالة نوعًا من الاكتشاف المبهر بالنسبة لي، إذ فتحت لي آفاقًا في التصور النقدي لم أعاينها من قبل، لكونها تقطع مع التوجهين السائدين في الكتابة النقدية العربية خلال ستينيات القرن العشرين، التي تربَّيتُ على منجزها في ذلك الوقت؛ أي الانطباعية المُفقرة، والتحليل والتأويل الميكانيكيان لنظرية الانعكاس الماركسية. قلت لنفسي: ها أنا أعثر على نقد وفكر نظري مختلف بدأه الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير وواصله في مجال الأدب تلميذاه باليبار وماشريه، من بين عديدين في الثقافة الفرنسية، نهلَ منهم فيصل أثناء دراسته للفلسفة في فرنسا، وبعد عودته إلى العالم العربي. وقد تسببت تلك المقالة القصيرة، وتعليقات فيصل عليها، بنوع من الإزاحة في تفكيري بالشكل الأدبي، ومثَّلت نقضًا للجدل العقيم حول علاقة الشكل بالمحتوى التي شغلت الكثيرين من النقاد العرب في عقدي الخمسينيات والستينيات، وبعض السبعينيات كذلك. ويمكن القول إن عثوري على مقالة باليبار وماشريه هو الذي وجهني فيما بعد إلى الاهتمام بالناقد البريطاني تيري إيجلتون، الذي استفاد كثيرًا من تنظيرات ماشريه حول الشكل الأيديولوجي ومفهوم الإنتاج الأدبي، ودفعني إلى ترجمة كتاب إيجلتون المركزي "النقد والأيديولوجية" (1976)؛ وقد صدرت تلك الترجمة في طبعتها الأولى عام 1992. ما أقصد قوله هو أن قراءتي لكتابات فيصل وترجماته القليلة، إلى جانب آخرين من نقاد جيله، فتحت لي أفقًا على النظرية الأدبية ما بعد الماركسية، والبنيوية التكوينية، التي أثَّرت في عملي النقدي فيما بعد، ووجَّهت بعضًا من اختياراتي في الترجمة. وقد تحولت الصداقة، بهذا المعنى، إلى نوع من التراسل النقدي والفكري والنظري، الذي سينتج عنه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين الكثير من الجدل حول النقد والنظرية، بتأثير الاطلاع المباشر، أو عبر الترجمة، لتطوير الأفق النقدي العربي، وإيجاد بعض الحلول لعلاقة النص الأدبي بالنقد والنظرية، في مرحلة بدت واعدةً في النقد العربي المعاصر. ولا شكَّ في أن دور فيصل بارزٌ وواضحٌ في جدل النقد والنظرية في الثقافة العربية، بدءًا من نهاية سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى اللحظة الراهنة.   

      

انطلاقًا من هذا الدور المتواصل لفيصل درّاج في تطوير النقد والفكر في حقول متعددة في الفكر والممارسة النقدية والثقافية، فإن جهود الصديق الناقد والمفكر الفلسطيني العربي الكبير تستحق الاهتمام والالتفات والقراءة المتفحصة. لقد رهن عمره كله للنقد والفكر، رافضًا العمل في المؤسسة الأكاديمية، مولِّيًا ظهره لأي موقع أو منصب، لأن حلمه الأساسي كان، وما زال، الكتابة ومحاولة تأويل العالم من خلال التفكُّر النقدي بالأدب والسياسة والمجتمع. وأظن أن مثال فيصل في العالم العربي عزيزٌ ونادر، لأن غالبية النقاد العرب يعملون في الجامعة، ولا أعرف غير فيصل شخصًا آخر، يحمل درجة أكاديمية عالية، رهن حياته للكتابة، مغامرًا باستقرار العيش وثباته في عالم عربي لا يُقدِّر الفكر والنقد أو يوليهما اهتمامًا حقيقيًا. فهو قامةٌ عالية من قامات النقد العربي التي لم تسعَ إلى الكسب والتربُّح من الكتابة والعمل الثقافي، ولم تهتم إلا بتطوير معرفتها الفكرية والنقدية، متشككةً في كل حين بما تحصَّل لديها من معرفة. ويمكن لمن يقارن كتابات فيصل الأولى بكتاباته الأخيرة أن يعثر على هذه الروح النقدية الشكَّاكة، غير المستقرة، الباحثة عن مصادر معرفية متجددة لقراءة النصوص والواقع. وقد دفعته شكوكيتُه، وشغفُه بالمعرفة، وبكل جديد في الفكر والثقافة، إلى الانفتاح على قوس واسع من المعارف والمنهجيات، لا يستقر على واحدة من هذه المنهجيات، باحثًا عن مقترحات جديدة للقراءة العالمة، وتفحُّص حقول الإبداع المتعددة، وفهم الممارستين السياسية والاجتماعية في العالم العربي.





إن مساهمة فيصل درّاج في الثقافة العربية تتسم بالشمول والامتداد، فهو لم يحشر نفسه في حقل بعينه من حقول النقد والفكر، وآمن بتواصل الحقول والمعارف الإنسانية، وتداخلها، وتراسلها، وقدرة كل منها على إخصاب الآخر، وتوسيع آفاق البحث والفهم. لهذا السبب تتعدد مرجعيَّاته الفكرية والنقدية، بدءًا من كارل ماركس، مرورًا بجورج لوكاش ولوسيان غولدمان وبيير بورديو وبيير ماشريه وميخائيل باختين، ما يجعل عمله متصلًا بالكشوفات الفلسفية والنقدية الجديدة على الدوام.

إن صلة فيصل الحميميَّة بفكر الغرب ونظريته النقدية هي رافدٌ من روافد ثقافته، وليست الجزء المفصليَّ المؤثر فيها، وليس هو مسحورًا مستلبًا لكل ما ينجزه الغربيون من نقد وفكر ونظرية. فهو، من جانب آخر، مهتمٌّ اهتمامًا شديدًا بفكر النهضة والتنوير العربيين، مشغولٌ بفهم الأسباب التي جعلت الأفكار والطموحات، التي حلم النهضويون العرب الأوائل بإنجازها، تفشل في التحقق بعد ما يزيد على قرن ونصف قرن من نهضة عربية مجهضة. كما أنه مسحورٌ بطه حسين، وفكره، وأسلوبه، بحيث إنه لا يملُّ من كتابة الدراسة تلو الدراسة عن ذلك المثقف التنويري المصري العربي الكبير الذي ينبغي أن نتذكَّره في كل حين، لأنه سأل منذ حوالي القرن الأسئلة التي نسألها الآن ولم نعثر لها بعد على أجوبة. ولعل ولعه بهذه القامة الثقافية العربية السامقة نابعٌ من راهنيَّة طه حسين وطاقة نصه المتجددة الفياضة، وأسلوبه الساحر العذب الذي يجعل اللغة مرآة صافية للفكر.

ينطلق فيصل من ميراث فكر النهضة، فاحصًا هذه النهضة، ومنجزاتها على صعيد الإبداع، شعرا ورواية ومسرحًا ونقدًا وفكرًا ممتدًا إلى هذه اللحظة، من خلال الاستعانة بالمنهجيات الفكرية والنقدية الآتية من جهات عديدة من العالم، ولكنها تصبُّ في النهاية في فكر الغرب ومعرفته. وهو لا يتعامل مع هذه المعرفة كصنم يتعبَّد له، كما يفعل بعض أقرانه من النقاد والمثقفين العرب، بل إنه يُعمِل فيها روحَه النقدية وشكَّه العتيدَ المتواصل. نعثر على ذلك في كتاباته عن الرواية، وفي تفكُّراته حول الفكر العربي المعاصر، وفي دراساته ومقالاته التي تغطي حقول الفكر والإبداع والسياسة.